لا يحتاج الإعلام الغربي في تغطية الحروب الإسرائيلية إلى ذريعة ليبرّر للاحتلال جرائمه، فهو يتبنّى، بالأصل، السردية الإسرائيلية كاملةً وينطلق من مبدأ أن كلّ ما حدث (وما يمكن أن يحدث) يصبّ في “حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها وعن وجودها”. وكلّما زادت وحشية الاحتلال في ارتكاباته كلّما بحث الإعلام الداعم عن أساليب للتعتيم عليها أو لتبريرها بطريقة فجّة تعلن انحيازها للقاتل. ففي عزّ إبادة أهل غزة 2023-2024 تحوّلت معظم المنابر الإعلامية الدولية ذات الانتشار الواسع إلى ماكينات بروباغندا تدافع عن مرتكبي الإبادة وتجيّش الرأي العام العالمي لصالح إسرائيل. “هي ليست إبادة متعمّدة، بل ردّة فعل دفاعيّة تجاه من اعتدى على أمن اسرائيل وهدّد أمان شعبها”، تلك هي الرسالة التي بنيت عليها معظم تغطيات وتحليلات الصحافيين الغربيين لما يجري في غزة منذ عام.
هو النهج الإعلامي الدولي الذي اعتُمد منذ تأسيس الكيان والذي محا من مخيّلة جمهوره الطرف الآخر الفلسطيني أرضًا وشعبًا وتاريخًا، ورسّخ في أذهان أجيال من المتلقّين فكرة أنّ إسرائيل دولة عادية وليست احتلالًا استعماريًا، وبالتالي أنّ دفاعها عن نفسها مبرّر وأنّ أيّ عمل عدائي تجاهها (مقاومتها) هو إرهاب.
من الأدوات الثابتة التي يعتمدها الإعلام الغربي في دفاعه عن سياسات الاحتلال، تحويل إسرائيل إلى ضحية. قبل 7 أكتوبر 2023 كانت صورة الضحية تقوم على تقديم إسرائيل على أنّها دولة مسالمة متطوّرة ديمقراطية وسط محيط معادٍ لها داخل فلسطين وخارجها. هي الضحية الجميلة التي يريد الجميع أذيّتها.
بعد 7 أكتوبر، بات لفكرة “الضحية” أشكال ملموسة: محتفلون أبرياء في حفل موسيقي، مستوطنون مسالمون في منازلهم، جنود يؤدّون واجبهم في الدفاع عن بلدهم، أسرى مخطوفون من قبل “إرهابيين”… ومع فتح جبهة إسناد غزة من لبنان وتعرّض المستوطنات الشمالية للقصف، أُضيفت إلى لائحة الضحايا صورة “المهجّرين من الشمال”. وبعد اشتداد العدوان على لبنان في الأسابيع الأخيرة “اضطرّ” الإعلام الدولي إلى تسليط الضوء على المهجّرين في البلد، مع الحفاظ على خطّ تحريري دفاعي عن إسرائيل رغم الصبغة “الإنسانية” التي ادّعتها بعض التقارير. انقسم مشهد تغطية التهجير هذا في الإعلام الغربي بين مقالات تحاول جاهدة إنتاج مادّة استعطافية دراماتيكية حول “مآسي” الفارّين من الشمال وتقارير باردة ومحرّضة في بعض الأحيان عن اللبنانيين الذين يعيشون ظروف تهجير قاسية. أما اللغة التحريرية المشتركة فتعتمد مصطلحات تحجّم العدوان الإسرائيلي الشامل على لبنان وتحوّله، كما تسمّيه السلطات الإسرائيلية، “حرب إسرائيل على حزب الله” و”ضرب إسرائيل لأهداف لحزب الله”… أما قتل المدنيين من خلال قصفهم مباشرة وتدمير قرى بأكملها بفعل أحزمة النار الإسرائيلية والتهجير الكارثي للسكان فتصبح كلّها أضرارًا جانبية للحرب الدائرة.
“لماذا يكرهوننا؟”
قد يلخّص مقالان لصحيفة “ذي غارديان” البريطانية و”لو موند” الفرنسية أداء الإعلام الغربي تجاه موضوع تهجير أكثر من 60 ألفًا من سكّان مستوطنات الشمال بعد تعرّضها للقصف من قبل حزب الله. تحت عنوان “الإسرائيليون تحت نيران حزب الله: هذه البلدة كانت آمنة، كلّ شيء تغيّر”، تنقل “ذي غارديان” أجواء سكّان إحدى المستوطنات التي تتعرّض للقصف. في اللغة أوّلًا، تستخدم الصحيفة عبارة “إسرائيل تضرب أهدافًا في لبنان” بينما “تتعرّض المستوطنات لهجمات صاروخية من الجهة المقابلة” في إشارة تحريرية إلى دقّة إسرائيل في استهدافاتها مقابل عشوائية هجمات حزب الله الصاروخيّة التي تطال المدنيين الإسرائيليين.
