“المفكرة” للحكومة اللبنانية: كفّوا عن هرسلة القضاة، القضاء المستقل شرط لاسترداد المال المنهوب والحدّ من الفساد


2019-05-07    |   

“المفكرة” للحكومة اللبنانية: كفّوا عن هرسلة القضاة، القضاء المستقل شرط لاسترداد المال المنهوب والحدّ من الفساد

للمرة الخامسة، نشهد مشهدا متكررا: القوى السياسية تضع تصورا لضرب الحقوق المالية للقضاة، وبشكل خاص موارد صندوق تعاضد القضاة الذي يؤمن لهم ضمانات صحية ومنح تعليم لأبنائهم. هذا ما حصل في 2014 كما حصل في آذار 2017 وفي آب 2017 وأيضا في آذار 2018. وبالطبع، يسجل في كل مرة تحامل من بعض رموز السلطة الحاكمة أو مكوناتها على القضاة، من باب ضرب مشروعية مطالبهم. وقد جاءت المحاولة هذه السنة عن طريق مشروع قانون الموازنة العامة لسنة 2019 (المتأخر لأكثر من 7 أشهر عن موعده الدستوري) حيث تم تضمينه موادّ من شأنها تقليص موارد الصندوق بما يقارب تسعة مليارات ليرة لبنانية، أي ما يقارب 40% منها.

وكما في كل مرة، لا تتم استشارة مجلس القضاء الأعلى مسبقا بهذه المقررات خلافا للمادة 5 من قانون تنظيم القضاء العدلي ويلجأ القضاة إلى الاعتكاف. وفيما لجأ القضاة في مرات عديدة إلى الاعتكاف بتغطية من مجلس القضاء الأعلى، فإن محدودية هذا الجهاز وارتباطاته مع القوى السياسية التي تعين 8 من أعضائه العشرة، دفعت القضاة في آذار 2018 إلى إعلان اعتكافهم من تلقاء أنفسهم. وهذا ما حصل هذه المرة أيضا بعدما استفاد القضاة من تأسيس نادٍ لهم بات يحظى بدعم القضاة دوليا وعربيا، وهو دعم تجلى بصدور بيانين داعمين من الاتحادين الدولي والعربي للقضاة قبل يوم من موعد بدء الاعتكاف، في 5 أيار 2019.

وكما في كل مرة، نخرج نحن في “المفكرة” لندعم مطالب القضاة ونذكر أن المسّ بالضمانات المالية للقضاة يشكل مسّا باستقلاليتهم المالية، ومخالفة للدستور، على اعتبار أنه لا يجوز إلغاء أي من الضمانات الممنوحة لحق دستوري (كما هي ضمانات استقلالية القضاء) من دون إيجاد ضمانات موازية لها وفق القرار رقم 1/1999 الصادر عن المجلس الدستوري بتاريخ 23/1/1999.

وتعليقا على كل ذلك، يهم إبداء الملاحظات الآتية:

أولا: “الهرسلة” التي لم تعد تحتمل

أن ما تقوم به السلطة السياسية هو نوعٌ من الهرسلة الحقيقية ضد القضاة harassment. فما معنى أن تخرج السلطة السياسية دوريا وتقريبا في كل سنة وبشكل متكرّر لتخبر القضاة أن حقوقهم وضماناتهم المالية غير محفوظة وأنه بإمكانها الاقتطاع منها أو حتى إلغاؤها؟ فتراجعها عن المس بهذه الحقوق في أي من هذه السنوات يبدو بمثابة تكتيك لا يرتب أي ضمانات مستقبلية، بحيث تبقي المحاولات قائمة، ومعها العصا والسيف اللذين تحركهما وفق ما ترتئيه مناسبا.

وما يزيد من هذه الهرسلة وقعا هو أن هذه المحاولات غالبا ما تشكل مناسبة لتحقير القضاء في الخطاب العام. وهذا ما يتحصل من مجموعة من المداخلات لأعيان من السلطة الحاكمة، تم رصدها خلال السنوات السابقة تبريرا لاقتطاع الحقوق المالية من القضاة والتي ذهبت عموما إلى اتهام القضاة بالفساد والكسل وعدم الإنتاجية، كل ذلك بفعل انطباعات عامة من دون الاستناد إلى أي معطى أو تقييم موضوعي. ومن أشهر هذه المواقف التحقيرية، موقف النائب فؤاد السنيورة في مناقشات 14 أيار 2014 والذي ذهب الى حدّ وصف تقديمات صندوق التعاضد القضائي بالهدر والمزاريب وإلى تخيير القضاة بين زيادة الإنتاجية والاستقالة. فـ”يا تمشي بإصلاح أو تمشي علبيت”. ويخشى أن يصل هذا التحامل إلى حدّه الأقصى في السياق الحالي، في ظل التسريبات حول تورط العديد من القضاة في أعمال فساد وسمسرة، في تحقيقات ربما تكون الأولى من نوعها من حيث مداها وعدد القضاة المعنيين بها.

