على مدخل البيت الذي استأجرَته قبل ثماني سنوات في بلدة عين يعقوب في الجومة العكارية، وُجدت فاطمة عبيد، ابنة العريضة الغربية، البلدة السورية المقابلة لمنطقة وادي خالد الحدودية مع سوريا، على عتبة البيت جثة، وبين يديها “صدر” (صينية) العشاء وقد وقع أمامها. استُشهدت فاطمة، أم أحمد، كما يعرفها سكان البلدة التي هربت إليها من الحرب في سوريا، مع أولادها الخمسة، حين استهدف الطيران الحربي الإسرائيلي المبنى الذي لجأ إليه نازحون من بلدة عربصاليم الجنوبية والذي الذي تقطن مع أبنائها في طابقه الأرضي. أدت المجزرة الإسرائيلية إلى استشهاد 16 نازحًا، بينهم 11 شهيدًا من عائلتين من آل شرارة وحرب من عربصاليم إقليم التفاح في قضاء النبطية، وهم بالمناسبة عائلة واحدة بفرعين، و4 نازحين سوريين مقيمين في البلدة، هم فاطمة وثلاثة من أولادها سراج وخالد وعبد الرحمن سليمان، فيما أصيب 10 نازحين بجروح بعضها خطير.
على قساوة إجرام المجزرة حيث انتشرت الأشلاء على مساحة 500 متر، إلّا أنّ ما حدث يختصر صورة عكار وسلوكيّات أهلها. عكار الفقيرة، أم الفقير، التي لطالما فتحت قلبها وبيوت أهلها للاجئين من نار الحروب. فعلت ذلك في الأزمة السورية، وكانت البوابة الأولى التي شُرّعت للسوريين لتحتضن نحو 300 ألف لاجئ سوري، كما بقيت لغاية الساعة ملجأ من يتمّ ترحيلهم وطردهم من السوريين من مناطق أخرى.
واليوم، مع العدوان الإسرائيلي على لبنان، لا تجد “خرم إبرة” للسكن في عكار مع نزوح نحو 80 ألف لبناني من “أهلنا من جنوب لبنان وضاحية بيروت والبقاع”، كما يسمّيهم العكاريّون. حتى أنّ المحافظة لم تكتفِ بتخصيص مراكز نزوح للنازحين السوريين الهاربين من المناطق المستهدفة من إسرائيل، بل فتحت بعض بيوتها لهم، ومن بينهم خمس عائلات قابلتهم “المفكرة” في عين يعقوب.
مع محمد سليمان، ابن أم أحمد، تكتمل قصة اللحظات الأخيرة لشهداء العائلة الأربعة، اللاجئين السوريين، الذين قتلتهم إسرائيل قبل تناولهم العشاء، قبل أن يصل محمد إلى المنزل بربطتي خبز وقارورة مياه وبعض الفاكهة حيث تنتظره أمه وأخوته للعشاء، وتحديدًا عندما كان على بُعد مئتي متر من موقع الاستهداف. رمى محمد أغراضه أرضًا وركض يصعد التلة في قلب الغبار الأسود والرمادي الحارق الذي غطى الحي، ليجد أم إبراهيم، جارتهم وصديقة العائلة وهي تلطم نادبة فاطمة، أمه. لاحقًا، ومع أشلاء الشهداء التي انتشرت في الحي وحتى محيطه، حمد الله لأنّ أمه كانت مصابة فقط في قدمها، بينما استشهدت من ضغط الانفجار، ولم تتشظَ كما غالبية الشهداء. بدا واضحًا أنّ أم أحمد أرادت أن تجتمع عائلتها على مصطبة الطابق الأرضي حيث يتربّع البيت على تلة تشرف من عين يعقوب على قسم كبير من منطقة الجومة العكارية الجميلة، وبالتالي نجتْ من التأثير المباشر لتدمير المنزل على رؤوس من فيه، ومن ضمنهم أبناؤها الثلاثة. نجا مع محمد شقيقه مصطفى الذي أصرّت عليه والدته فاطمة تناول الطعام قبل مغادرته إلى منزل عمه القريب، كما يقول الأخير (مصطفى) لـ “المفكرة”.