يروي المقال في محاولة دراماتيكية أولى على لسان أحد المستوطنين كيف “تمكّن خلال ثلاث ثوانٍ من نقل عائلته إلى الغرفة الآمنة المحصّنة الموجودة في معظم المنازل الإسرائيلية”، ويقول: “لو سقط الصاروخ أبعد بثلاثة أمتار فقط عن مكان وقوعه لكان دمّر منزلي”. المستوطن وعائلته بخير إذًا واحتموا كما الكثيرون في الغرف الآمنة المحصّنة، والهجمة الصاروخية موضوع التغطية أدّت إلى سقوط صاروخ واحد لم تعترضه القبّة الحديدية، جرح ثلاثة أشخاص وأحرق بعض السيارات المركونة في الشارع. لكن المقال يتابع في محاولة دراماتيكية ثانية وينقل عن جَدٍّ “مكث لساعات في الغرفة الآمنة مع أفراد عائلته” قوله، إنّ حفيدته سألته “لماذا يكرهوننا؟ ماذا فعلنا لهم؟ كم إله يوجد في السماء؟”، قبل أن يردف الجدّ الستّيني “اللبنانيون هم أبناء عمّنا، هكذا جاء في الكتاب المقدّس”. تجول الصحيفة أيضًا على مستشفى في حيفا حوّلت مرآب سيارات تحت الأرض غرفًا للعمليات وتقديم الإسعافات، وبدت المستشفى في الصور هادئة محصّنة ومجهّزة بكافة المعدّات اللازمة. تتكرّر في المقال محاولات تضخيم كلّ تفاصيل الحدث وتصوير الجرحى المسنّين في المستشفى لاستثارة العواطف ثم يضيف المقال واصفًا شوارع حيفا كيف بدت مهجورة والشاطئ خاليًا من روّاده بعدما أُقفل بأمر من الجيش… محاولات مبتذلة لإضفاء إطار تراجيدي على تهجير المستوطنين الذين تأمّنت لهم كافّة الظروف للانتقال الآمن إلى أماكن أخرى، تأتي بعد أن شاهد العالم مباشرة على الهواء قصف إسرائيل لأحياء غزة ومستشفياتها وغرق شاطئها في دماء أهلها وأطفالها وقصف القرى والبلدات اللبنانية وقتل سكانها ومسعفيها باستهدافات مباشرة.
محاولة كاريكاتورية أخرى قامت بها صحيفة “لو موند” الفرنسية إذ زار مراسلها “الفندق الفخم” الذي نُقل إليه المستوطنون من الشمال إلى القدس ومكثوا فيه منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 على نفقة السلطات الاسرائيلية. “قايضوا بلداتهم الصغيرة الخضراء على الحدود الشمالية بفندقٍ في المدينة. حلّ ضجيج مكيّفات الغرف مكان صوت حفيف الأشجار. الشعور بالأمان بدل تهديد صواريخ حزب الله”، هكذا يستهلّ مقال “لو موند” مقدّمته الإنشائية التي تهدف إلى استثارة مشاعر التعاطف مع المهجّرين من الشمال من خلال تبيان “فداحة” التغييرات التي طرأت على حياتهم ومآسي التهجير. يتابع المقال نقلًا عن موشيه، أحد المستوطنين/النزلاء المهجّرين، “شعرتُ بالذعر يوم 7 أكتوبر وتخيّلت أنّ حزب الله قد يفعل الأمر ذاته في الشمال، فجمعتُ أغراضي ورحلت”، يضيف موشيه المستوطن الذي يعيش في الفندق الفخم منذ نحو سنة على نفقة “دولته” أنّ “لا شيء يمكن أن يعوّض العيش في المنزل”. كما يكشف المقال بطريقة عابرة أنّ السلطات الإسرائيلية “زوّدت موشيه بالسلاح للدفاع عن نفسه وعن مجتمعه”، فتمرّ فكرة التسليح هذه كأنّها واجب طبيعيّ للمواطنين.
