شكلت منذ عقود قضية نشر الأرقام والإحصائيات والنسب في ليبيا أمرا معقدا للغاية، تفاقم بسبب التشظي والانقسام الذي ما فتئت دائرته تتسع يوماً بعد يوم. فليبيا لم تكن يوما تتمتع بالشفافية فيما يتعلق بالأرقام. إذ وفي عهد نظام القذافي، لم يكن مسموحاً نشر إحصاءات حول المصابين ببعض الأمراض المعدية أو الخطيرة أو الإعلان عن عدد السجناء أو أرقام من غادر البلاد وطلب اللجوء في الخارج. وعلى مدار السنوات ورغم تعاقب الحكومات ظلّت مثل هذه المعلومات غير متداولة بحجج رسمية واهية من قبيل أنها تتعلق “بالأمن القومي” وتمسّ من “سيادة الدولة”. كان ذلك طبيعيا في ظل نظام استبدادي كان يتحكم في كل تفاصيل البلد وإخضاعه لسيطرته حتى لا يفقد زمام الأمور. لكن وبعد حدوث التغيير وسقوط القذافي في 2011 استمرت ذات السياسة. ووجدت المجموعات والكيانات الجديدة التي حكمت وتحكم البلد في حجب الأرقام وسيلة ناجعة تضمن وتحمي مصالحها وسياستها. فلا إحصائيات متوفرة غير بعض التقديرات التي يتم الإعلان عنها بين الفينة والأخرى حسب المزاج والمصلحة.
ومنذ ظهور حكومتين في الشرق والغرب، رفض كل المسؤولون والوزراء الالتزام بالإدلاء بأية تصريحات أو أرقام دقيقة حول أعداد المهاجرين والعمال الأجانب والسجناء في شتى مراكز الاحتجاز الرسمية التابعة لوزارة العدل. فعلى سبيل المثال، كان ملفتا خلال الإعداد لمنتدى الهجرة طرابلس الذي عقد في 17 يوليو من العام الجاري، وجود تضارب كبير في أرقام المهاجرين التي صرّح بها وزير داخلية طرابلس المكلف، السيد عماد الطرابلسي والتي تراوحت بين المليون والثلاثة ملايين. وقد اكتفى بالإعلان أنها أرقام تقديرية دون أن يوضح أسباب ذلك أو يفسر فشل السلطة في إيجاد آليات تمكنها من حصر أعدادهم. كما رفض اعتماد الأرقام المصرّح بها من قبل المنظمة الدولية للهجرة التي تحدثت عن 700 ألف مهاجر موجودين في ليبيا من 45 جنسية مختلفة. وفي ذات الوقت صرح وزير العمل السيد علي العابد التابع لحكومة طرابلس أن هناك مليونين ونصف مهاجر في ليبيا تم تعدادهم استنادا على عدة مؤسسات من بينها المنافذ البرية والجوية وجهاز الهجرة. غير أنه لم يتطرق إلى أعداد المهاجرين التي تخرج من البحر بشكل غير نظامي والتي تفوق في بعض الأشهر أعداد من يدخل لليبيا. كما أنه تجاهل الانقسام الموجود في البلد والذي يجعل من الحكومة التي ينتمي إليها لا تتحكم إلا في رقعة جغرافية بسيطة استثنى منها منطقتيْ الشرق والجنوب التي بحوزة وزير عمل حكومتها الموازية أرقام أخرى مختلفة.
أكثر من أربعة عقود ليبيا لم تعترف بوجود غير العرب فيها
منذ 1969، رفض نظام الحكم في ليبيا الاعتراف بالتنوّع العرقي في البلد. وكانت الرواية الرسمية تصرّ على وجود تجانس قوامه العرب والمسلمون وتمتنع عن الاعتراف بوجود أقليات إثنية أو دينية. وفي 2004 تمّ توجيه ملاحظات ختامية لليبيا من قبل لجنة القضاء على التمييز العنصري التابعة للأمم المتحدة في إطار التقارير الدورية أثناء جلستها المعقودة في مارس عام 2004. وقد وقفت اللجنة حينها على التضارب بين تقرير دولة ليبيا، الذي يصف المجتمع الليبيّ بالتجانس العرقيّ، والمعلومات التي بحوزتها والتي تشير إلى أن سكّاناً من الأمازيغ والطوارق والأفارقة السود يعيشون في البلد يعانون الحرمان من الولوج إلى حقوق كثيرة أهمها الحفاظ على هوياتهم واستعمال أسمائهم غير العربية والاعتراف الرسميّ بأعدادِهم. فعلى سبيل المثال، جرّم القانون الليبيّ لسنة 2002 استخدام الأسماء غير العربيّة وفرض على كلّ شخص أطلق على ابنه أو ابنته اسما غير عربي غرامة مالية تقدر ب 1000 دينار. كما منع استعمال لغات أجنبية في جميع المعاملات. وقد تضرّر من هذا القانون الكثير من غير العرب والأمازيغ والطوارق. كما عاش بعضهم في مدن سبها وأوباري عقودا من الزمن وهم محرومون من هوياتهم كما من حقّهم في الجنسية واستمر ذلك حتى اليوم من دون أن تفصح أيّ حكومة بشكل واضح عن عددهم أو عن أسباب حرمانهم من حقوقهم الأساسيّة وأهمها الجنسية والرقم الوطني[1].
أعداد المهاجرين رهينة المزاج السياسي خلال عقدين من الزمن
في عام 2006، أعلنت الحكومة الليبية أن عدد العاملين الأجانب المقيمين فيها بصورة “شرعية” يبلغ 600 ألف شخص، استنادا، على ما يبدو، إلى عدد المسجّلين رسميّاً لدى السلطات. كما قدرت في نفس السنة أنه يوجد في ليبيا ما يتراوح بين مليون و1.2 مليون مهاجر “غير شرعي” اعتمادا على أن عدد من يدخلون البلاد كل عام يتراوح بين 70 و100 ألف أجنبي بين مهاجرين “شرعيين” وغير نظاميين. جاء ذلك في تصريحات اللجنة الشعبية العامة رداً على تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش التي زارت ليبيا في إطار عملها حول ملف المهاجرين وطالبي اللجوء، وانتقدت افتقاد السلطات لنظام حقيقي يمكنها من حصر وتصنيف الأجانب فيها. وفي عام 2010 عندما جددت منظمات حقوقية إيطالية اتهامها لليبيا بانتهاكات ضد مهاجرين إريتريين كانوا تعرّضوا إلى معاملة سيئة في ليبيا، نفت وزارة الخارجية ذلك. وصرّحت أن أعداد المهاجرين في تزايد في السنوات الأخيرة وقد وصل إلى ثلاثة ملايين، معترفة في الآن نفسه بعجز السلطات الليبيّة عن مراقبة حدودها الشاسعة وعدم قدرتها تباعا على حصر من يدخل إلى ترابها. بيد أنها لم تتطرق إلى أعداد من يخرج عبر البحر عن طريق رحلات منظّمة ومحمية من قبلها.
واستمرّ الحال على ما هو عليه حتى بعد عام 2011 مع تولّي المجلس الانتقالي ثم المؤتمر الوطني فالبرلمان زمام الأمور. كلّهم واصلوا في إطلاق أرقام وتقديرات عشوائية حسب المزاج السياسي السائد بعلاقة برضاهم أو خلافهم مع الاتّحاد الأوروبي. ولم يتوانَ بعض المسؤولين في أحد التصريحات غير الرسمية عن الحديث عن وصول أعداد المهاجرين في ليبيا إلى 6 ملايين. والحال أن جميع المراكز الرسمية لاحتجاز المهاجرين في ليبيا لا توجد لديها أية بيانات توثّق أسماء وجنسيات المحتجزين لديها. والاستثناءات الوحيدة والقليلة تتمّ حين تقوم المنظمات الدولية بإجراءات ترحيل جزء منهم إما إلى بلدانهم الأصلية عبر الدولية للهجرة أو إلى بلد ثالث عبر مفوضية اللاجئين.
