انتهت الحرب الإسرائيليّة على لبنان التي استمرّت 66 يومًا بإعلان وقف الأعمال العدائية، الذي كان يفترض أن يضع حدًّا لعام ونيّف من العدوان المتصاعد منذ بدء حرب الإبادة الجماعيّة على غزّة. على الرغم من ذلك، توالت الاعتداءات الإسرائيلية، مصحوبة بسلسلة من التدابير والتهديدات التي تنتهك بنود الاتفاق وتقوّض الهدنة المعلنة تحت ذرائع “الدفاع عن النفس” وإزالة التهديدات”. هذه الأفعال، تشكّل خروقات للإعلان وتُعتبر في جوهرها استمرارًا للعدوان.
وقد اتّخذت السلطات الإسرائيلية تدابير تشير إلى تصرّفها كسلطة احتلال في جنوب لبنان، منها إصدار إنذارات متكرّرة تحظر على سكان جنوب الليطاني التنقل في مناطق واسعة، بما في ذلك منع العودة إلى 70 قرية تقع جنوب خط شبه مستقيم يبدأ من الليطاني ويشق منطقة جنوب الليطاني إلى قسمين مصادرًا منها منطقة تبعد عن الحدود المتعرّجة بين 5 كلم في أقرب النقاط إليها شرقًا، و14 كلم في أبعدها عنها على الساحل.
وحسب بنود إعلان وقف الأعمال العدائية وتنفيذ القرار 1701، يجب على الجيش الإسرائيلي أن يوقف جميع عملياته العسكرية الهجومية ضد لبنان، برًا وجوًا وبحرًا، فور دخول الإعلان حيّز التنفيذ (البند 2). كما ينص الإعلان على “حق كل طرف في الدفاع عن النفس وفقًا للقانون الدولي” (البند 4)، بمعاملة متساوية للطرفين، ويُمهل الإعلان الجيش الإسرائيلي 60 يومًا للانسحاب تدريجيًا إلى ما وراء الخط الأزرق (البند 12).
استندت منهجية “المفكّرة” لتوثيق الخروقات الإسرائيلية على إحصاء أوّلي للحالات المُبلغ عنها في المصادر المفتوحة، ومقارنتها بقوائم استحصلت عليها من مصادر عسكرية لبنانية للتثبت من صحتّها.
كذلك، قامت بتحديد سياق مفصّل لكلّ خرق، من حيث مكانه وزمانه وأعداد الضحايا، مستندة في ذلك إلى عمل ميدانيّ واتّصالات مع المعنيين وبيانات رسمية من مختلف الجهات الأمنية والرسميّة، بما في ذلك البيانات الصادرة عن الجيش اللبناني ووزارة الصحة وأجهزة الدفاع المدني والبلديات.
الخريطة رقم 1: توزّع الخروقات حسب الأقضية
وثّقت “المفكّرة” في هذه الأيام العشرين 288 اعتداءً إسرائيليًّا تشكّل جميعها خروقات للاتّفاق، وذلك من فجر 27 تشرين الثاني ولغاية غروب 16 كانون الأوّل الجاري (2024). ويفصّل هذا التحقيق في أنواع هذه الخروقات وتوزّعها الزمانيّ والمكانيّ وتكلفتها المباشرة على المدنيّين من أرواح (31 شهيدًا و32 جريحًا) وأملاك وأرزاق، وطبعًا على القرى الحدودية على الخط الأول، كما على عودة أهالي القرى المستهدفة إلى ديارهم.
وفي تفصيل هذه الخروقات، وثّقت “المفكّرة” 66 واقعة قصف جوّي، و62 مدفعيّ، و5 بالقنابل الصوتيّة والمضيئة، و43 واقعة تمشيط ناريّ بالأسلحة الرشّاشة الثقيلة والمتوسّطة، وكذلك رمايات بالأسلحة الرشّاشة باتّجاه القرى وباتّجاه مواطنين عائدين. كما وثّقت 45 واقعة نسف وتجريف ضدّ المنازل والأراضي الزراعيّة والطرقات. وقد شمل التوثيق 40 واقعة تحليق بالطائرات الحربيّة والتجسّسيّة والمسيّرات (خرق جوّي)، و14 واقعة توغّل برّي في المنطقة الحدوديّة. وإلى جانب هذه الخروقات، تثبّتت “المفكّرة” من 3 حالات اختطاف مواطنين، و3 اتّصالات تحمل أوامر إخلاء لمدنيّين، و3 وقائع تمّت فيها محاصرة مدنيّين وجرحى، ورفض إعطاء إذن للصليب الأحمر بإجلائهم، وكذلك 3 حالات تمّ فيها تدمير عدد من السيّارت المدنيّة سحقًا بالدبّابات أو حرقًا. وشملت الخروقات واقعة مداهمة منزل بعد عودة أهله إليه.