بعد المجزرة كما قبلها في عكار
مع كلّ مجزرة إسرائيلية تستهدف النازحين في مناطق نزوحهم في محاولة لتقليب المناطق المضيفة والتضييق عليهم، يعبّر البعض عن تخوّفهم من النازحين، ويُطلب منهم في مناطق يجري استهدافها، المغادرة. في ظلّ هذه المخاوف وصلتُ صباح أمس إلى عين يعقوب في الجومة العكارية بعد مجزرة مساء الإثنين 11 تشرين الثاني 2024، وتحديدًا إلى دكان خالد الأذن في أوّل البلدة، وعلى بعد نحو 500 متر من مكان المجزرة.
بعد دقيقتين من سؤال خالد عمّا حدث، احمرّت عينا الرجل الستيني تأثرًا قبل أن تتدحرج دمعتان على وجنتيه: “حرام هالإجرام، حرام وقاسي كتير”، يقول الأُذن الذي حكى عن “جيرانه” الجدد قبل أن يخبرنا عن ابنته فاطمة وعائلتها التي نجت بأعجوبة من المجزرة، بعدما لحقت أضرار كبيرة بمنزلها الذي يقع أسفل المنزل المستهدف.
“شو ذنب الأطفال والنساء وحتى الرجال المدنيين يللي نزحوا من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال قاطعين 200 كلم في رحلة نزوح محفوفة بالمخاطر، في يوم التهديد الإسرائيلي لكل بلدات وقرى الجنوب في 23 أيلول الماضي”، يقول.
وخالد يحدّد المسافات بين المناطق اللبنانية بدقّة، لأنّه يعرف جنوب لبنان جيدًا، هو الذي خدم على أرضه يوم كان جنديًا في الجيش اللبناني “عندي كتير صحاب وأصدقاء من الجنوب، وأنا ما بنسى الجنوب وأهله”. حتى أنه بحكم عمل دكانه، يعرف النازحين وأطفالهم الشهداء من بينهم والجرحى. كانوا يقصدونه لشراء الأغراض وسكاكر الصغار “حطّيهم ع الجرح بيطيب”، يقول وهو ينظر إلى تلة العريض حيث تحوّل المنزل ليس إلى ركام، بل إلى حجارة صغيرة “إسرائيل تقصف بأسلحة مؤذية وفتاكة وبمئات الأطنان حتى تكّتر الأضرار، وخصوصًا في مناطق استضافة النازحين، هيك بتخوّف الناس منهم وبترعبهم من وجودهم”، يضيف. وخالد يعرف إسرائيل أيضًا عندما احتكّ باجتياحها لبنان في 1982 في منطقة سوق الغرب حيث خدم أيضًا: “كلّ همّها تعلّق اللبنانيين ببعضهم وتفتن بيناتهم، ونحن لازم نتحصّن بوجهها”. وخالد يعرف أهمية التحصّن والتوحّد في وجه إسرائيل وأهميته أيضًا، والأهم “وعي الشعب لهيدي النقطة”. ومن تجربته في سوق الغرب، يقول: “تكون نيران التقاتل اللبناني اللبناني والعة ع خطوط التماس بسوق الغرب، بس تمرق دورية إسرائيلية محتلّة تسكت النيران”.
جار خالد الذي انضمّ إلى جلستنا يفتح الحديث على أمن عكار وبلداتها “مع أمن أهلنا النازحين”. يقول إنّ الأحاديث انتشرت عن استهداف شخصية من حزب الله “ونحن نقول إنّ من يعرف نفسه مستهدفًا يجب ألّا يحتكّ بالنازحين ولا يزورهم حفاظًا عليهم قبل حرصه علينا أيضًا”. لا ينكر خالد وجاره وكلّ من التقيناهم في عين يعقوب حالة الخوف من الاستهدافات الإسرائيلية أبدًا “لأنّه منكون عم نكذب ع بعض، الناس كلّها بتخاف وهيدا طبيعي”. لكن للانصاف، لم تخرج كلمة واحدة من فم أيّ من مستضيفي النازحين من الجنوب خصوصًا لأنّهم الأكثرية، وكذلك من البقاع مرورًا بالضاحية، تطالب بمغادرتهم: “ما فينا نقول أيّ كلمة ما بتشبهنا كعكاريين، الخطر علينا وعليهم، مش هنّ الخطر علينا، كلّ ما نطلبه هو عدم منح إسرائيل أي ذريعة للعدوان علينا وعليهم”، يقول جار خالد الذي يصرّ على تبيان موقفه بوضوح “أنا مع المقاومة ضدّ إسرائيل، بس عدا ذلك بختلف معهم”.
موقف بلدية عين يعقوب لا يختلف في جوهره عن موقف أهلها “نحن مسجّلين 400 نازح من جنوب لبنان خصوصًا وبعض النازحين من البقاع في بلدية عين يعقوب”، يؤكد رئيس البلدية ماجد درباس، مشيرًا إلى تسجيل البلدية 21 نازحًا مقيمًا في بيت حسين هاشم المستهدف و9 لاجئين سوريين يستأجرون الطابق الأرضي.
لم تفتح عين يعقوب مدرستها الرسمية لأنّ أهلها وبلديتها توافقوا على أنّها “لا تليق بسكن النازحين، فتحت الناس بيوتها، المدرسة مش مجهّزة ليرتاحوا فيها”.
وجلّ ما أخذته البلدية من إجراءات بعد استهداف البلدة، اقتصر على إيفاد شرطي بلدي إلى البيوت التي يسكنها نازحون وتلك التي تستضيف نازحين، للتشديد على حرصهم على عدم استقبال أي شخص قد يعرّضهم والبلدة وناسها للخطر: “نحن ما منراقب زوارهم طبعًا، بس أوصيناهم بالحذر والانتباه والحرص”، يؤكّد درباس، بس رجعنا حرصّناهم ع الموضوع، ونحن عنا لوايح بكلّ أسماء ضيوفنا في عين يعقوب”.
وفيما يؤكّد درباس لـ “المفكرة” أنّ أحدًا لم يسأل عين يعقوب عن احتياجاتها في هذه الأزمة القاسية والعدوان عليها وعلى ضيوفها، اقتصر تفقّد النوّاب للبلدة على زيارة قام بها النائب جيمي جبّور الذي دعا أمين عام الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير إلى زيارة عين يعقوب والكشف على أضرار أهلها وبيوتها للتعويض عليهم. واعتبر جبّور من على ركام المنزل المستهدف، أننا “مرة جديدة نشهد على بربرية وهمجية الاعتداءات الإسرائيلية والتي أزهقت أرواحًا بريئة لجأت إلى مكان حسبته آمنًا وإذ بنا نتأكد مرة جديدة أنّ جميع اللبنانيين هم في عين الاستهداف الإسرائيلي وبأنّ مؤامرة استهداف الأماكن المضيفة لتأليب اللبنانيين على بعضهم أضحت واضحة لا لبس فيها”.
خاصّية عكار وتعزيز وطنيتها
يتوقّف عضو مجلس بلدية عين يعقوب ومهندس البلدية هشام هاشم عند معطى مهم في بلدته وكلّ عكار “منطقتنا تتميّز بخاصية أساسية: وجود عدد كبير جدًا من أولادها في الجيش ومعرفتهم بكلّ المناطق التي خدموا فيها ومنها الجنوب وبيروت والبقاع، وكذلك بخرّيجيها الجامعيين الذين درسوا في الخارج وتعرّفوا إلى لبنانيين آخرين، ومعهم المغتربين الكثر الذين يبنون علاقات صداقة وقرابة مع المغتربين اللبنانيين من مناطق أخرى، إضافة إلى علاقات بُنيت في عزّ نشاط الأحزاب التقدّمية العابرة للمناطق والطوائف، ومعها صلات القربى التي بنتها المصاهرة المناطقية”. هؤلاء جميعهم في عين يعقوب، ومع تصاعد العدوان الإسرائيلي، أمسكوا هواتفهم واتصلوا بمعارفهم من أبناء المناطق المهددة، ودعوهم إلى منازلهم “البيوت بيوتكم ونحن ناطرينكم”، وهذه “عين يعقوب كما كلّ عكار” يضيف. هذه الخاصية العكارية “تميّز وطنية عكار وتعززها، وتحميها من أي اهتزاز”، يرى هاشم. وهاشم نفسه لم يتحمّل المجزرة “بعد سحب خامس شهيد نزل السكري عندي بالدم، ما عدت قدرت إبقى”. يقول إنّ رؤية المجازر على شاشات التلفزيونات في غزة وفي لبنان شيء، ومشاهدتها بالعين والشهادة عليها شيء مختلف “كتير قاسي وإجرامي لي شفته”.
