العقبات الإدارية: دائما ما تم ترديد هذه الفكرة في عدد من الزيارات الرئاسية “التفقدية” لعدد من المنشآت والمؤسسات العمومية كشماعة رئيسية تُعلق عليها معظم أسباب التعثر والتعطيل. وعقب تركيز الدعاية الرسمية خلال الفترة الأخيرة على “الإقلاع الاقتصادي” المنشود، لم يكُن هناك بد من تعديل الأوتار على مستوى المنظومة القانونية التي لا طالما تمّ التحجج بأنّها من ضمن المكبلات، أو ربما المكبل الرئيسي الذي يعوق هذا الإقلاع المُفترض. ومن جملة الإجراءات التي تمّ إقرارها لتسريع نسق الإنجاز في المشاريع العمومية، قامت رئاسة الحكومة بإصدار المنشور عدد 27 المتعلق بالإجراءات الرامية للتسريع في إنجاز المشاريع ودفع الاستثمار، وهو منشور اعتمد على المرجعية القانونية لكل من المرسوم عدد 68 لسنة 2022 المؤرخ في 19 أكتوبر 2022 المتعلق بضبط أحكام خاصة بتحسين نجاعة إنجاز المشاريع العمومية والخاصة. وكذلك الأمر عدد 1039 لسنة 2014 المؤرخ في 13 مارس 2014 المتعلق بتنظيم الصفقات العمومية.
وبذلك يأتي هذا المنشور الجديد كتفسير للنصّين السابقين. غير أنه لم يكُن هذه المرة سوى رجع صدى لما تُفكر فيه الإدارة، على العكس من التوجّهات السابقة التي شهدت استشارات موسّعة مع كافة المتدخلين من القطاع الخاص والمجتمع المدني أثناء تنقيح النصوص المنظمة للصفقات العمومية. وهذا التوجه نحو الانفراد والانغلاق ما لبث أن أخذ منحى متزايدًا من خلال عدد من الخطوات المُشابهة، ويمكن أن نشير هنا على سبيل الذكر إلى قرار رئيس الحكومة المؤرخ في 25 نوفمبر 2024 المتعلق بالمصادقة على دليل الإجراءات الخاص بإنجاز المشاريع العمومية الكبرى، حيث لم يتم السماح بنشر هذا الدليل إلى حد الآن، في ضرب واضح لمبدأ الشفافية.
و بالعودة إلى المنشور عدد 27، لم يكن النص التمهيدي للإجراءات بعيدا طبعا عن الخطاب الرسمي حول مفهوم الإقلاع الاقتصادي. وقد حاول المنشور عموما التطرق إلى عدد من العقبات البيروقراطية ومعالجتها، وتنفيذ مخرجات المجلس الوزاري الذي انعقد في 29 أكتوبر الماضي. ولئن كان المنشور حاملا في بعض الزوايا لإجراءات جديدة، فإن عديد النقاط ضمنه تحتوي على إشكاليات تقنية خطيرة، تمس بشكل جوهري من احترام مبادئ الشفافية والنزاهة والمنافسة والرقابة.
منظومة قانونية غير مستقرة
من أهم الإشكاليات التي طالت موضوع الصفقات العمومية من الناحية القانونية هي تشتّت النصوص وتداخلها قبل صدور الأمر عدد عدد 1039 لسنة 2014 المؤرخ في 13 مارس 2014 المتعلق بتنظيم الصفقات العمومية. وحتى هذا النصّ الأخير، الذي أتى لتوحيد شتات النصوص والمناشير، لم يلبث أن وقع في الأزمة القانونية ذاتها، حيث أنّ المناشير التفسيرية للأمر المذكور قد ساهمت بدورها في طرح جملة من التعقيدات الإضافية. لذا شرعت الحكومة في إعداد نصوص منقحة للأمر عدد 1039، غير أن المصادقة عليها قد تعطلت هي الأخرى. وبالتالي أصبح الأمر مُثيرا لإشكاليات واقعية من زاوية تشتت النصوص وتداخلها وتعدد الهياكل المكلفة بالمتابعة، كما أشار إلى ذلك تقرير تقييم إبرام الصفقات العمومية الصادر عن البنك الدولي. وعندما أتى المنشور الحكومي الأخير لتوضيح بعض النقاط ضمنه، نجد أنه قد ساهم في المزيد من اضطراب المنظومة القانونية المتعلقة بالصفقات العمومية عبر إضافة بعض التعديلات الأخرى التي ترتقي لأن تكون تعديلات جوهرية للأمر المذكور. أي أن المنشور قد تخطى البعد التفسيري الذي من المفترض أن يكون الهدف الأصلي من إصدار المناشير.