السماء المستباحة
يوم 28 تشرين الثاني، وبعد 36 ساعة على وقف إطلاق النار، كانت نور قد عادت للتوّ، تتفقّد منزلها في البيساريّة على مهل، وقد سوّت غارة نصفه في الأرض، وتركت نصفه الآخر واقفًا. دوّى صوت غارة إسرائيليّة، وتصاعد الدخان، ولم تعرف نور كيف تتصرّف: “لم نعد نحتمل غارة واحدة إضافيّة”، تقول في شهادتها لـ “المفكّرة”، بعد حرب نفّذت فيها إسرائيل أكثر من 13 ألف غارة جويّة على لبنان. وتقول نور اليوم إنّها استقرّت في منزل قريب، يبعد عن مكان استهداف 28 تشرين الثاني أقلّ من دقيقتين بالسيّارة: “تكرّرت الغارات على المنطقة لكنّ قرارنا كأسرة كان البقاء”، رغم ذلك، “فإنّ المسيّرات التي لا تفارق سماء المنطقة تشعرك بأنّ الخطر قريب، فهي إن لم تقصف اليوم، تجمع معلومات لتقصف لاحقًا، كأنّها تذكّرنا أنّ الخطر الإسرائيليّ لن يزول باتّفاق أو تفاهم”.
تُظهر بيانات التحليل استمرار اعتماد الجيش الإسرائيليّ على سلاح الجوّ في تنفيذه للانتهاكات، سواء عبر القصف أو التجسس. خلال الأيام العشرين التي أعقبت إعلان وقف إطلاق النار، حاز العدوان الجوي على النسبة الأكبر من الخروقات.
الرسم البياني رقم 1: أنواع الانتهاكات الإسرائيلية وأعدادها في الأيام الـ 20 الأولى بعد وقف إطلاق النار
ويتبيّن أنّ عمليات القصف الجوي هي أداة القتل الوحيدة، والسبب الأساسي لمعظم إصابات الجرحى. حيث أسفرت عن 31 شهيدًا و 32 جريحًا، بينهم نساء وأطفال، وقد قضت 4 أسر بأكملها في حاريص وبيت ليف ودبّين، وهي تنزع الأمان بشكل شامل عن القرى والمناطق التي عاد إليها أهلها. وقد شملت عمليات القصف أقضية صور (13 غارة) وصيدا (7 غارات) في محافظة الجنوب، وأقضية حاصبيا (غارتان) ومرجعيون (11 غارة) وبنت جبيل (20 غارة) والنبطية (4 غارات) وجزين (9 غارات)، وغارة واحدة على كلّ من قضاء زحلة وقضاء عكّار. وتوزّعت الغارات شمال وجنوب الليطاني، وبغضّ النظر عن خط “عدم العودة” الوهمي الوارد في خرائط التهديد الإسرائيليّة.
الخريطة رقم 2: توزّع القصف الجوّي حسب الأقضية
بدورها، تعزّز عمليات المراقبة وجمع المعلومات من خلال الطيران الاستطلاعي أهداف إسرائيل العدوانية طويلة الأمد ضدّ لبنان وتشكّل انتهاكًا جوهريًا للسيادة اللبنانية. والخروقات الجوّية عبر التحليق المنخفض للطيران الحربي والمسيّرات الإسرائيليّة، سواء التي تقصف أو تستطلع وتجمع المعلومات، بدأت في قرى الجنوب منذ اللحظات الأولى لوقف إطلاق النار، فيما وصلت سماء العاصمة بيروت في 29 تشرين الثاني.
ومنذ ذلك الحين، يستمرّ تحليق الطيران الإسرائيليّ المسيّر بشكل شبه متواصل. ولا تتضمّن البيانات التي توثقها “المفكرة” اليوم، تحليق الطائرات الإسرائيلية غير المرصود بالعين المجرّدة، كما أنّها تصنّف الخرق بناء على الإبلاغ عن تحليق الطيران الإسرائيلي مرة واحدة فوق قضاء واحد، بغض النظر عن فترات التحليق، وعدد الطائرات، ومرّات تجاوزها للخط الأزرق. لكنّ ما تظهره البيانات بشكل واضح هو خرق إسرائيل للسيادة اللبنانية والتجسّس على المقيمين بشكل شبه متواصل منذ لحظة وقف إطلاق النار.
التصعيد الأكبر
يكشف تحليل البيانات للخروقات الإسرائيلية خلال فترة وقف إطلاق النار عن استمرار واضح للهجمات العدائية. في قرى الجنوب، تصل أصوات الخروقات اليوميّة إلى آذان السكّان لا سيّما مع حلول الليل. وعبّر السكّان الذين جمعت “المفكّرة” شهاداتهم عن قلقهم من استمرار التصعيد من جانب واحد اليوم. يقول حسيب دخل الله من بلدة قانا إنّ “هذا الروتين عشناه قبل التوسّع الأخير للحرب، وعلى مدى عام. اليوم يوجد إعلان وقف إطلاق نار، لكنّ إسرائيل تعتدي”، بدورها تقول زينب العلي، من سكان قضاء بنت جبيل: “نعيش على وقع هذه الاعتداءات يوميًا، لكنّنا نرفض أن نطبّع معها، وننتظر تنفيذ سائر بنود الاتّفاق لا سيّما انسحاب الجيش الإسرائيليّ كي يعود إلى القرى أهلها ويعود الأمان إلينا”.
الرسم البياني رقم 2: وتيرة الخروقات الإسرائيلية من فجر 27 ت2 ولغاية غروب 16 ك1
ورغم الاستمرار الموثّق للخروقات على طول الخطّ الزمنيّ في الفترة موضوع الدراسة (20 يومًا)، تبرز لحظة ذروة في الثاني من كانون الأوّل 2024، حيث سجلت البيانات ارتفاعًا ملحوظًا في الخروقات بلغ 47 خرقًا في يوم واحد، سببه قفزة في عدد الغارات الجويّة الإسرائيليّة. سيسبق هذه الذروة 120 خرقًا إسرائيليًا بنمط متذبذب لكنّه مستمر، يشمل القصف الجوي والمدفعي، والطيران التجسّسي، وعمليات التوغّل والنسف والتجريف، وقد سجّل في هذه الفترة أيضًا سقوط جرحى وشهداء من العائدين. وسيستمرّ هذا النمط من الخروقات بشكل متذبذب ولكن شبه ثابت في الفترة اللاحقة.
هذا التصعيد تزامن مع إعلان حزب الله تنفيذه “ردًا دفاعيًا أوّليًا تحذيريًا” مستهدفًا موقع رويسات العلم التابع للجيش الإسرائيلي في تلال كفرشوبا اللبنانية المحتلة. حينها شنّ الجيش الإسرائيليّ سلسلة غارات جوية ليلة 2- 3 كانون الأوّل، أسفرت عن أعلى فاتورة بشرية خلال يوم واحد منذ بدء الهدنة، مع سقوط 15 شهيدًا وعدد من الجرحى، حيث تم استهداف الأسر في منازلها بشكل مباشر، وهو ما تكرّر في غارات لاحقة في بيت ليف (قضاء بنت جبيل) ودبين (قضاء مرجعيون).
وتؤشّر هذه البيانات إلى محاولة إسرائيل فرض معادلة تقابل أي قصف من لبنان بسلسلة غارات وهجمات جوية على المنازل المأهولة، مقابل نهج إسرائيلي ثابت يتضمّن التدمير الممنهج للمنازل، والقصف المدفعي، وعمليات التمشيط الناري. إضافة إلى توغّلات متفرقة ومداهمات وعمليات قصف جوي متقطعة تستمر في حصد الأرواح، مرتبطة في كثير من الأحيان بعودة السكان إلى منازلهم.
فاتورة الدم
في ليلة التصعيد الكبير أي الثاني من كانون الأوّل 2024، ارتكبت إسرائيل مجزرة في حاريص (قضاء بنت جبيل)، حيث استشهد الشقيقان جميل ناصر وحيدر ناصر وزوجة الأخير هلا ونجله الطفل مهدي، والشابان عبدالله العلي وحسن العلي، في غارة على منزلَي سكن عائلة ناصر. وقبلها بساعات، استشهد العريف مهدي خريس من مديريّة أمن الدولة الإقليمية في النبطيّة، إثر استهدافه بغارة من مسيّرة “خلال أدائه واجبه الوطني”، وفق بيان المديريّة.
في اليوم التالي، أي الثالث من كانون الأوّل استشهد جمال محمد صعب في شبعا (قضاء حاصبيا)، وهو راعي أغنام، في غارة من مسيّرة، وفي 11 كانون الأول، سيستشهد حمزة بدّاح، في غارة من مسيّرة استهدفت سيارته، بعد عودته من مزرعة الأبقار التي يملكها، في وادي العيون بين رشاف وبيت ليف (قضاء بنت جبيل). وسيستشهد أيضًا محمد حراجلي، العامل الذي يعرفه أهل بنت جبيل إسكافيًّا عتيقًا، في غارة من مسيّرة مع جاريه هشام ومحمد بيضون اللذين كانا يساعدانه في إصلاح سيارته في جوار منزله في حي العويني في بنت جبيل. وفي اليوم عينه، سقط ابن عيناثا علي موسى السيّد شهيدًا في عيترون (قضاء بنت جبيل)، في غارة على منزل يعمل فيه حارسًا منذ سنوات.
وفي يوم 12 كانون الأوّل، وبعد دخول الجيش اللبناني إلى الخيام (قضاء مرجعيون)، سيستشهد الشاب مصطفى عواضة ويُجرح رفيقاه في غارة من مسيّرة معادية استهدفتهم خلال وجودهم في ساحة الخيام. كان مصطفى قد اطمأن إلى دخول الجيش اللبناني بلدته، فحاول العودة إلى الخيام وصوّر فيديو في أحيائها يوثق الدمار اللاحق بها، وذلك قبيل استهدافه وقتله.
وفي فترة الهدنة، كان من بين الشهداء المسعف في الهيئة الصحية الإسلامية حسن علاء الدين، والعنصر في الدفاع المدني اللبناني علي نبعة.
هؤلاء كلّهم تسمّيهم الحاجّة فاطمة، الستّينيّة من صدّيقين، “شهداء الغدر” عبارة كُتبت على صورة شهداء مجزرة حاريص ووضعتها في صالون بيتها: “لقد انتهت الحرب لكنّ الإجرام لم ينتهِ”، معتبرة أنّ استهداف الأسر وموت الشبّان اليوم هو شهادة على “الغدر، ونقض العهود والمواثيق”. وتقول ابنتها زينب التي عرفت شهداء حاريص عن قرب إنّ “هذه الجريمة هي دليل على الإرهاب الذي لا يمكن لشعب أن يتعايش معه، فمرّة جديدة، يُستهدف المدنيّون الآمنوّن في منازلهم من أجل إيصال رسائل سياسيّة وعسكريّة وفرض أمر واقع جديد على السكّان كأن يتأقلموا مع الاعتداءات اليوميّة على قراهم”.
الرسم البياني رقم 3: عدد الشهداء والجرحى الذين سقطوا في الأيام الـ 20 الأولى لوقف إطلاق النار
حدود النار
الأمر الواقع الذي تحكي عنه زينب، يبرز من خلال هجمات يوميّة يستيقظ عليها أهالي القرى وينامون، لا سيّما تلك التي تجاور قرى لا يزال جنود إسرائيليّون يتمركزون فيها. فقد تركّز إطلاق الرصاص والتمشيط بالأسلحة الرشاشة على قرى الخط الأول والثاني، وهو استهدف بشكل مباشر أسرًا ومدنيين، كما في عيترون والخيام. وفي بنت جبيل، استهدفت الأسلحة الرشاشة الثقيلة والمتوسّطة أحياء سكنية، ومحيط المستشفى الحكومي، كما استُهدفت عناصر أمنية رسمية خلال تفقدهم سرايا بنت جبيل. ويستمر هذا التمشيط بشكل يوميّ ضد القرى التي عاد أهلها إليها، المجاورة لتلك التي لا تزال مقفلة ويحتلها الجيش الإسرائيلي.
وتظهر البيانات تركّز هذا النمط من العمليّات في بنت جبيل وفي مجدل زون (قضاء صور). وتمارس هذه الانتهاكات من داخل أراضٍ لبنانية، ضدّ قرى لبنانية. والقصف المدفعي، والرمايات وعمليات التمشيط بالأسلحة الرشاشة، تضع مناطق واسعة خارج تواجد القوّات الإسرائيليّة حاليًا ضمن دائرة الخطر.
ويقدّم المختار كمال سعيد من مجدل زون صورة عن أثر هذه العمليات على الحياة اليومية للسكّان، موضحًا لـ “المفكّرة” أنّ السكان يعانون من خطر القصف العشوائي وإطلاق النار الذي لا ينقطع، ممّا يعرض حياتهم للخطر بشكل دائم، ويسلب منهم أي شعور بالأمان.
توغّل وتدمير
أحد المؤشّرات الخطيرة التي تظهر خلال تحليل البيانات، هي استمرار استراتيجية التوغّل والتدمير في بعض القرى والبلدات، وبشكل يوميّ أيضًا. وقد أظهرت البيانات حدوث 14 عمليّة توغّل خلال فترة الـ 20 يومًا الأولى من وقف إطلاق النار، كان أخطرها في الناقورة (قضاء صور) وفي الخيام ومركبا (قضاء بنت جبيل)، حيث ترافقت هذه العمليات مع تدمير واسع النطاق.
الرسم البياني رقم 4: توزّع عمليات النسّف والتجريف الموثّقة في القرى
في الخيام، تظهر البيانات التي جمعتها “المفكّرة” كيف استغلّت القوّات الإسرائيلية إعلان وقف إطلاق النار لتوسيع نطاق توغّلها. على الرغم من المقاومة الشديدة خلال الحرب، تمكّنت هذه القوّات من الدخول إلى الأحياء الغربية من البلدة فقط بعد وقف الأعمال العدائية، مخلّفةً وراءها دمارًا واسعًا في البنى التحتية والممتلكات. وفي مركبا، جرّفت القوات المتقدّمة أراضٍ ومنازل في البلدة.
في الناقورة، تُظهر الصور الفضائية التي راجعتها “المفكرة” ارتفاعًا مذهلًا في حجم الدمار. يتّضح من الصور أنّ نسبة الأضرار والتدمير في المناطق السكنية ارتفعت من الثلث إلى الثلثين خلال فترة الهدنة، جرّاء عمليّات النسف والتجريف. وكانت مواجهات شرسة قد شهدتها القرى المحيطة بالناقورة، ولم يدخلها الجيش الإسرائيليّ إلّا تحت غطاء وقف إطلاق النار.
وقد استمرّت عمليات النسف في الخيام بين 9 و12 كانون الأوّل، وهي الفترة التي أعقبت ما كشفه مصدر عسكريّ لبنانيّ لـ”المفكّرة” عن تعهّد الجيش الإسرائيليّ الانسحاب من الخيام في خلال الاجتماع الأوّل للجنة الإشراف على تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار يوم 9 كانون الأوّل، وحتى يوم بدء دخول الجيش اللبناني في 12 كانون الأوّل. في المقابل، بدأت عمليات التوغل والنسف في الناقورة يوم 12 كانون الأوّل تحديدًا، مع الانسحاب الجزئيّ من الخيام وبدء دخول الجيش اللبناني إليها.