ما إنّ حصل العدوان على منزل جاره الراحل حسين هاشم حيث تستضيف زوجته فريال حرب وهي من عربصاليم شقيقها عبده حرب وعائلته، ومحمود ومصطفى شرارة شقيقا زوجة عبده، حتى أسرع هاشم نحو موقع الاستهداف “كان في طفل عم يصرّخ تحت الركام وسيدة تئنّ من إصابة خطرة”. تساعَد الأهالي الذين كانوا أول الواصلين وخصوصًا ممّن يسكنون في محيط البيت المستهدف وانتشلوا بعض المصابين وأسرعوا بهم إلى المستشفيات بسياراتهم، إلى أن وصل الصليب الأحمر والدفاع المدني والجيش اللبناني. ولكن حجم الدمار كان يستدعي آلات كبيرة لم تكن تتوفّر مع الدفاع المدني في المنطقة “واستغرق وصول الآلات التي استدعاها الجيش نحو ساعة وأكثر لاستكمال عملية الإنقاذ وسحب الشهداء والجرحى”.
الفجيعة المزدوجة لفريال صاحبة المنزل
مع تهديد قرى وبلدات الجنوب اللبناني، فتحت فريال حرب صاحبة المنزل المستهدف بيتها لشقيقها عبده وعائلته. مع صعوبة العثور على مكان آمن، انضم إلى هؤلاء شقيقا زوجة عبده، محمود ومصطفى شرارة، وهما من عربصاليم أيضًا “بنت خيي عبده نيفين متزوجة من الشهيد أمين محمود شرارة، ابن خالها كمان، يعني كلهم منعرفهم مدنيين هجّرتهم إسرائيل بالقوة وتحت التهديد ودمرت بيوتهم”.
ودموعها تخنق صوتها، حيث كان بعض رجال عربصاليم قد انتهوا للتو من دفن مَن عُرف من الشهداء “راحوا دفنوهم ع السريع تحت القصف”، تقول. وخسارة فريال مزدوجة وكبيرة “كنت عم بحمي خيي وعيلته فلحقوهم ع بيتي قصفوهم واستشهدوا”. وهي تحاول التماسك للحديث، تحكي عن بيتها الذي قضى زوجها العسكري سنوات وهو يبنيه من راتبه المتواضع حجرًا فوق حجر “بقينا سنين بلا بيت حتى عمّرنا”، واليوم تحوّل البيت إلى كومة حجارة صغيرة، فيما تطاير أثاثه المدّمر على قطر 500 متر مع أشلاء المحتمين فيه. يصعب على فريال استيعاب الصدمة “ما قادرة اتخيل، وأوقات بحس إني مش مصدقة إني خسرت كل الأحباب وبقلب بيتي وبيت أولادي بالذات”. كيف لهذه المأساة أن ترتبط بمكان سكنها منذ أن تزوّجت الراحل حسين هاشم وبنيا معًا منزلًا دفعا فيه كل جنى العمر “ما بعرف إذا بعد بقدر عيش محل المجزرة، محل ما راح خيي وعيلته وعيلة زوجته، والجرحى الباقيين وضعهم معظمهم خطر وبعدهم عم يئنّوا من الأوجاع والحروق والعمليات الجراحية، وما منعرف شو رح يكون مصيرهم بعد”.
وفق فريال، استشهد شقيقها عبده فيما ترقد زوجته ودارين ابنته في المستشفى بإصابات خطرة. أما عقيل، ابن عبده وشقيقته نيفين فقد جاءت جروحهما خفيفة كونهما لم يكونا داخل المنزل على ما يبدو، بل على الشرفة الأمامية المطلّة على الجومة. وأي نجاة لنيفين؟ تقول العمة المنكوبة “استشهد زوجها أمين شرارة مع طفليها، مع بيّها، وبعدها أمها وأختها وحالتهن خطرة بالمستشفى”، تختنق فريال ثانية عنها وعن نيفين.
ومع عبده وصهره أمين محمود شرارة وطفليه من نيفين، استشهد أيضًا شقيقا زوجة عبده: محمود ومصطفى شرارة وزوجة مصطفى وابنة مصطفى، وعلي ابن ابنة مصطفى الثانية فيما حال ابنتيها الجريحتين خطرة أيضًا. وفيما ترقد زوجة محمود شرارة في المستشفى بوضع حرج، استشهدت شقيقتها محاسن وأصيبت شقيقتها مريم بجروح خطرة أيضًا. وهذا كل ما تتذكره فريال لدى حديثنا معها.