كما تبلغ الهرسلة حدها الأقصى مع تهديد القضاة بإجراءات عقابية في حال قيامهم بأي احتجاج أو إضراب بعد تذكيرهم بأنهم مجرد موظفين خاضعين لقانون الوظيفة العامة الذي يحظر عليهم الاعتكاف والإضراب أو التعبير عن أي رأي احتجاجي. ولعل آخر هذه المواقف، المذكرة الصادرة أمس عن رئيس الوزراء سعد الحريري والتي طلب فيها من الإدارات الرسمية كافة والهيئات الرقابية “تنفيذ المبادئ والنصوص المشار إليها أعلاه وترتيب النتائج القانونية على أنواعها بحق المخالفين”.

فكأنما المراد ليس فقط تذكير القضاة بهشاشة أوضاعهم، وتحقيرهم بشكل منتظم في الفضاء العام ولكن أيضا منعهم من اتخاذ أي موقف احتجاجي أو اعتراضي على ذلك. فما عليهم إلا أن يقتبلوا ما يفعل بهم بالشكر.

ثانيا، إحباط جهود إصلاح القضاء

فضلا عن ذلك، من شأن هذه الهرسلة، أيا كان مفعولها، أن تؤدي بحد ذاتها إلى تغيير أساسي في طبيعة الحقوق الممنوحة للقضاة. فبدل أن تشكل ضمانة يطمئن القاضي بموجبها إلى قدرته على مواجهة تحدّيات حياته العائلية بعيدا عن العوز والحاجة وعمليا ضمانا لاستقلاليته، فإنها تتحول إلى منحة هشة يكون استمرارها أو زوالها وقفا على قرار من السلطة السياسية. فكأنما هذه الأخيرة تُفهم القضاة أنها هي صاحبة نعمتهم وأن اطمئنانهم لا يتخيّل من دون إرضائها.

ومن شأن هذا الأمر أن يحبط الجهود لضمان استقلال القضاء (ومن أبرزها تقديم عدد من النواب اقتراح قانون حول استقلال القضاء وشفافيته وتأسيس نادٍ للقضاة هو الأول من نوعه منذ تم تقويض جمعية حلقة الدراسات القضائية في أوائل السبعينيات) وأن يشكل قفزة إلى الوراء مؤداها استتباع القضاة وإخضاعهم وتاليا تجريدهم من أي دور في مساءلة السلطة السياسية أو الإدارة العامة الخاضعة لها. وهذا ما أوضحناه مرارا في بيانات سابقة للمفكرة.

فضلا عما تقدم، فإن من شأن التعرض المستمر للحقوق المالية للقضاة أن يهشل القضاة النزهاء الذين يرفضون الاستتباع أو أن يكون لهم أي مدخول من خارج رابتهم الأساسي وملحقاته وعمليا أن يطهر القضاء من أفضل قضاته. كما من شأنه أن يحبط في مطلق الحالات جهود استقطاب عناصر جيدة إلى القضاء. وكلا العاملان يؤديان إلى تراجع نوعية الموارد البشرية داخل القضاء، بما يناقض الحاجة إلى تعزيزها.

ثالثا، اجراءات غير مبررة ومنافية للمصلحة الاجتماعية

بمعزل عن مخالفة هذه الاجراءات للدستور أو لمبدأ استقلال القضاء أو عن أي من الأضرار الناجمة عنها، فهي غير مبررة ومنافية تماما لمبدأي الضرورة والتناسب وتاليا للمصلحة الاجتماعية. فالوفر الذي تهدف الحكومة إلى تحقيقه من خلال هذه المحاولة هو 9 مليارات ليرة لبنانية أي ما يقارب 6 ملايين دولارا أميركيا سنويا. ومن دون التقليل من أهمية هذا المبلغ أو أي من الأموال أو الموارد العامة، فإنه يشكّل نقطة في بحر من الأموال العامة التي بإمكاننا توفيرها أو استردادها في حال تسنى للقضاء أن يعمل باستقلالية وأن يحاسب أعيان السلطة السياسية والقيمين على الإدارة العامة.