فاتورة النسف
وبشكل عام، تُظهر بيانات “المفكّرة” أنّ 15.7% من الخروقات، بما يُعادل 45 هجومًا خلال 20 يومًا، كان عمليات نسف وتجريف واسعة النطاق. هذه الأفعال لا تدمّر البنى التحتية فحسب، بل تهدف بشكل استراتيجي إلى استكمال ما دأبت إسرائيل على فعله قبل وقف إطلاق النار من تحويل القرى الحدودية إلى مناطق مهجورة وغير صالحة للعيش وتعقيد عمليات العودة وإعادة الإعمار رغم انتهاء الحرب وهدف الاتفاق بتمكين عودة السكان. هذا النوع من الهجمات هو الأكثر تدميرًا، إذ تنسف أحياءً سكنيّة بحالها، إضافة إلى تجريف طرقات وأراض زراعيّة وكروم زيتون تشكّل عصب الاقتصاد المحلّي. وفيما قمنا بتسجيل كلّ عملّية نسف موثقة هنا على أنّها خرق واحد، بينما هو في الحقيقة نسف أعداد كبيرة من المنازل، أو حتى أحياء سكنية بأكملها.
وقد عمدت القوّات الإسرائيلية إلى التوغّل من أجل قطع طرقات بالسواتر الترابية، كما حدث في منطقة دوبيه بين شقرا وميس الجبل، أو في شبعا، حيث قطعت بالسواتر الترابية الطريق التي تربط بلدة شبعا بمحور بركة النقار. في المقابل، توغّلت هذه القوّات يوم 11 كانون الأول من أجل شق وتوسيع طريق عند قمة جبل الشيخ في المقلب الغربي من الجهة اللبنانية، لربط الموقع السوري الذي احتلّته قبل أيام، بمواقعه على الهضاب الجنوبية لجبل الشيخ.
وفي مارون الراس، وكفر كلا، وميس الجبل، والعديسة، ويارون، استكمل التدمير خلال فترة الهدنة، وبفعل عمليات التفخيخ والتفجير تحديدًا، وتظهر صور أقمار اصطناعيّة توسّع التدمير في الحيّ المسيحيّ في يارون بعد أن تركّز التدمير في الحيّ الإسلاميّ من القرية المختلطة. بدورها شهدت مناطق مثل مركبا وشمع وطيرحرفا عمليّات نسف وتجريف هي الأوسع نطاقًا رغم انتهاء الحرب.
وضعت “المفكّرة” أعمال نسف القرى في إطار جرائم الحرب التي تستوجب التحقيق، وقد حقّقت على وجه الخصوص في نسف قرية محيبيب، وقرية بليدا ومسجدها والأحياء القديمة، وتجريف الكروم، واضعة هذا النمط من الجرائم في إطار محو المشهد الثقافي والعمراني. ويؤشّر استمرار عمليّات النسف اليوم إلى احتفاظ إسرائيل بهذه الأهداف ضدّ كامل المنطقة الحدوديّة، مع اضمحلال أيّ ذرائع حربيّة، بفعل وقف إطلاق النار.
وإذ تستمرّ السرديّة الإسرائيليّة في الترويج لحجّة “تفكيك بنية تحتية عسكريّة” في هذه القرى، فإنّ تحقيقات “المفكّرة” أثبتت عدم مشروعيّة نسف القرى بحجّة وجود أيّة بنية تحتية عسكرية، فضلًا عن إثبات أنّ معظم هذه التفجيرات كان من خلال عمليّات تفخيخ فوق الأرض، فيما وثّقت “المفكّرة” لاحقًا تهديم مسجد مارون الراس بواسطة جرّافة، بعيدًا عن أي ادّعاء بوجود بنية عسكريّة تحتيّة.
وترى “المفكّرة” في نسف القرى جريمة واضحة المعالم ترقى إلى جريمة حرب محتملة كونها تستهدف منازل وأعيانًا مدنية وآثارًا تاريخية ودور عبادة يُحظر استهدافها طاما أنّها لا تشكل أهدافًا عسكرية مشروعة. وعلى فرض وجود هدف عسكري مشروع لاستهدافها في زمن الحرب، يبقى أنّه يجب احترام مبدأ التناسب بحيث تُحظر الهجمات التي تسبب أضرارًا مدنية تتجاوز الميزة العسكرية الملموسة والمباشرة للهجوم.
إلى هذا، فإنّ إعلان وقف إطلاق النار، واضح بالتأكيد على سيادة لبنان، ومرجعية القرار 1701، وتعتبر القوّات الرسميّة اللبنانيّة المسؤولة الوحيدة عن التعامل مع أي بنية تحتيّة عسكرية، بموجب القرار وإعلان تطبيقه.