لكن الحصيلة النهائية التي أعلن عنها الدفاع المدني اللبناني “بعد إتمام مسح المكان”، كما ورد في بيانه أمس، بلغت 16 شهيدًا، 12 من عربصاليم، و4 لاجئين سوريين، و10 جرحى من النازحين اللبنانيين. وعلمت “المفكرة” أنّ نتائج فحوص الحمض النووي لم تكتمل بعد مع وجود كم كبير من الأشلاء، كما أنّ العثور على أشلاء مستمر، وفق ما يؤكد رئيس بلدية عين يعقوب لـ “المفكرة”، وقد شهدنا على العثور يوم الأربعاء على أشلاء على سطوح بعض المنازل البعيدة نحو 500 متر عن المنزل المستهدف.
العدوان الإسرائيلي إجرامي أينما حلّ
يقع منزل العسكري الراحل حسين هاشم وزوجته فريال حرب على تلة تبعد نحو كيلومتر واحد من المنعطف نحو عين يعقوب عند مدخل بلدة البرج العكارية. يشكّل الموقع الذي بني فيه منزل هاشم والمطل على بانوراما من جزء كبير لمناطق الجومة المترامية الخضراء، نقطة جذب للبناء بعيدًا عن الطريق العام للبلدة نحو بزبينا وبقية البلدات وضجيج السيارات العابرة وتلوّثها. وعليه، يلاصق البيت جاره هناك، لا يفصل بينهما سوى أمتار، تفرضها حدود الملكية بين الأقارب والجيران. وفي هذا الحي العامر بالسكان وبيوتهم، لعبت الصدفة، و”رحمة الله” الذي يحمده العديد من جيران المجزرة، في حمايتهم من الموت، كما يقولون، رغم سقوط جرحى ولكن بإصابات طفيفة. هنا تصبح الأضرار المادية الكبيرة في المنازل تفصيلًا أمام أرواح الأطفال. و”رحمة الله” طالت سُليمة أيضًا وحمت بقرتها الوحيدة التي تعتاش منها مع عائلتها: “الحمدالله كنت فوتت البقرة ع الزريبة فما ماتت، من وين كنت بعيش لو ماتت”، تقول السيدة التي قطعت الـ 75 من عمرها، بظهر منْحنٍ وهي تمسّد على جسد بقرتها الحلوب.
نجاة بقرة سليمة ساهم فيها وقوعها في أسفل منزل ابنها الذي بنى بيته الزوجي فوق بيتها. هناك تحمد كنة سليمة ربها على نجاتها وزوجها وأولادها الأربعة “ابني الكبير كان بالشغل، وأنا رحت لجيب اغراض فلحقوني بناتي وما قبلوا يضلّوا لحالهن، ووقعت الغارة في غيابنا ونجونا الحمدالله”. ولكن منزل العائلة تضرّر: “كل الأبواب المسكّرة تخلّعت، والزجاج هرّ، والبرّاد خرب ومعه مجاري الصرف الصحي، صار بيتا خراب”. وعليه نزحت العائلة إلى منزل جدها لأمها ريثما ترمم ما أمكن. ومع البيت تلفت الآلات التي يستعملها ابن سليمة في صنع فحم الأراكيل، وهو العمل الذي تعتاش منه عائلته.
تحت البيت المستهدف مباشرة، يقع بيت فاطمة، ابنة خالد الأذن، وعائلتها. تعمل فاطمة وزوجها في دكان يعتاشان منها في بلدة البرج، وتحديدًا في الطريق التي تصل البلدة ببلدة قبولا- بينو. و”رحمة الله” هنا هي ما أنقذ فاطمة وأولادها الأربعة وزوجها أيضًا، كما تقول، ويؤكد والدها خالد. عادة ما تترك فاطمة أولادها مع حماتها، والدة زوجها، عندما يقصدان الدكان. يوم الإثنين، ذهبت حماتها لزيارة ابنتها في بلدة قريبة من عين يعقوب، فأصرّ خالد الأذن على ابنته فاطمة أن تترك أولادها عنده “حابب إتغدّى أنا وإياهم ما تاخديهم ع البيت، روحي ع الدكان واتركينا ننبسط فيهن”، وهكذا كان.
نجت فاطمة وزوجها وأطفالها، ولكن بيتها تحوّل خرابًا بكل ما تحمل الكلمة من معنى. طار سقف المطبخ، اجتاح الزجاج المكسّر قماش ما تبقى من أثاث، تخلّعت بعض الأبواب من أماكنها، فيما كانت تريلّة (صندوق) تراكتور تركن تحت المصطبة المرتفعة عن الطريق لتحمل الزجاج المحطم بعيدًا ومعه قطع خشبية من الكنبات والكراسي والطاولات، وكان البيت يعجّ بمن يساعدون العائلة في محاولة إزالة الردم ليتسنّى توضيح الأضرار لإصلاح المنزل الذي هجّر العدوان أهله. بالقرب من المنزل، ومع عصف الانفجار، طار باب صيرة ماعز عائلة فاطمة وهرب بعض رؤوس الماعز في الليل، وبقي نحو سبعة منها. تعضّ فاطمة على جراح الخسائر وتقول: الله يرحم الشهدا، هيدا كله رخيص قدام الناس والعدوان عليهم، بس كمان نحن كتير تعبنا لنعمل بيت والعنزات بيسندونا كمان، والله بيعوض”.
على الجهة الثانية من الطريق الفرعية التي يقع عليها منزل فاطمة، نجد بيتًا متواضعًا في مزرعة تعمل فيها خليلة وزوجها. تناضل العائلة لتربية طفليها الصغيرين، حيث حتى إرسالهما إلى المدرسة الرسمية في البلدة يشكل عبئًا وكلفة على قدرات العائلة. هنا طار سقف المطبخ وهو من الإترنيت والخشب أساسًا. وخليلة تعمل بجدّ مع زوجها ولا تبخل بأي جهد لزيادة إنتاج العائلة لكي تخرج بمعيشتها من تحت خط الفقر حتى. ومع سقف المطبخ تضررت مصطبة البيت وتخلّعت أبوابه ودرف النوافذ وطبعًا زجاجها.
أما فوق البيت المستهدف، فقد تضرّرت جميع البيوت بدرجات حسب بعدها عنه. وكون منزل أحد العسكريين لا يفصله عن منزل هاشم حيث وقعت المجزرة سوى أمتار قليلة، يتحدث الجيران عن علي، العسكري الذي لا يتحدث إلى الإعلام، كونه يحتاج إلى إذن المؤسسة العسكرية. يقول الجيران إنّ علي بنى بيته في هذه الأزمة قبل أكثر من خمس سنوات وخصوصًا بعد فقدان راتبه قيمته. هناك عاينّا تخلّع الواجهات الأمامية الكبيرة التي أرادتها العائلة نافذتها البانورامية الجميلة. الواجهات نفسها التي انهارت على عليّ وكان نائمًا يحضن طفله ابن السنتين والنصف على الكنبة تحت واجهة غرفة الجلوس. قذف عصف الانفجار بكل الزجاج وجزء من هياكل الألمنيوم إلى داخل المنزل الذي أُتلف أثاثه خصوصًا في غرفة الجلوس والصالون والمطبخ، المطلين على بيت هاشم. والأهم أن عليّ “سعيد”، كما يصفه الجيران، لأن احتضانه لطفله حما الصغير من الزجاج رغم أنّ رأسه (رأس عليّ) ملفوف كله بالشاش الأبيض الذي يخفي عشرات الغرزات الطبية نتيجة جراحه. وبهذا الشاش كله، كان يساعد العمال وألأقارب في إخلاء المنزل وتنظيفه من الزجاج وما تكسّر من الأثاث. ونجت زوجة عليّ وابنتاه كونهن كنّ داخل غرف النوم “المقفية” عن البيت المستهدف.
