قبل أيام قليلة من تاريخ الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في 06 أكتوبر المقبل، بقيَت المناظرة الرئاسية محل “كسوف إعلامي”، فلا انجلى يقين إجرائها أو تأكّد نبأ حجبها -بشكل رسمي واضح- خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أهمية إعداد كل مترشح (نظريا) استراتيجية اتّصالية وإعلامية تَستهدف الجمهور الانتخابي؛ سواء الجمهور المناصِر له، أو العمل على جَذب مناصرين جدد وتشجيع المتَردّدين في القرار الانتخابي، أو التّوجه إلى من يُعرَفون في التقليد الانتخابي بالمتأرجِحِين.
وتزداد أهميّة إزالة الغَشاوة عن المناظرات الرئاسية إذا عرفنا أنها تُعدّ من الأسلحة الإعلامية الاستراتيجية التي يَعتمدها المترشّح ومُعسكرهِ عند اللفّة الأخيرة من الحملة الانتخابية للتأثير وقلب التوجهات العامة في اللحظة الصّفر من العدّ التنازلي قبل توجّه الناخبين إلى الصندوق. هذا بالإضافة إلى قُدرة المناظرات على جَلب ملايين المشاهدين وتحريك الجدل المجتمعي في الفضاءين الإعلامي والعام.
في هذا السّياق من المهمّ بعض التفكيك الإجرائي والتقني لمعرفة ما يُحيط بالمناظرات الرئاسية الحالية؛ إذ أنّها تَجمَع طرفين أساسيين في العملية، هما هيئة الانتخابات والإعلام العمومي السمعي والبصري، وبالأخص مؤسسة التلفزة التونسية، مَا يستدعي تنسيقا مُسبقًا واجتماعات دورية تحضيرية للوصول إلى إعداد خارطة طريق مضمونية وتقنية ولوجيستية لتأمين المناظرة وتفصيل كل نقاطها بما فيها الطارئة. والهيئة العليا المستقلة للانتخابات باعتبارها حَكَم اللعبة الانتخابية باتَت تتحوّز على “الولاية الكاملة” على كل المسار الانتخابي بما فيه الإعلام، وذلك منذ استفتاء 25 جويلية 2022 حول الدستور الذي سار بـ”رأسين توجيهيين” على المستوى الإعلامي، حيث أصدرت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري قرارا توجيهيا للتغطية الإعلامية ردّت عليه هيئة الانتخابات سريعا بقرار ترتيبي، ثم دخلا في نزاع قضائي إداري بعد أن كانت قواعد اللعبة الانتخابية بمساريها القانوني والإعلامي تسير وفق القانون الانتخابي لسنة 2014 والمرسوم عدد 116 .
المشهد الحالي مختلف عن سابقه في الانتخابات الرئاسية المبكرة للعام 2019، حين كانت هيئة الانتخابات هي حَكَم الصندوق مقابل الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري كحكَم اللعبة السمعية والبصرية عبر قرار مشترك يَصدر بينهما قبل كل استحقاق انتخابي مهم، أما الآن نحن إزاء انتخابات بِحَكَم واحد مقابل نوع من “الفراغ التعديلي” الواضح مؤسساتيا بعد سياسة القتل البطيء للهايكا، مما أدى إلى وجود “سلطة ضبط” تُمثّلها هيئة الانتخابات بدَل سلطة تعديل بالمفهوم الاصطلاحي الدقيق.
من يحدّد قواعد اللعبة التناظرية؟
إذا عدنا إلى دليل وسائل الإعلام في الفترة والحملة الانتخابية الذي نشرته هيئة الانتخابات، في نُقطته السابعة المتعلقة بحضور المترشحين في وسائل الإعلام وما تلتَزِم به هذه الوسائل، سنجد صريح النص الآتي: “يُمكن للهيئة العليا المستقلة للانتخابات تنظيم مناظرات بين المرشحين للانتخابات بالتنسيق مع وسائل الإعلام العمومية. ويُمكن لوسائل الإعلام السمعية والبصرية الخاصة بث هذه المناظرات بعد التنسيق مع الهيئة ومؤسّستي الإذاعة والتلفزة التونسيتين. وتتولى الهيئة ضبط قواعد إجراءات المشاركة في هذه المناظرات صلب مذكرة تفصيلية تصدَر للغرض قبل انطلاق الحملة الانتخابية”. سنَقف جيّدا عند هذا النص المُسَيَّج لنستنتج دون عناء كبير أن:
-كل ما يتّصل بالمناظرة الرئاسية ويدور حولها هو بيد هيئة الانتخابات.
-الهيئة هي من يمتلك إمكانية تنظيم المناظرات، فالأمر متروك لفرضية وليس لفِعل مؤكد ومُلزِم.
-وسائل الإعلام العمومية أعطاها النص “صلاحية” التنسيق الذي ستقوم به الهيئة معها بعد أن كانت تتحكّم في مقود المبادرة مع الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري.
ويتّخذ المعنى التنسيقي هنا كل ما يتعلق بالجوانب التقنية والصحفية والمضمونية: إعداد الاستوديوهات، زوايا التصوير، الإضاءة، الصوت، الديكور، الغرافيك والشارة والبث، مَحاوِر المناظرة، تحديد الأسئلة والوقت المخوّل للإجابة، حالات الرّد أو التعقيب، دليل سير المناظرة على المستويات الإنتاجيّة والإخراجيّة والجماليّة، التوقيت العام للمناظرة، إلخ. ويتّصل أيضا بالجوانب اللوجيستية والإجرائية والتنظيمية مع المترشحين أو من يُمَثلهم: بروتوكول التناظر، القرعة، أماكن الوقوف أو الجلوس، تَمثّل بعض الأمور الطارئة، التعرّف على المُحَاوِرِين كنوع من الأريحية قبل الدخول في التناظر، التدوين في السّجل الذهبي للمؤسسة، فرضية تصريحات وكواليس صحفية للمترشحين قبل الدخول الرسمي في المناظرة، إلخ. فضلا عن الجوانب القانونية التي أصبحت تعُود حصرا إلى هيئة الانتخابات وكل شيء تقريبا يتم بحضور هيئة الانتخابات وتحت إشرافها وأنظارها ورقابتها -دوما- كمسؤول أوّل عن المناظرات وصاحب الولاية العامة في كل مسارها.
وسائل الإعلام العمومية وتحديدا التلفزة والإذاعة التونسيتان يُمكنهما التنسيق مع بقية وسائل الإعلام السمعية والبصرية لأجل البث فقط، أو بعبارة أخرى هما وسيطا بث متزامن في كل وسائل الإعلام العامة والخاصة لأجل خلق دائرة جماهيرية أوسع، ومشاهدة أو سماع المناظرة الرئاسية في كل ركن من أركان البلاد.
أما النقطة الجوهرية والتي “قَيّدَت” بها الهيئة نفسها في هذا الدليل فهو واجب إصدارها مذكرة تفصيلية أو وثيقة ترتيبية تفسيرية تحت سقف زمني محدّد قبل انطلاق الحملة الانتخابية لبسط قواعد وإجراءات المشاركة في هذه المناظرات، وهو ما لم تقُم به الهيئة، لذلك من المنطقي استنتاج عدم وجود نيّة أو قرار تنظيم مناظرات رئاسية بعد تجاوز الآجال الزمنية المحددة مسبقا. وهذا القرار صرَّحَ به بشكل شبه ضمني المتحدث باسم هيئة الانتخابات محمد التليلي المنصري في حوار أجراه في برنامج “ميدي شو” بإذاعة موزاييك الخاصة بتاريخ 20 سبتمبر الجاري، عندما قال “من الوارد جدّا عدم إجراء مُناظَرة تلفزية بين المترشحين في الوقت الحالي” مع رمي الكُرَة في مرمى وسائل الإعلام العمومية حين تابع موضحا أن هذه المناظرات هي من اختصاص هذه الوسائل و”تستوجب بالضرورة توجيه دعوة من الإعلام العمومي إلى هيئة الانتخابات للإشراف عليها، بالإضافة إلى موافقة المترشحين على الحضور”. واستنادا على كلامه يمكن أن نفهم أن:
-وسائل الإعلام العمومية لم تُوجّه دعوة إلى هيئة الانتخابات للإشراف على هذه المناظرات إلى حين تجاوز الآجال المحددة ترتيبيا ولازمت الصمت التام تجاه المسألة. .
-الطرفان نظريا (هيئة الانتخابات ومؤسسات الإعلام العمومي) بَقيَا في وضعية مراقبة للسّاحة التنافسية الانتخابية وانتظار “إعلان نوايا” من المترشح المنتهية ولايته قيس سعيد أو من فريق حملته للمشاركة في هذه المناظرة بعد أن دعاه منافِسَاه زهير المغزاوي والعياشي الزمال بشكل واضح في بيانات وتصريحات صحفية إلى إجراء المناظرة التلفزية رغم العَقبة القانونية المحيطة بالثاني.