نزيلة مهجّرة أخرى عبّرت لـ “لو موند” عن “الملل” الذي تشعر به في الفندق إذ إنّ النشاطات التي تخصّصها بعض الجمعيات لهم، مثل الأشغال اليدوية، لا تثير اهتمامها، “بات من الصعب كسر الروتين اليومي” تشكي المهجّرة للصحيفة. أرفقت “لو موند” مقالها بصور لبعض المهجّرين في الفندق ولجأت من خلال زاوية العدسة وتكثيف الظلام في الصور إلى إضفاء أجواء مأساوية، لم يجدها القرّاء في مضمون المقال.
أضرار جانبية في لبنان
على الضفّة الأخرى، ومع اشتداد الحرب على لبنان واقتراب عدد المهجّرين من المليون، خصّص الإعلام الغربي تقارير حول الموضوع اتّسمت بالبرودة في التغطية واستعراض أحوال النازحين السيّئة وربطها فقط بافتقار لبنان للخدمات الإغاثية مع تلميح دائم بأنّ حزب الله هو السبب وراء فظاعة ظروف التهجير ومع الحفاظ على سردية أنّ “إسرائيل تقصف أهدافًا لحزب الله” ما يحوّل المدنيين إلى خسائر جانبية. يقولها صراحة تقرير قناة “سي إن إن” الأميركية: “لقد فرّ معظمهم من الضواحي الجنوبية المكتظة بالسكان، حيث أمطرت إسرائيل أهداف حزب الله بالقنابل. ولكن مثلما يحصل في كلّ حرب فإنّ الأبرياء هم من دفعوا الثمن الأغلى”، مقدّمة تقرير ذي صبغة “إنسانية” تلقي اللوم على “اكتظاظ الضاحية” إذ إنّ إسرائيل تقصف “أهدافًا لحزب الله” فقط، وتخلص إلى أنّ النتيجة الحتمية للحرب هي دفع الأبرياء الثمن.
تقارير أخرى لـ”هيئة الإذاعة البريطانية” (بي بي سي) اختارت أن تركّز على بعض التفاصيل دون غيرها كنقل “غضب” بعض النازحين من تحويل لبنان إلى غزّة ثانية وأنّهم لا يريدون خوض حرب “ليست حربهم” رغم تعاطفهم مع أهل غزة، “لكن ما ذنب أطفالنا؟”
تقرير آخر لـ”بي بي سي” حاول تسليط الضوء على انقسام الشارع اللبناني تجاه المهجّرين ونقل أحداث جرت في طرابلس وعين الرمانة من شأنها أن تقول إنّ هناك حساسية طائفية في المناطق السنّية والمسيحية والدرزية تجاه المهجّرين الشيعة. التقرير بدأ أصلًا بعرض خريطة لبنان الطائفية وانتقل بعدها إلى عرض مقتطفات مما نشر على مواقع التواصل الاجتماعي بكل ما تحمّل تلك المنشورات من عشوائية وتطرّف في الآراء، وبثت المضامين الفتنوية والانقسامية التي تضمّنتها تلك المنشورات ومعظمها من حسابات مجهولة الهوية. توقّف التقرير عند مدينة طرابلس تحديدًا حيث قال إنّ مشاهد استقبال أهل طرابلس للمهجّرين بحفاوة قابلتها مشاهد مغايرة وتوترات في أنحاء أخرى من المدينة. تقارير من هذا النوع تدفع إلى السؤال حول الهدف من اختيار زواياها خصوصًا أنّ لا مشاكل ضخمة حصلت على خلفيّة طائفيّة في المناطق العديدة التي استقبلت المهجّرين في لبنان حتى الآن، وكيف لقناة ذات انتشار واسع مثل “بي بي سي” أن تستسهلّ نقل منشورات عن “السوشيل ميديا” فيها عداء طائفي واضح ومن دون أي مسؤولية مهنية تجاه مضمون التقرير ومتلقّيه.
معظم التقارير حول موجة التهجير الضخمة، تضمّنت كلامًا للمهجّرين أنفسهم، بعضهم قال إنّه “واثق أنّ المقاومة تدافع عنه وعن الأرض وإنّ هناك ثمنًا علينا دفعه من أجل ذلك”، آخرون كثر قالوا للمراسلين إنّ “الضربات الإسرائيلية تستهدف الجميع ولا تفرّق بين المدنيين وحزب الله”، لكن المؤسّسات الإعلامية تفضّل عدم تصديق الناس أو التوقّف قليلًا عند ما يقولونه والاكتفاء بما تمليه عليهم ماكينة البروباغندا الإسرائيلية.