ومن هذه الزاوية، يخشى أن يؤدي الوفر المنشود، بما يسببه من استتباع للقضاة، إلى خسارة أضعاف مضاعفة من الأموال العامة. فهل يعلم المواطن اللبناني حجم الضررين المالي والبيئي الحاصلين بنتيجة قرار الحكومة في 21 آذار 2019 بإعطاء مهلة إدارية للكسارات والمقالع للعمل 90 يوما من دون التثبت من توفر أي من الشروط القانونية لإقامة أي هذه المنشآت، بعدما كان وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق أمّن الحماية لها من دون استيفاء حقوق الدولة، طوال سنوات؟ وهل يعلم المواطن اللبناني حجم الضرر الهائل الحاصل بنتيجة استمرار المخالفات البحرية والنهرية، بعضها منذ فترة الحرب الأهلية، من دون أن تستوفي الدولة حتى الآن أي قرش عنها رغم عرضها التسوية تلو الأخرة، ويحتمل أن لا تستوفي إلا النذر النذير بغياب قضاء مستقل؟ هل يعلم المواطن اللبناني أن القيمة المالية لبعض القضايا العالقة أمام القضاء اللبناني تعادل مائة مليون دولارأ أميركيا وفوق أي ما يقارب عشرين ضعفا للمبلغ المراد توفيره؟ يكفي أن نذكر في هذا الصدد بقضية الاستيلاء على 29000 مترا مربعا من شاطئ الميناء بتواطؤ من وزير الأشغال العامة السابق غازي العريضي ومن دون أن يحرك وزير الأشغال العامة الحالي يوسف فنيانوس ساكنا لوقف هذا الاستيلاء؟

هذا من دون الحديث عن مخالفات أوجيرو وسوكلين والجمارك والمناقصات والقروض الميسرة الممنوحة خلافا لشروطها وكمّ من المخالفات المالية التي تثبّت منها ديوان المحاسبة أو هيئة التفتيش المركزي أو التوظيف العشوائي أو الإثراء غير المشروع، والتي كلها ملفات تنتظر القضاء المستقلّ. فهل كان للحكومة أو لأي من الحكومات السابقة عين واحدة على امكانية فتح وإنجاز هذه الملفات، بما توفره من ثروات للدولة، حين استباحت مرة ومرارا استقلال القضاء؟

أما تبرير اقتطاع حقوق القضاة بالفساد وعدم الانتاجية كما دأب على ذلك عدد من أعيان السلطة السياسية، فهو مجرد كلام ديماغوجي لا يصمد أمام أي نقاش جدّي. فمن دون التقليل من حجم الفساد داخل القضاء اليوم، فإن تطهير القضاء من هذا الفساد لا يتم هكذا. لا يتم بفرض عقوبات جماعية للقضاة ولا بالتهديد بها ولا بتحقير القضاة عموما، إنما بإجراء تقييم فردي لعمل كل قاضٍ ومحاسبة كل متورّط من القضاة وصولا إلى صرفه عند الاقتضاء. فمؤدى العقوبة الجماعية الأول وربما الوحيد هو تهشيل القاضي النزيه الذي يستشعر بنتيجته إحباطا معنويا وماديا، يفقده مبررات وجوده داخل القضاء، وتاليا تطهير القضاء من أفضل قضاته وليس العكس. هذا فضلا عن، وهذا هو الأهم، أن المسؤولية الأولى في تطور الفساد القضائي تقع بالدرجة الأولى على أعيان السلطة السياسية الذين هم يتحملون بفعل تدخلهم مباشرة أو بواسطة من يعينونهم في مجلس القضاء الأعلى أو هيئة التفتيش القضائي، المسؤولية الأولى عن التشكيلات القضائية أو عن توفير الغطاء السياسي للقضاة المتورطين في الفساد أو غير المنتجين. ولعل خير دليل هو أن أبرز القضاة المتورطين في تحقيقات الفساد الأخيرة، هم في مجملهم من المحظيين الذي تولوا طوال سنوات مراكزهم بدعم هذه القوى، واستمروا فيها رغم مخالفاتهم، بغطاء منها.

وأمام معطيات كهذه، تظهر محاولة الحكومة الجديدة إما أننا أمام حكومة لا تعي ما تفعل بمعنى أنها ترمي حجرا في البئر الذي يفترض بها أن تنهل منه، إما أننا أمام حكومة ماكيافيلية تهدف من خلال ضرب حقوق القضاة ليس إلى تحقيق وفر كما تدعي، بل أولا إلى استتباعهم منعا لأي مساءلة. في كلتا الحالتين، تفقد الحكومة مصداقيتها تجاه شعبها والمجتمع الدولي تماما في ادّعاء خططها واستراتيجيتها في مكافحة الفساد.

  • لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا على الرابط أدناه:

Legal Agenda to Lebanese Government: Stop Harassing Judges

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني