“علينا أن نتأكد من أنه أينما ذهب جيشنا في غزة، هناك دمار.. لا يوجد براءة” يقول أورين شندلر، قائد الكتيبة 74 من اللواء 188 في الجيش الإسرائيلي، الذي يقر خلال مقابلةإذاعية يوم الثلاثاء 16 كانون الثاني أنه “أينما ذهبت كتيبتي في غزة، كنت أضمن أننا نترك خراباً لا أقل”، مضيفاً: “في كل مكان كنا فيه، لم نترك سوى الرمال والبيوت المسطحة بالأرض.. لأنه لا يوجد براءة في غزة”.
بروحية هذا التصريح ومضمونه وتبعاته، ومعه جرائم العدوان الإسرائيلي منذ 7 تشرين ألأول 2023 ولغاية اليوم، تتواصل حرب الإبادة الجماعية بحق أهل غزة، وتحت وطأتها، يعيش نحو مليونين و300 ألف فلسطيني، ولكن لكلّ منهم روايته الخاصة ومعاناته. من بين هؤلاء، وصلتُ إلى أسرة غزاوية نزحت من شمال القطاع إلى خان يونس اليوم، بعدما صمدت بين شرق غزة وغربها لشهرين. وإثر نزوحها السابع إلى محيط مسجد فلسطين غرب غزة، اقتحم جيش الاحتلال المنطقة واعتقل جميع أفراد الأسرة. وبين حصار جيش الاحتلال والاعتقال، لغاية إطلاق سراحهم، بسبب ضرورات عملياتية للجيش الإسرائيلي، 7 أيام، تمكنا من توثيق بعض تفاصيلها، لتجربة أسرة كاملة تعرضت للانتهاكات ومحاولة الإذلال الجسدي والنفسي، واستعمال بعضهم دروعا مدنية.
وبعد موعد تأجل مرات عدة، بسبب تقطُّع الانترنت في قطاع غزة المحظور على دخول الصحافيين من خارج القطاع، نجح الاتصال بخالد (اسم مستعار)، وهو اتصال انضم إليه بعض أفراد الذين لا يزالون يحتاجون إلى حماية هويتهم طالما أن ابنهم الأصغر ما زال رهن الاعتقال “وهو تحت خطر التعرض للانتقام من قبل الإسرائيليين”.
تضع الأسرة محنتها في إطار: “مجرد مثال على شو بصير فينا”، مع إدراك أفرادها أن ضراوة المعارك وعدم قدرة الجيش على التمركز بالأرض والاحتفاظ بها مطولًا جنبتهم مأساة أكبر: “كنا محظوظين أنهم أطلقوا سراحنا بعد 3 أيام، بسبب اضطرارهم إلى تغيير مواقعهم”.
قصة أسرة خالد: نزوح فحصار من الدبابات
يبدأ خالد كلامه بالعودة إلى الأسبوع الثاني من شهر كانون الأول المنصرم، حينما كانت دبابات جيش الاحتلال الإسرائيلي تتقدم في غرب مدينة غزة: “كنا 35 فردًا نازحا في 4 غرف”، والبيت الواقع في محيط مسجد فلسطين في حي الرمال، هو سابع منزل تنزح إليه أسرته. يعود المنزل لأحد أشقاء صديقه، وكان حجمه المعيار الأساس في اختياره: “واسع ليسعنا جميعًا، نحن لا نبحث عن أمان لأن لا متر مربع آمن في غزة”، يقول خالد.
وصلت الأسرة إلى المنزل يوم 4 كانون الأول 2023. باتت ليلتها على صوت جنازير الدبابات تتقدم في الأحياء المجاورة، لتستيقظ وقد حاصرتها القوات الإسرائيلية. بزغت شمس غزة في الـ5 من كانون الأول وفي قلوب الأهالي خوف ورعب، كان “سيدي” (كما يسمي الفلسطينيون جد العائلة) يحاول تهدئة روع الأطفال، فيما تقرأ النساء القرآن، وتحاول إحداهن تهدئة رضيعها بقليل تيسر من حليب الأطفال بعد أن جف لبنها جراء التوتر والرعب. وكان الشبان ينشغلون في محاولة تأمين ما يتوفر من غذاء من الشقق المجاورة الخالية من سكانها، لأن الحصار قد يطول. هبط المساء “وفي جعبتنا كيسي فول وعدس، وبعض الجبنة، ومعلبات، بما يكفينا يومين على الأكثر”. رغم هذا، مكثت الأسر 72 ساعة تحت الحصار “نتلصص من الستائر لنشاهد تقدم جيش الاحتلال في أحيائنا، بيتا وراء بيت”.
مشاهدات من خلف الستار
شهد النازحون يومها على أحداث مروعة “وكنا نعرف أن دورنا آت”، يقول خالد. هنا تتدخل حنين، ابنة شقيقته (16 سنة)، لتخبر عن مشهد تعذيب فتاة في الشارع لم يغب عن ذهنها: “كانت فتاة أعرفها من بعيد، اسمها آية وقد التقينا عدة مرات في دكان الحي قبل النزوح، كانت بعمر الـ16 أو الـ17 سنة، وشعرها طويل يصل إلى أسفل ظهرها”، في اليوم الثاني من الحصار، سمعت صريخًا في الشارع، فركضت إلى النافذة، ومن وراء الستار، راقبت مجندة صهيونية تجرها من شعرها لسبب ما، فيما انهال المجندون عليها بالضرب ببنادقهم، وكنت أرى خصل شعرها تنتزع من رأسها بيد المجندة، حينها دخلت الحمام ووقفت أحدق بشعري، فيما مشهد تعذيب آية من شعرها شاخص أمام عيني. تقول حنين: “ضربها الجنود على رأسها ووجهها ومناطق حساسة من جسمها”. لاحقًا ستكتشف حنين خلال احتجازها مع آية أن سبب هذا الضرب كان محاولة الأخيرة حماية حقيبة صغيرة من التلف فيها مقتنيات خاصة لوالدتها التي استشهدت بغارة إسرائيلية في الأيام الأولى للعدوان.
يأخذ خالد الحديث من حنين، وقد تأثر صوتها ولمعت دموعها في عينيها البنيتين من وراء شاشة لم تستقر جودة صورتها للحظة بسبب سوء الإنترنت، يقول الخال العشريني: “لقد شهدنا على فظائع خلال فترة الحصار في منزلنا، كنت أرى كيف يتقدم الجنود إلى البيوت تدريجيًا، ثم يقتحمونها، فيبدأ إطلاق نار مرعب في الهواء، يتم تحت وابله إخراج الرجال باتجاه والنساء باتجاه آخر، فيما الأولاد يلازمون جانب أهلهم”. يروي خالد هنا أنه خلال مداهمة أحد المباني، ركض طفل من بين الرجال بإتجاه والدته على الجانب الآخر من مستديرة وسط الحي، فأطلقت مجندات رصاصات عدة على الإسفلت، أرعبت الطفل فغير مساره، ولم يجرؤ على العودة إلى والده بسبب مشهد الجنود المسلحين بدورهم، ففر خارج المنطقة، ولم يعرف له أثر بعد.
وخلال هذه الأيام “كانت الاشتباكات ضارية، والقصف المدفعي والجوّي والبحري لا يهدأ، كنّا نترقّب لحظة استشهادنا، ونتحضّر لاحتمال وقوعنا بالأسر”.
وتتنوع الانتهاكات التي شهد عليها النازحون بانتظار لحظة وصول الجنود إليهم، وهي لحظة يحفظونها جيدًا ويتهيأون لها، مع الكثير من التعليمات للأطفال. وفيما كان الجوع يتسلل إلى أمعائهم، كان التوتر في صدورهم يسد شهية الراشدين، فيما النسوة مثلًا يرتدين قمطات تحت حجابهن وملابس من عدة طبقات تحت عباءاتهن حتى إذا ما نُزعت أو تضررت ثيابهن خلال اقتيادهن للاعتقال، يبقى لهن ما يستر أجسادهن.
وجاء يوم الثامن من كانون الأول، وكانت أصوات دعسات الجنود على الدرج مسموعة للأسرة، ليُقتحم باب المنزل ويبدأ فصل أشد من الانتهاكات.
الجيش الإسرائيلي في منزلنا: “حمقى مذعورون برشاشات لا تهدأ وعيون تقدح حقدًا”
“شكل دخول الجنود إلى منزلنا اللحظة التي وقفنا فيها مع العدو وجهًا إلى وجه”، تقول حنين لتضيف “وفي بالنا أن نحمي أرواحنا، وأن لا تخضع قلوبنا لألوان التعذيب الجسدي والنفسي التي كنا نراها آتية”.
يحكي خالد عن اللحظات الأولى لاقتحام المنزل: “مع وصول الجنود، كانت أيادينا مرفوعة، فرقنا الاحتلال رجالًا ونساءًا، فيما بدأ تفتيش المنزل”. كان كلام الجنود صراخ بصراخ، “وكأنهم غير متزنين، أو مرعوبون منا رغم أنهم مدججون بالسلاح ونحن مدنيون عزل، وكل أمر يترافق مع رصاصهم، فلا يبقى لديك مجال للتفكير في تنفيذه”. أوقفت العائلة ووجوه أفرادها إلى الحائط “فيما بدأ الجنود ببعثرة أغراضنا، وتفتيشها، وتدميرها”، يقول العشريني الفلسطيني: “همّ كانوا يدمرون كل شيء”. من أحد الحقائب، تدحرجت علبة حليب للأطفال فداسها أحد الجنود بقدميه بحجة التأكد من محتواها: “وكانت آخر ما تبقى بحوزتنا لإطعام الرُضّع الثلاثة بيننا”.
وفي المنزل، “قادني الجنود إلى غرفة النوم لأفتح الخزائن بنفسي أمامهم، كإجراء احتياطي ربما، وهناك نبش الجنود ملابس داخلية لزوجة شقيقي من شنطة نزوحها، ورموها في وجهي، مع سيل من التعليقات، بغرض الإذلال”، يقول خالد وهو يشيح بوجهه من أمام الكاميرا، كأنما يكرر ما فعله في تلك اللحظة: “كنت أعضّ على جرحي، وأفكر بالأطفال والنساء الذين أريد أن أبقى حيًا كي أحميهم بروحي إذا ما حاول أحد التعدي عليهم”.
يتابع خالد: “أُخرجنا من المنزل تحت تهديد السلاح تحت وابل من الشتائم والإهانات، وحينها لمحت إبن شقيقتي الأصغر، البالغ من العمر 5 سنوات، يحاول الإختباء تحت طاولة السفرة في المكان، فما كان من جندي إلا أن انقضّ عليه ورماه باتجاهنا بكل قسوة، فانكسر قلبي على والديه العاجزين عن إغاثته”. وكان الجنود المعتدين، بحسب شهادات الأسرة،: “يتعمدون أذية الأطفال، ربما ليُظهروا لنا أنهم قادرون على فعل أي شيء”. وفي الشارع: “وقفنا قرب حائط وأيادينا مرفوعة، يحاول أحدنا تهدئة الآخر لأن أي ثورة كانت ستعرض حياة الجميع للخطر الأكيد، وبيننا 12 فردًا من الأطفال.
تدمير البيوت أمام عيون النازحين
طلب المحتلون من الجميع رفع هوياتهم، وشرعوا باستجواب المدنيين. استجواب سرعان ما تحول إلى عرض ترهيبي: بيت من هذا؟ يسأل أحد الجنود، وقبل أن يأتيه الجواب، يطلق النار باتجاهه، ويتكرر الأمر من منزل إلى أخر، حتى إذا ما ملّ الجنود من إطلاق الرصاص، استعانوا بسلاح آخر أشد فتكًا، فأحرقوا المنازل أمام أعين أهلها، ودُمرت السيارات: “هم لا يملكون سجونًا تتسع لمليوني فلسطيني، لكنهم أرادوا منعنا من العودة إلى منازل إذا ما فرغوا من التنكيل بنا، وأرادوا دفعنا للنزوح نحو الجنوب، لنخبر النازحين هناك عما تعرضنا له، كي لا يفكروا بالعودة أبداً”، يقول خالد ردًا على سؤالي: “هذا ليس تحليلي، هذا ما أخبرونا به بأنفسهم من خلال عبارات مثل: قولوا للناس ما عدلكنش بيوت في غزة، السنوار دمر لكم اياها”.
في الأيام القليلة المقبلة، سيجرف الاحتلال المنطقة، ويهدم المزيد من البيوت. وفيما كان الرجال معتقلون في مدرسة قريبة لثلاثة أيام، تُركت النساء في الشوارع خلالها، دون أن يسمح لهن بالمغادرة. ولم يكن التدمير مجرد عرض للقوة أمام النازحين لترهيبهن وتشريدهن مؤقتا، بل مُسح الحي، ونُسفت المباني في منطقة مسجد فلسطين، وهو ما تبّلغ به خالد وأسرته من مكان نزوحهم الجديد، وعلى الهواء مباشرة، ذلك عبر غارات عنيفة شنت على المنطقة في أواخر كانون الأول الماضي.
المدنيون دروع بشرية بيد جيش الاحتلال
“دروع بشرية” هو التوصيف الأول والوحيد الذي يعطيه والد خالد لخلفية احتجاز المدنيين لثلاثة أيام في المنطقة، ردًا على سؤالنا عن ما يعتقدون أن الاحتلال هدف إليه من خلال وضع الرجال في المدارس والنساء في الشوارع: “هم يخافون من أن ينتفض أحد الرجال، فيحرصون على تشديد ظروف الاحتجاز في المدرسة التي اتخذوها بمثابة نقطة تمركز لهم خلال تقدمهم البري في المنطقة، في المقابل نُشرت النساء مع أطفالهن في الشوارع لضمان عدم تعرض المنطقة لهجوم مقاومين”، يضيف أبو خالد.
وفي المدرسة رُبطت أيادي المعتقلين بحبال بلاستيكية “كان يتم تضييقها على أيدينا لتحبس الدم عن كفوفنا”، وتعرض الرجال لمختلف صنوف التعذيب الجسدي “وكنا نُضرب ونُجوّع”، بحسب شهادة خالد. ولم تقتصر الإنتهاكات على الجسدي منها، بل النفسية أيضاً: “هُددنا بالاغتصاب، وشُتمت نساؤنا، وشُنّت حرب نفسية ضدنا بشأنهنّ”، يقول الوالد، ليتدخل خالد هنا: “كان الجندي يخاطبني في أحيان كثيرة بصيغة الأنثى، قاصدًا تحقيري، ثم يطلقون الكلام النابي والملاحظات المسيئة حول أجساد أخواتي”. يحكي خالد عن أن بعض المعتقلين كانوا يُسحَبون من أجل إنزالهم مع كاميرات في أنفاق مكتشفة، للتأكد من خلوها من المقاتلين، فيشرح الوالد كلامه هنا: “دروع بشرية قلتلك”.
ولأم خالد، السيدة التي كانت تلتزم الصمت، وتخاف على أسرتها، مداخلة قصيرة: “شفنا فيديو لإمرأة بيقتلوها وهي حاملة الراية البيضا، عصر قلبي عليها، هم لو ما احتاجونا دروع كانوش خلونا طيبين، كانت المعارك ضارية على بُعد أمتار فقط من حيّنا”.
اعتقالات لمدنيين: رهائن جدد بيد إسرائيل
خلال الاعتقال، يقول خالد إنه “سحب الكثيرون منا، ولم نعرف مصير الكثير منهم، بعضهم ربما استشهد، وبعضهم عرفنا لاحقًا أنه نقل إلى سجون داخل الأراضي المحتلة، ومنهم شقيقي الذي تأكدنا من نقله إلى سجن بئر السبع، ولا نعرف ما حل به لاحقًا”.
وتعتبر الأسرة أن ولدها “رهينة” بيد الاحتلال، “فهو مدني، وليس له أي علاقة بالقتال، لكن الاحتلال يُهجّر، ويقتل، ويعتقل المدنيين، ربما ليفاوض عليهم لاحقًا”. وقد وثقت تقارير فلسطينية اعتقال المدنيين ونقلهم إلى سجون الاحتلال، فضلًا عن المقاطع المصورة التي نشرها الجيش الإسرائيلي بنفسه لاعتقال المئات منهم، وبينهم صحافيين، منهم الزميل ضياء الكحلوت، فيما مدد الكنيست الإسرائيلي يوم الثلاثاء 16 كانون الأول ما أسماه “أمر طوارئ”، والذي “يمنع سكان غزة المحتجزين من رؤية محامٍ”، بحسب الإعلامالإسرائيلي، ما يمثل اعترافا بأن سياسة اعتقال المدنيين وسوقهم إلى الأراضي المحتلة هي سياسة ممنهجة يتبناها الاحتلال، وبما يبقي مصير الغزاويين المعتقلين مجهولًا، ويعزز تحليلات الأسر الفلسطيني بأن أبناءها “أُخذوا رهائن”.
لكن بالنسبة لخالد: “شعب غزة كله مأخوذ رهينة والإبادة الجماعية جارية على قدم وساق”. اليوم، خلال كتابة هذه السطور، فيما الاتصالات قُطعت في منطقة نزوح الأسرة، وتتلاحق الأخبار عن تقدم لجيش الاحتلال قرب مستشفى ناصر، حيث تقيم في خيمة في منطقتها. ننشر المقال، فيما أخبار خالد وأسرته مقطوعة، هل ينزحون مجددا قبل وصول الدبابات؟ أم يكون لهم وقفة جديدة مع الجنود الغزاة؟ سؤالان تختصر الإجابة عليهما ما ختمت به أم خالد بكلمات قليلة: “نحن لو برمنا غزة 100 برمة، لا نغادرها، مش مهم العالم يعرف أو يشوف، المهم نحن أحياء وصامدين في أرضنا لو بدهم يبيدونا كلنا، لأن النكبة صارت مرة، والمرة التانية عودة”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.