النازحون العاجزون عن الشكر والتعبير
تعتبر عائلة هاشم من العائلات الكبرى في عين يعقوب. وعليه، ومع معرفتهم بانتشار العائلة في مناطق لبنانية عدّة وبتنوّع جغرافي وطائفي كبير، أسّسوا رابطة آل هاشم، وجعلوا ينظّمون لقاءات ويحيون المناسبات ويتبادلون الزيارات والتعارف إلى أنّ توسّعت معارفهم وتوطدت علاقاتهم بين بعضهم البعض. ومع العدوان الإسرائيلي، سارع أبناء عائلة هاشم في عين يعقوب إلى الاتصال بأقاربهم في الجنوب والضاحية وبيروت “ناطرينكم يالله تفضلوا ع بيوتكم”. من هؤلاء أحمد هاشم الذي استضاف أكثر من عائلة من عائلة هاشم من بلدة إيعات في قضاء بعلبك. عندما زرنا العائلة في حي العريض الواقع على إحدى تلال عين يعقوب، صادفنا العائلة مع ضيوفها يحملون الصواني في طريقهم للتعاون في قطاف شجر الرمان. هنا لا تعرف من الضيف ومن المستضيف لطغيان الإلفة التي تلم شملهم. ونحن نتحدث إليهم، وكانت مجزرة عين يعقوب قد وقعت، ورد إلى العائلة اتصال من أقرباء لهم أغار الطيران الحربي الإسرائيلي على منزل جيرانهم. لم يفكر صاحب البيت للحظة قبل أن يقول لضيفه “في بيت قديم عندي بدو شوية تزبيط، قلهم يجوا لهون وتعا نروح نجهّز لهم البيت”. هذه عين يعقوب، هذه عكار، التي لا يغيّرها عدوان، بل تتجلّى وطنيّتها في الملمّات وتزدهر.
في فيللا من ثلاثة طوابق يزينها القرميد الأحمر والحجر الصخري تسكن ثلاث عائلات نازحة من الجنوب، وتحديدًا من قبريخا وتولين، على الخط الحدودي الثاني مع فلسطين المحتلة. لا تعرف العائلات صاحب المنزل الذي يستضيفهم. اتصل الرجل من اغترابه ووكّل أقاربه، وهم أصدقاء عائلات قبريخا وتولين، بفتح أبواب بيته المؤثث، وغير المسكون، للنازحين، وأوصاهم عدم كشف هويته “ما بدي يشكروني، هيدا واجبنا عيب”. يقول كبير العائلات السبعيني إنّ النازحين يعجزون عن شكر أهالي عين يعقوب “ما سمعنا منهم كلمة مزعجة لا قبل المجزرة ولا بعدها”. واقتصر الأمر على زيارة شرطي بلدية “قال لنا بكل تهذيب ومحبة، بدنا تنتبهوا من أجل سلامتكم وسلامة الناس من حولكم وسلامة البلدة وهي بلدتكم، ما تسمحوا لأي زائر قد يشكل خطرًا عليكم بزيارتكم، عدا ذلك أهلًا وسهلا بكم دائمًا”.
يؤكّد الرجل النازح أنّ من غادر من النازحين من عين يعقوب ثاني يوم المجزرة فعلوا ذلك بإرادتهم “يمكن خافوا يسمعوا شي كلمة، أو خافوا من الاستهداف وفضّلوا ينقلوا ع مكان تاني ما بعرف، لي أنا اكيد منه إنّه ما حدا طلب من النازحين الرحيل، لي ترك ترك بإرادته ورغبته وهنّ قلال، ما في بيوت لا للإيجار وبيوت الناس ما بقى تستوعب، كتّر خير الناس الواقفة معنا، وعم تخجّلنا”.
قليلة هي بيوت المغتربين من عين يعقوب التي لم تفتح أبوابها للنازحين سواء كانت تربطهم صلات بهؤلاء أم لا. هناك أبنية كثيرة وبطبقات عدّة شرّع أصحابها شققها للّذين أرغموا قسرًا وتحت النار على ترك بيوتهم.
الخوف لا أحد يخفيه، خصوصًا وأنّ دموية المجازر ترعب أيّ إنسان وخصوصًا الأطفال، لكن الملمّات تكشف حقيقة الناس، تقول إحدى النازحات لـ “المفكرة”، وأهل عكار لا تغيرهم إسرائيل وإجرامها: “ما سمعنا كلمة زعجتنا، منعرف إنهم خايفين متلنا، هن أرواح كمان وبشر وكلنا منخاف، بس موقفهم بعد المجزرة خجّلنا كتير، وأكتر من فتحهم بيوتهم إلنا، تعاليهم ع الخوف لي نحن منعرف إنه كبير، ما نال من إنسانيتهم ووطنيتهم”، تقول وتصرّ أن تضيف “كنا منسمع عن عكار وأهلها وعن صفتها “أم الفقير، بس اليوم تأكدنا إنه لي سمعناه هو حقيقة، ومنزيد عليه إنه المصايب لي بتكشف عادة، أكدت ع جمال عكار وناسها”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.