ما إنْ بدأت الآلة الإسرائيلية تعبث بأجساد أطفال غزّة وسط التهديد بتحويلها إلى ركام، حتّى باتت غزّة في مقدّمة أولويات عملنا. وقد تعزّز توجّهنا هذا على ضوء تماهي دول الشمال السياسي، وبشكل خاص الولايات المتّحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، مع الحرب التي أعلنتها إسرائيل ضدّ غزّة (والتي سرعان ما اتّخذت شكل الإبادة) تحت شعار حقّها المطلق في الدفاع عن النفس، من دون أيّ اعتبار لعقود من الاحتلال والتطهير العرقي والاستيطان والفصل العنصري والحصار المتواصل. وما فاقم من انحياز هذه الدول إلى إسرائيل هو أنّ سلطاتها السياسية ذهبت إلى حدّ تجريم (أو على الأقلّ إدانة) التعاطف مع ضحايا الإبادة أو الاعتراض عليها، فضلًا عن حجبٍ منتظم للتاريخ والحقيقة بحجّة “أنّ لا شيء يبرّر ما فعلته حماس”. كما عمدَتْ في الاتّجاه نفسه إلى تهميش وتحجيم دور المؤسّسات التي من شأنها عقلنة الديمقراطية والحؤول دون تحوّلها إلى أنظمة شعبوية غوغائية، وفي مقدّمتها الأكاديميا والمنظّمات الحقوقية والقضاء. فكأنّما تأييد الإبادة تحوّل، بالرغم من خطورتِه، إلى مسلّمة ليس لأحد المنازعة بها، وكأنما مقبولية انتهاك القانون الدولي لا يمكن أن تتمّ من دون لجم الحرِّيات العامة، بما يهدّد القانون الدولي الإنساني وأسس حقوق الإنسان.
وعليه، فهِمْنا أنّنا بتْنا أمام ردّة تدميرية بالغة الخطورة تتجاوز حدود حرب غزّة المكانية والزمانية لتشمل مرتكزات القانون الدولي والنظام الديمقراطي، وأنّ التعديل الطارئ في أولوياتنا وطرق عملنا ومقارباتنا، والذي فرضته حرب غزّة، لن ينتهيَ معها، إنّما هو تعديل بنيوي محدِّد لما ستكون عليه “المفكّرة القانونية” ما بعد غزّة.
هذا التعديل يذهب في اتّجاهات ثلاثة نراها متكاملة:
الاتّجاه الأوّل، تعزيز العمل على تعرية عوامل الهيمنة الدولية:
يكمن أوّل الاتّجاهات الملحّة في تعزيز عمل “المفكّرة” ليشمل تعرية عوامل الهيمنة في العلاقات الدولية، وبخاصّة العلاقات بين الشمال السياسي والجنوب، ووسائلها. وفيما كانت قسوة العلاقات الدولية، وبخاصّة في فلسطين، حاضرة دائمًا في فكر “المفكّرة”، فإنّ التحدّي الأكبر هنا هو إمكانية توفير طاقات متخصّصة للقيام بذلك، من دون إهمال عوامل هيمنة الأنظمة الوطنية ووسائلها، والتي تبقى ملحّة أكثر من أيّ وقت مضى في ظلّ استمرار تنكيل هذه الأنظمة بحرِّية شعوبها وبحقوقهم.
ومن المهمّ هنا التذكير بأمرَين: الأوّل، أنّ الهيمنة الداخلية والهيمنة الدولية غالبًا ما تنبعان من المنابع نفسها، ممّا يجعلهما متكاملتَين، تغذّي كلّ منهما الأخرى، بخلاف الخطاب الرسمي الذي غالبًا ما يصوّر التفرّد بالسلطة بمثابة ضرورة للحفاظ على السيادة في مواجهة الهيمنة الخارجية. الثاني، أنّ هيمنة الأنظمة الوطنية غالبًا ما تشكّل تهديدًا لسيادة الدول التي تحكمها، ولقدراتها، بفعل تبديد ثرواتها وعجزها عن صناعة مشاريع وطنية وإرادات عامة جامعة.
الاتّجاه الثاني: فكّ الارتباط بين القانون الدولي الإنساني والديمقراطية ودول الشمال السياسي
ترتفع أصوات، وبخاصّة في المنطقة، تتحدّث عن سقوط القانون الدولي الإنساني انطلاقًا من مواقف دول الشمال السياسي من حرب غزّة. تجد هذه الأصوات ما يبرّرها في الهيمنة التي مارستها هذه الدول بفعل نفوذها عند وضع النصوص التأسيسية للأمم المتّحدة ومواثيقها، فضلًا عن ادّعائها المتواصل لأبوّتها لمنظومة حقوق الإنسان، أبوّة بدت وكأنّها في صدد إنكارها تمامًا عشيّة حرب غزّة. كما تجد ما يبرّرها في تحكّم هذه الدول في مدى نفاذ المواثيق الدولية والمؤسَّسات المخوَّلة بذلك. وهذا ما نستشفّه بشكل خاص من حماسة المحكمة الدولية الجزائيّة للتحرّك ضدّ روسيا في حرب أوكرانيا مقابل تقاعسها عن اتّخاذ أيّ قرار ضدّ إسرائيل في غزّة. يُضاف إلى ذلك حقّ الفيتو الذي لا تجد الولايات المتّحدة الأميركية حرجًا في استخدامه في مجلس الأمن مرّة وتكرارًا اعتراضًا على وقف حرب تحوّلت بداهة إلى إبادة جماعية.