وقبل الحديث عن الإشكاليات، ينبغي التنويه بأن المنشور يحتوي كذلك على بعض النقاط الإيجابية، ومن بينها خصوصا الإجراءات العاجلة المتعلقة بتخفيف الأعباء على أصحاب الصفقات العمومية، على غرار إبرام ملحق للتمديد في الآجال التعاقدية بما يحول دون احتساب تأخير في التنفيذ والخطايا المُنجرة عن ذلك، والتمكين من تطبيق قاعدة مراجعة الأثمان، ومواصلة تنفيذ المشروع ضمن المشاريع المعطلة المندرجة في القائمة التي تعدها اللجنة العليا لتسريع إنجاز المشاريع العمومية، والتخلي عن غرامات التأخير المستوجبة على الصفقات العمومية في مجال البناء والأشغال العمومية صفقات التزود بمواد وتجهيزات وخدمات تم التصريح في شأنها بالتسليم الوقتي بين تاريخ 1 جانفي 2022 و31 ديسمبر 2025 . فضلا عن اعتبار التخلي عن غرامات التأخير على معنى الفصل 15 من المرسوم عدد 68 لسنة 2022 ليشمل صفقات الأشغال إلى جانب صفقات التزود بمواد وخدمات صفقات الدراسات. ومجمل هذه الإجراءات يحاول إحداث توازن بين أطراف الصفقات العمومية (أي المُشتري العمومي والمشاركين في الصفقات العمومية)، خصوصا وأن فلسفة منظومة الصفقات العمومية كانت مرتكزة سابقا على تحصين المشتري العمومي.
غير أن ما تحمله بعض هذه الإجراءات الجديدة من إيجابيات لا يُخفي ما يتضمنه بعضها الآخر من أوجه المساس بمبادئ الحوكمة. حيث نجد أن المنشور في مجال المراجعة الاستثنائية، يخصّ وزارة التجهيز والإسكان بضبط قواعد مراجعة الأثمان بالتنسيق مع كافة الهياكل المهنية بصفقات الأشغال، في حين كان ينبغي استشارة وتشريك المجلس الوطني للطلب العمومي على سبيل المثال، وهو هيكل استشاري يضم شخصيات من القطاع العام والخاص وفيه تمثيلية للمحكمة الإدارية وعن المنظمات المهنية المعنية وعن القطاع الخاص والمجتمع المدني والأكاديميين. خاصة وأن من بين مهام هذا المجلس سلطة اقتراح التدابير التي تهدفُ إلى تحسين الحوكمة في الصفقات العمومية، ومن بينها ما يتعلق بالإجراءات وطرق وتقنيات الإبرام والتنفيذ والمراقبة والتقييم.