ذريعة “الدفاع عن النفس”
يُظهر هذا التحقيق، بكل وضوح، أنّ الخروقات الإسرائيلية ليست مجرّد حوادث عرضية أو معزولة، بل هي نمط متواصل يعكس استراتيجية متعمّدة تهدف أوّلًا إلى تقويض أي فرصة لاستقرار حقيقي وعودة الحياة إلى طبيعتها في جنوب لبنان، وتحاول ثانيًا تثبيت أمر واقع طويل الأمد على طول المنطقة الحدودية، حيث تستمرّ عمليات التوغل والنسف وتبقى آثارها حتى بعد انسحاب القوات الإسرائيلية كما يفرض إعلان وقف إطلاق النار.
وفي ظلّ التصريحات المتكرّرة من قبل المتحدّثين العسكريين الإسرائيليين، تحاول إسرائيل تصوير خروقاتها واعتداءاتها على أنّها تحت عنوان “تنفيذ الاتفاق” أو “الدفاع عن النفس”، أو تدابير لـ “إزالة التهديدات على إسرائيل ومواطنيها”، وهي عبارة تردّدت بأشكال مختلفة لكن بالمحتوى نفسه، مع ادّعاء متواصل بالالتزام بتفاهمات وقف إطلاق النار. وتُبرز هذه التصريحات محاولة إسرائيل الإيحاء بحقها في “حرية حركة” مزعومة لم ينصّ عليها إعلان وقف إطلاق النار، الذي على النقيض، أكد على سيادة لبنان والتزام القوّات الرسمية اللبنانية بتنفيذ الاتفاق بشكل حصري على الأراضي اللبنانيّة.
فالوقائع الموثّقة تدحض بقوّة ادّعاءات إسرائيل. والأدلّة تشير إلى أنّ الأعمال الإسرائيلية لم تكن استجابة لهجوم عسكري مباشر من لبنان. إعلان وقف الأعمال العدائية لا يمنح إسرائيل “حرية حركة” أو أيّ حرية على الأراضي اللبنانية، باستثناء الانسحاب خلال مهلة 60 يومًا، وقد نصّ الإعلان على أنّه “لا تمنع هذه الالتزامات إسرائيل أو لبنان من ممارسة حقهما الطبيعي في الدفاع عن النفس، بما يتفق مع القانون الدولي”.
وفقًا لقراءة “المفكرة”، تمثّل العمليات العسكرية الإسرائيلية المستمرّة، بما في ذلك الغارات الجوّية والتوغّلات البرية وعمليات النسف والتجريف في القرى الحدودية، استخدامًا للقوّة ينتهك بشكل مباشر سيادة لبنان ويعدّ غير قانوني بوضوح تام. فوفقًا لميثاق الأمم المتحدة واجتهادات محكمة العدل الدولية، إنّ الحق في الدفاع عن النفس محفوظ للدول التي تتعرّض لعدوان مسلّح فعلي، ولا يوجد حق قانوني بالقيام بعمليات عسكرية أحادية الجانب تحت غطاء الدفاع عن النفس إلّا في مواجهة اعتداء مسلّح واضح ومثبت. وبما أنّ الأفعال الإسرائيلية لا تشكّل ردًا على أيّ عدوان مسلّح فعلي من جانب لبنان، لا يمكن تبريرها تحت زعم الدفاع عن النفس.
بالتالي، من الضروري تعريف هذه الأعمال على حقيقتها: انتهاكات للقانون الدولي وتعدّيات خطيرة على سيادة لبنان وخرق للقرار 1701 وإعلان وقف إطلاق النار.
ويبقى أنّ الخروقات الموثقة ليست مجرّد أرقام في تقارير، بل هي قصص حياة تتقاطع مع الموت يوميًا. يجب ألّا يُنظر إلى هذه الخروقات على أنّها مجرّد مسائل فنية تخضع للتحليل الجيوسياسي فحسب، بل كانتهاكات وجرائم تستوجب الوقوف أمامها والتصدّي لها بكل جدية ومسؤولية.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.