عدد السجناء في ليبيا حسب التقارير الحقوقية واللجنة الشعبية للعدل
بعد سقوط نظام الجماهيرية في 2011 وفتح أبواب السجون السرية منها والمعلنة على مصراعيها لعامة الناس، ظهرت حقائق كثيرة كانت غائبة عن الليبيين. فاكتشفوا مواقع لسجون شيّد بعضها في أماكن نائية والبعض الآخر في مزارع واستراحات وحتى في محالّ تجارية ومؤسسات تعليمية. وتمّ العثور على سجناء غيبوا لسنوات طويلة. وعلى الرغم من بعض التحسينات التي قام بها نظام القذافي في العقد الأخير من حكمة وإطلاق سراح بعض المساجين والتعويض، إلا أن الأمر كان حبيس مزاجه من دون أي احتكام للإجراءات القانونية، وهو الذي صرح سنة 2005، في حشد جماهيري بمدينة سرت “أن الغرب يتهمنا بأن لدينا سجناء سياسيين وأنا متأكد أن هذا اتهام ظالم”.
والى اليوم لا يعرف مصير مئات المفقودين في ليبيا خصوصا وأن نظام القذافي قد قام في ساعاته الأخير بتصفية سجناء ودفنهم في مقابر مجهولة. كما لا ننسى مجزرة أبو سليم التي يقدّر ضحاياها بالآلاف والتي لم يتم إلى حدّ الساعة القيام بتحقيقات جدية في شأنها ولا محاسبة عادلة لمرتكبيها. والأدهى من ذلك أن ليبيا ما زالت تعاني من غياب نظام إبلاغ عن المفقودين، إذ لا توجد حتى اليوم أيّة جهة رسمية تعمل على التقصي وحصر قائمات المفقودين والمغيبين. فبين سنوات 1969 الى 2011، لم يكن أهالي هؤلاء يتجرؤون عن الإبلاغ عنهم خوفا من بطش الأجهزة الأمنية، مكتفين بالاعتماد على بعض العلاقات الشخصية أو التسريبات والمساعدات من أفراد في الأمن تطمئنهم على ذويهم. واستمرّ الأمر حتى بعد عام 2011. واليوم لا يمكن لرئيس الحكومة في طرابلس ولا حتى وزير داخليته زيارة أغلب السجون والمعتقلات ومن ضمنها سجن “الردع” أحد أهم سجون غرب ليبيا. كما لا يمكن لهذا الأخير التجوّل وزيارة بعض المدن مثل مدينة مصراتة لتفقد أوضاع المحتجزين لأسباب باتت معروفة أهمها المحاصصة في تقسيم المناصب والتي شملت السجون والمعتقلات.
فاليوم هناك عائلات وجماعات بعينها تسيطر على السجون وتصرح عن عدد المحتجزين لديها وتدلي بقوائم من أفرجت عنهم ومن قررت الاحتفاظ بهم لأجل غير معلوم. كذلك الحال في الشرق الليبي الذي يعيش نظاما مشابها بالحكم الذاتي، لا يمكن وزارة العدل المعترف بها دولياً من زيارة أيّ من السجون الواقعة فيه ولا معرفة عدد من فيها.
لماذا تتعثر جهود ومحاولات حصر عدد المهاجرين؟
هناك أسباب عدة تفسر غياب الأرقام والإحصاءات حول العمال المهاجرين وطالبي اللجوء في ليبيا لعل أهمها يعود الى غياب حكومة موحّدة في البلاد تتمتّع بالسيطرة الحقيقيّة والكاملة على كل المنافذ برا، وجوا وبحرا في البلاد. فعلى سبيل المثال، تختلف اليوم تمامًا الإجراءات التي يتّخذها مطار بنغازي الجوّي في إدارة دخول العمال والأجانب لليبيا على تلك التي يتبعها مطار طرابلس الذي تسيطر عليه حكومة الوحدة الوطنية. إذ أنه يُسمح في الشرق لآلاف المهاجرين من سوريا وباكستان والهند والعراق بدخول شرق ليبيا بوثائق عمل وعقود أبرمتها معهم شركات وجهات عسكرية (أي ما يعرف بالاستثمار العسكري) ولا يتطلّب الأمر غير الحصول على موافقة أمنية. إلّا أن مثل هذه التراخيص غير معترف بها في الغرب الليبي. وعليه، تغيب أيّة مرجعيّة موحدة في إدارة المهاجرين قادرة على حصر عددهم في جزئيْ ليبيا.