وفي جانب آخر، يُركز المنشور على مبدأ الفاعلية والنجاعة على حساب بعض المبادئ الأخرى المهمة في تنفيذ الصفقات العمومية، ومنها أساسا مبدأ مراعاة التنمية المستدامة، حيث نجد أن المنشور ينص على “الإذن بمراجعة إجراءات المصادقة على دراسة التأثيرات على المحيط لارتباط تعطل العديد من المشاريع بطول إجراءات وآجال المصادقة عليها” وفي عنصر أكثر خطورة ينص على “تسوية وضعية المشاريع المقامة دون الحصول على المصادقة المسبقة من قبل الوكالة الوطنية لحماية المحيط المُتعلقة بدراسة المؤثرات على المحيط وذلك باعتماد دراسة إزالة التلوث أو كراس الشروط البيئي كبديل لها بصفة استثنائية إلى موفى سنة 2025”. في حين أن المحددات البيئية من بين العناصر الهامة، سواء في عملية اختيار وضبط موضوع الصفقة أو في انتقاء المؤسسات المكلفة بالمشروع وشروط إسناد الصفقة وتنفيذها، من خلال رصد مدى تأثير المشروع على البيئة واستهلاك الطاقة ومدى احترام الجوانب البيئية في طريقة إنجاز المشروع. ويأتي هذا التراجع في وقت تركز فيه عديد التجارب المقارنة في مادة الصفقات العمومية حول دعم الإعتبارات الإيكولوجية وإدراج شروط للمسؤولية المجتمعية وتبني فكرة التنمية المستدامة. بل يُعتبر الإجراء الذي اقترحه المنشور تراجعا حتى عن محتوى الأمر المنظم للصفقات العمومية، وبالتحديد الفصل 19 منه الذي ينص على أن “تتضمن شروط تنفيذ الصفقة قدر الإمكان جوانب ذات صبغة اجتماعية وبيئية تأخذ بعين الاعتبار أهداف التنمية المستدامة”.
منشور لا يُلبي متطلبات الحوكمة ومكافحة الفساد في الصفقات العمومية
بقدر تركيز المنشور على عُنصر النجاعة والفاعلية، فإنه لم يولي انتباها كافيا لضمان عديد المبادئ الضرورية المُساهمة في دفع نسق الاستثمار. ومن بين هذه المبادئ تطوير الوسائل الاتصالية والتصرف الإلكتروني في الصفقات العمومية. حيث لم يقع التنصيص مثلا على تطوير البنية التحتية المُلائمة للدفع الإلكتروني والتسوية المالية للصفقات وتحديث المنظومة الإلكترونية للصفقات العمومية TUNEPS التي بُعثت في جانفي 2013، وهذا العنصر ذو أهمية رئيسية في تطوير منظومة الصفقات وتسريع التعهد بالإنجاز ضمن الآجال. وفضلا عن ذلك فإن إرساء النظام اللامادي للتصرف في الصفقات العمومية يُمكن من إحداث مناعة إضافية لمنظومة الصفقات العمومية، خصوصا في الجانب الرقابي منها. ولكن عوض تعزيز الجانب الرقابي، نجد أن بعض النصوص الحالية ومن بينها أساسا الأمر عدد 497 لسنة 2024 الصادر بالرائد الرسمي عدد 130 لسنة 2024[1]، ينص على أن الصفقات المتعلقة بالمشاريع العمومية الكبرى ذات الطابع الاستراتيجي والمشاريع العمومية الكبرى المعطلة التي يمكن أن تُبرم بناء على اقتراح من الهيكل العمومي وفق التفاوض المباشر أو الاستشارة أو التفاوض المباشر المسبوق بانتقاء أولي ، تُعفى من اعتماد الإجراءات الإلكترونية عبر منظومة الشراءات العمومية على الخط TUNEPS ومن الرقابة المسبقة للجان مراقبة الصفقات العمومية. ويُعد هذا اللجوء إلى الإجراءات غير التنافسية، سواء لدواعي فنية أو سيادية من أخطر التهديدات لطرق المنافسة المبدئية بل ولمبدأ المنافسة في حد ذاته.