ومع تفهّم هذه المبرّرات كافّة، يبقى أنّ القانون الدولي الإنساني، كما المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ما تزال تشكّل، بمعزل عن مدى الالتزام بها، سلاحًا في أيادي المقهورين، شعوبًا كانوا أو أفرادًا، فضلًا عمّا يمثّله من أمل لبناء سلام عالمي مستدام وعادل. وليس أدلّ على ذلك من استخدام القانون الدولي بصورة مكثّفة ومُنتظمة لمحاججة إسرائيل وداعميها ونقض مشروعية عدوانها على غزّة. بمعنى أنّ انتهاك هذا القانون وتجريده من قوّته التنفيذية، لا يؤشّر بالضرورة إلى سقوطه، إنّما، وقبل كلّ شيء، إلى سقوط الدول التي انتهكته. أمّا أن نسلّم بسقوط القانون الدولي فهو بمثابة قفزة في المجهول (أقلّه في ظلّ الصراع المفتوح بين الحضارات من دون أيّ هدف مشترك) وتصفير لمجمل الجهود التي بُذلت على مدى عقود وأجيال للوصول إلى ما وصلنا إليه، والأهمّ تقويض حظوظ العالم في مواجهة التحدّيات العالمية التي تهدّد كوكب الأرض برمّته.
من هنا، وبدلًا من الانغماس في سلبية نعي القانون الدولي، ترى “المفكّرة”، على خلاف ذلك، ضرورة التمسُّك بشرعيّته، على أن يتمّ ذلك من دون أوهام بشأن هناته وأن يترافق مع بذل جهود كبرى لتجاوز هذه الهنات وإعادة بناء الثقة بالأمل الذي يمثّله. ومن المهمّ هنا التركيز على مسارَين اثنَين: الأوّل، فكّ ارتباط هذا القانون بدول الشمال السياسي، فلا يسقط بجريرة سقوطها ولا يربط مصيره بموقفها منه. وهذا الأمر لا يشكّل مصلحة عالمية وحسب، إنّما هو ترميم للحقيقة التي تتمثّل في إسهام جميع الحضارات، ومنها الحضارة الإسلامية، في تطوّر القانون الإنساني وقوانين الحروب. والثاني، العمل الجادّ من أجل بناء قوّة مستقلّة عن هذه الدول، قادرة على الضغط من أجل فرض الالتزام بالقانون الدولي والحؤول دون حرفه عن غاياته.
ومن المهمّ بمكانٍ التذكير هنا بأنّ مجلس الأمن هو مجرّد أداة تنفيذية للأمم المتّحدة، فيما أنّ الجمعية العمومية (التي تتكوّن في غالبيتها من دول متوسّطة وصغيرة عانتْ من الاحتلال والهيمنة، وقد أقرّت في غالبيتها الكبرى وقف الإبادة) هي وحدها المخوّلة إقرار المواثيق وتعديلها، وتاليًا تحديد مضمون القانون الدولي الإنساني.
الاتّجاه الثالث: تعزيز التواصل الفكري والحقوقي، وبخاصّة بين دول الجنوب ردًّا على الاستفراد والاستضعاف
وقد فرضت بروزَ هذا الاتّجاه العنصريةُ الصهيونية ضدّ الفلسطينيين وما رافقها من إنكار لإنسانيتهم على نحو يذكّر بالتاريخ الاستعماري لدول الشمال السياسي التي كانت في طليعة داعمي إسرائيل. كما فرضه، من جهة أخرى، التعاطف التلقائي للشعوب التي عرفت بشكل خاص الإبادة، كالشعوب الأصلية، أو الاستعمار، بعدما أيقظتْ حرب غزّة لديها تاريخًا شديد السواد. وليس أدلّ على أهمِّية هذا التضامن من الدعوى التي قدّمتها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية على خلفية فشلها في وقف الإبادة الجماعية الحاصلة في غزّة. ومن هنا، تأمل “المفكّرة”، التي تأسّست كمشروعٍ إقليمي، في أن توسّع شبكة التواصل والتفاعل لتشمل مزيدًا من دول الجنوب داخل المنطقة العربية وخارجها. وبالطبع، ليس سهلًا بناء هذا التواصل في ظلّ وجود تناقضات ذات بعد هوياتي وأنظمة استبدادية في العديد من دول الجنوب، وبخاصّة في ظلّ سعي هذه الأنظمة إلى تقليص الفضاءات العامة والتشكيك في دور المؤسّسات الفكرية والحقوقية ووطنيتها في اتّجاه فرض نوع من الشمولية السياسية. وما يزيد من صعوبة هذا الأمر حاجة المنظّمات الفكرية والحقوقية والأكاديميا إلى إيجاد مصادر تمويل أخرى، لا ترتبط بالدول الداعمة لمشاريع الهيمنة، ضمانًا لاستدامتِها واستقلاليتها الكاملة حيال تقلُّبات هذه الدول وتناقضاتها.
وبالطبع، يكتمل هذا الاتّجاه من خلال التقاء الحراكات الجنوبية مع الحراكات الحاصلة في دول الشمال السياسي من أجل وقف الإبادة والدفاع عن حرِّية فلسطين، لما يوفّره هذا الالتقاء (الحاصل حاليًّا ضمن حراك BDS وكذلك في بعض الملاحقات القضائية الدولية) من مزيد قوّة في مواجهة سياسات الاستفراد والاستضعاف.
نشر هذا المقال في العدد 71 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان
لقراءة العدد بصيغة PDF