السبب الثاني يعود بلا شك الى غياب أية سياسة وطنية منذ 2011 تعتمد على بناء مؤسسات شفافة في خدمة المواطنات والمواطنين يحكمها القانون وينظم صلاحياتها وأدوارها. فحتى تاريخ اليوم، يتواصل صراع الحكومات والأطراف السياسية على دستور في بلد يُدار منذ 14 عاما اعتمادا على مسودة دستور تتناحر الجهات التشريعيّة المسيّسة على تعديلها أو تغييرها بما يتوافق مع مصالحها مما نتج عنه استعادة ورسكلة المؤسسات القديمة وتطويعها لخدمة مصالح الحكام الجدد.
السبب الثالث يحيل إلى مصلحة بعض الأطراف الفاعلة في ملفّ الهجرة كوزارة الداخليّة وحرس الحدود في حجب المعطيات الموثقة والدقيقة حول هذا الموضوع. فللجميع مصلحة في مواصلة استغلال هذا الملفّ لأغراض سياسية من أجل نيل الدعم السياسي من القوى الأجنبية كإيطاليا. والبعض الآخر كحال المجموعات المسيطرة على مراكز اعتقال المهاجرين وطالبي اللجوء، يستفيد بشكل مباشر من الأموال التي يجنيها مقابل الإفراج عنهم. كما لم يعد هناك مجال للشك حول تواطؤ المسؤولين معهم. خصوصا مع انتشار ممارسات علنية في طلب الفدية واستفادة البعض من عقود الصيانة والإعاشة التي تتطلّبها هذه المراكز وتوفير الوجبات التي لا تغني من جوع كما عقود صيانة ودعم أماكن الاحتجاز هذه.
أما السبب الأخير فيعود إلى إجماع جميع الأطراف في ليبيا باختلاف مشاربهم في الشرق كما في الغرب على حجب حجم الاعتداءات والانتهاكات لحقوق الإنسان فيما يخص ملف المهاجرين وطالبي اللجوء. فعندما حاولت البعثات الدولية ومنها لجنة تقصي الحقائق وبعثة الأمم المتحدة زيارة السجون والمعتقلات، كانت الردود واحدة إما المنع أو عدم الاستجابة والاهتمام بالطلب. إذ أن بعثة تقصّي الحقائق المستقلة في ليبيا التي تم إنشاؤها بموجب قرار 43/39 لمدّة عام واحد ثم تمّ تمديد عملها، قوبل دوما طلبها بزيارة السجون والمعتقلات بالرفض من الجهتين في الشرق والغرب. الأمر نفسه واجهته بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا والتي حاولت من جهتها زيارة السجون ومراكز احتجاز المهاجرين في شرق ليبيا.
وعليه أصبح من الترف اليوم الحديث عن شفافية ملف المهاجرين والولوج الى أرقام الأحياء كما الأموات. فحتى أعداد قبور الأموات من المهاجرين أصبح التعرف عليها في غاية الصعوبة. فلا نعرف إلا تلك التي دفن فيها من عثر على جثامينهم في شواطئ البحر ولا معطيات عن أولئك الذين تمت تصفيتهم داخل مراكز الاحتجاز الرسمية وغير الرسمية.
[1] «أحلامنا لا تتعدى أسوار مدينتنا»: ليبيون بلا هوية ينازعون للحصول على حقوقهم المشروعة من دون استجابة
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.