فضلا عن ذلك، لم يخصص المنشور حيزا لتناول أحد المبادئ الهامة في مجال مكافحة الفساد في الصفقات العمومية وهو مبدأ المسؤولية والمسائلة وخصوصا لدى المشتري العمومي. إذ كان من الممكن تقديم إجراءات لتحديد المسؤوليات بشكل دقيق حول تأخر إنجاز المشاريع وتوثيق الأعمال المنجزة والتفويض واحترام منظومات المراقبة والتدقيق الداخلية والخارجية. وتُعد المُراقبة عموما من بين أهم نقاط ضعف هذا المنشور، وكان من الأجدر إيلاء دور أكبر للهيئة العليا للطلب العمومي التي من بين مهامها إعداد تقارير رقابية حول كافة الملاحظات والإشكاليات والإخلالات التي تُثيرها الملفات وإجراء رقابة على ملفات الصفقات خلال مختلف مراحل إبرامها وتنفيذها بالنسبة إلى الملفات الخارجة عن حدود اختصاص اللجنة العليا لمراقبة وتدقيق الصفقات.
وعلى مستوى مبدأ النزاهة، لم يتطرق المنشور إلى ما يسمى ب”القوانين الناعمة” أي الممارسات الجيدة المتممة لما ينص عليه القانون مثل مدونات السلوك ومواثيق النزاهة التي تلعب دورا هاما في ضبط العلاقات بين الفاعلين في ميدان الصفقات العمومية، من خلال توفير إطار لتنظيم الخلافات والوفاقات بدون تدخل قانوني مباشر.
وبالرغم من أن هدف المنشور المعلن هو ضمان النجاعة والكفاءة فإنه تغاضى بشكل كبير عن أحد الأشكال الناجعة للتصرف، وهي التصرف التشاركي في التسيير والإدارة والتصرف والمراقبة. خصوصا وأن الحوكمة الحديثة تقوم على بناء مناخ من الثقة في بيئة الأعمال بين المشتري العمومي وبقية المتدخلين كأحد أهم الأبواب لمكافحة الفساد ومحاربته. وقد ظهر جزء من هذا التمشي سابقا في بعض فصول الأمر عدد 1039 لسنة 2014 المتعلق بتنظيم الصفقات العمومية، ومن ذلك تركيبة المجلس الوطني للصفقات العمومية التي تضم شخصيات من القطاعين العام والخاص. وقد كان من الأجدر توسيع هذا التمشي والتأسيس عليه، من خلال توسيع تمثيلية القطاع الخاص والمجتمع المدني في لجان الصفقات العمومية وهيئات حوكمتها على غرار لجان تقييم العروض والفرق المتوجهة لمعاينة التنفيذ ومدى الالتزام بمقاييس إنجاز الصفقة وكراسات الشروط[2]. وعليه فإن المنشور لا يُعتبر فقط تراجعا عن جزء من مكاسب الأمر الترتيبي، بل يعزز بشكل كبير من دور الإدارة، ويبتعد بشكل كبير عن روح التدبير التشاركي الذي ينبغي ترسيخه بشكل أكبر في مجال الصفقات العمومية. أما من ناحية الأثر الفعلي فيبقى السؤال مطروحا هنا عن مدى جدوى الإجراءات المضمنة في نص المنشور وانعكاسها على مدى التقدم في إنجاز المشاريع، خصوصا مع غياب مقاربة متكاملة لمعالجة أسباب تعطيل هذه المشاريع، كالمشاكل المالية للدولة والمشاكل العقارية وضعف إعداد الدراسات الأولية وما طرحته من مشاكل لاحقا أثناء الإنجاز على غرار ما حصل في إعادة تهيئة ملعب المنزه.
[1] http://www.iort.gov.tn/WD120AWP/WD120Awp.exe/CTX_9544-80-BuixTtaSLH/RechercheTexte/SYNC_-835757525
[2] نزار البركوتي، مكافحة الفساد في الصفقات العمومية، مجمع الأطرش، تونس، الطبعة الثانية 2024