وتذهب الوقائع والتصريحات منذ الفترة الانتخابية إلى أن المناظرات الرئاسية بقيت “لغمًا إعلاميا وانتخابيا” إلى حين نشر هيئة الانتخابات صورا ونصًّا مقتضبا بتاريخ 17 سبتمبر 2024 حول إشراف نائب الرئيس محمد نوفل الفريخة بمقر التلفزة التونسية على القرعة الخاصة بترتيب تسجيل حصص التعبير المباشر وبث لقاءات خاصة بالمترشحين الثلاثة للانتخابات الرئاسية 2024 من دون الحديث من قريب أو من بعيد عن أي فرضية تتعلق بهذه المناظرة، رغم أنها تعدّ حزاما معنويا للمترشحين وقيمة اتصالية مضافة للأشكال الإعلامية الكلاسيكية المتعارف عليها؛ ومنها إلقاء كلمة مسجلة إلى جمهور الناخبين والمشاركة في حوار تلفزي فردي وخاص يعتمد القالب الجامد بسؤال وجواب لعرض البضاعة الانتخابية. والتعاطي السلبي مع المناظرة يُحيل إلى الأدوار المطلوبة من المرفق العام، خصوصا في مثل هذه المحطات المفصلية من التاريخ السياسي للبلاد.
الإعلام العمومي: السابق والآني
يُمكن القول إن الإعلام العمومي أسّس “لفقه إعلامي” مُستحدث يتعلّق بالمناظرات الرئاسية والتشريعية، بعد أن نجحَ بشكل لافت في تنظيمها في الانتخابات الرئاسية المبكرة للعام 2019 وفي الانتخابات التشريعية التي نُظّمَت بشكل منفصل إثر تغيّر الرزنامة الانتخابية بسبب وفاة رئيس الجمهورية السابق محمد الباجي قائد السبسي، وهو ما مَكّنَ من بناء إرث تراكمي سمعي وبصري بتقديم أغورا لتنازع الأفكار وتَطارح المشاريع وعرض المواقف وإثبات وجهات النظر وتأثيث مساحة جماهيرية أقبل عليها ملايين المتابعين كنوع من الإرشاد الانتخابي والمفاضلة بين المترشحين.
ودَخلَ معنى المناظرات الرئاسية المعجم السياسي والانتخابي والإعلامي التونسي منذ الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية التونسية للعام 2014 حين رفضَ الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي بشكل صريح في تصريح له على قناة فرانس 24 دعوَة خصمه في الدور الثاني محمد المنصف المرزوقي إلى مناظرة تلفزية بدعوى أنها “نْطِيح كْبَاش” وفق اللهجة المحلية التونسية، أو ما يمكن وصفه بحلبة التناطح.
وقد “استبطن” العقل الإعلامي التونسي -ومنه مؤسسة التلفزة التونسية- منذ ذلك الوقت من العام 2014 معنى إجراء انتخابات تحت سقف المناظرات إلى حين توفر كل الفرص في العام 2019 لتنفيذها على أشواط بالنظر إلى عدد المترشحين (26) والدورات (دورتين) لتكون نقطة تحوّل في المشهد الانتخابي الإقليمي والعربي كشرط لا مجال للإفلات منه، ومن خلال منبر أسئلتها -في مناسبتين- فاز رئيس الجمهورية المنتهية ولايته والمترشح لهذه الانتخابات قيس سعيد بانتخابات 2019.
وبالعودة إلى الدساتير المهنية لمؤسسات الإعلام العمومي المتمثلة في السياسة التحريرية والأخلاقية المحبرة في مدونات السلوك نجد مثلا في النقطة الأولى من الميثاق التحريري لمؤسسة التلفزة التونسية المنشور في العام 2014، وفي التوطئة ما يلي: “مؤسسة التلفزة التونسية مرفق عمومي يتمتع بالاستقلالية، هدفه تقديم مادة شاملة، تُلبي حق المواطن في إعلام حر ونزيه وشفاف، مُلتَزم بأخلاقيات المهنة ومعاييرها”.
ويُكرّس خصوصا في نقطته الثانية مفهوم المصلحة العامة ك”أهم خدمة تلتزم مؤسسة التلفزة التونسية بتقديمها للجمهور، كما تعمَل بوصفها مرفقا عموميا على توفير إعلام ملتزم بالمعايير المهنية يوازن بين الحرية والمسؤولية، ويُعبّر عن مشاغل المواطن وتطلعاته، وينقل واقعه بكل أمانة، ويُوفّر له المعلومة، ويكرس حقه في معرفة الحقائق التي تهمّه” وهي فقرة تُحيل بشكل ضمني إلى واجب محمول على هذا الإعلام باستخدام جملة أجناس صحفية استثنائية ومنها هذه المناظرات، لا كتحريك للعاطفة السياسية والغرائز الحزبية والانتمائية بقدر ما هي مجهود صحفي خاضع إلى أرضية مهنية وأخلاقية لتوسيع الوعي الانتخابي وعقلنة النقاش العام في الانتخابات.
إن المناظرات تاريخيا وإعلاميا ليست سياسية فقط بل ثقافية وأدبية ودينية وشعرية وفكرية، لكنّها في السباقات الانتخابية تُعطي “مذاقا” خاصا للجدل العام في الأيام الأخيرة من الحملات الانتخابية، وقد أصبحت -منطقيا- في المشهد الانتخابي الحالي ورقة ملغاة في الصندوق الإعلامي.