لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان
علم وخبر 29/أد
بيت المحامي – بيروت 16/12/2014
بإسمي، باسم الأهالي، بإسم قضية المفقودين والمخفيين قسرياً في الحرب أو الحروب اللبنانية، نشكر وجودكم بيننا ونثمنه أكثر مما تتصورون. دعونا نعرّفكم قليلاً على الطرف الثالث الذي يتشرف بإستقبالكم اليوم إلى جانب اللجنة الدولية للصليب الأحمر ونقابة المحامين في بيروت.
سيداتي، سادتي
نحن طائفة مؤلفة من آلاف من اللبنانيين ومن المقيمين على الأراضي اللبنانية الذين فقدوا واختفوا قسرياً ومن عشرات الآلاف من أهاليهم. لسنا من الطوائف المعترف بها رسمياً. نحن بدأنا نتشكّل تدريجياً عام 1975 مع بداية الحرب في لبنان، ثم توسعت صفوفنا سنة بعد سنة حتى نهاية الحرب. أنا مثلاً إنتسبت إلى هذه الطائفة عام 1982 . للحقيقة أقول أن لا أحد منا أراد الإنتساب طوعاً إلى هذه الطائفة الفريدة، لم يختر أحد منا هذا المصير المشؤوم، لا المفقود ولا أهله. إنه ثقل يقع على حبيب لك، عليك، على أهلك وأهله، على أولاده وأولادك، ولا يستطيع أحد معالجة هذا الجرح إلا بالبحث عن المفقود، إلا بالإطمئنان عن مصيره ولو بعد مئة سنة، حياً كان أم ميتاً، في لبنان أو سورية أو في أي مكان في المعمورة. لذلك، لا فضل لنا: لم نختر مصيرنا ولا نستطيع الركون قبل تحديد مصير أحبائنا. صدّقوني، الوقت لا يغيّر شيئاً، فقظ يُغيّب البعض وينتشُ من حياة كلٍ من الباقين….
أيتها الصديقات، أيها الأصدقاء،
بالرغم من أننا لم نختر إنتماءنا إلى هذه الطائفة العجيبة، دعوني أتابع:
نحن طائفة مؤلفة من لبنانيين من كل الملل، من سنة وشيعة وموارنة، من دروز ومن أورثوذوكس وأرمن وعلويين، وأعتذر من الطوائف التي نسيت ذكرها وأطمئنها أنها كلَها ممثلةٌ في طائفتنا، من كل المذاهب ومن كل المقيمين على الأراضي اللبنانية خلال سنوات الحرب، من كثير من الجنسيات ومن كافة القارات… أكثرية المفقودين من الذكور، وأكثرية الأهالي بل الناشطات من الإناث. في صفوفنا تجدون كل المهن، وكل الأقضية اللبنانية. هل أعدّدها قضاء تلو قضاء؟ فكّرنا أيضاً أن نعدّد أسماء أحبتنا المفقودين… إلا أن مجرّد التعداد كان ليأخذَ وحده أكثر من ساعتين، ولا نريد أن نأسرَكم كل هذا الوقت، مع أن أسْر البعض منّا، الذي ينهشنا من الداخل، سيُكمل بعد أشهرٍ قليلة الـ40 سنة، عمر بداية الحرب.
أيها الحفل الكريم ، أغرب من ذلك، أننا نحن الطائفة الوحيدة في لبنان التي ليس لديها مرجعيةٌ سياسية أو دينية أو مجتمعية. لا نتوجه إلاّ إلى الدولة ولا ننتظر إلاّ من الدولة…. كما أنه ليس لدينا قضيةٌ إلا قضيتَنا. ويوم تحل قضيتُنا بنهج علمي وعادل ومؤسساتي، نَزول برضانا كطائفة.
تصوّروا الغرابة أيها السيدات والسادة، طائفة لبنانية مؤلفة من كافة الملل ومن كافة الجنسيات التي كانت تقيم على الأراضي اللبنانية، وليس لديها مرجعية إلا الدولة اللبنانية، والدولة اللبنانية لا تعترف بها!! ربما لأن قضيتنا لا تسيّل حصصاً طائفية، ربما لأن ليس لقضيتنا حل طائفي. فالمفقود ليس له طائفة. إما تبحث عنه كمواطن، كإنسان، إما لا تبحث عنه. . لا أدري….ولكن إذا كان هذا هو السبب، فحرام علينا وعلى لبنان، وإذا كان حقيقةً السبب كيف تريدون بعد ذلك أن تقوم الدولة اللبنانية من سَباتها العميق؟
سيداتي، سادتي،
نلتقي اليوم في حفل أردناه رسمياً ليسلم أهالي المفقودين والمختفين قسرياً إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ممثلة برئيس البعثة في لبنان) نسخة عن كامل ملف التحقيقات الذي تسلمناه من رئاسة مجلس الوزراء بعد جهد جهيد وبعد قرار مجلس شورى الدولة الملزم…
بداية، أود أن أقول أنه لولا اللجنةُ الدولية للصليب الأحمر، لولا رعايتُها لنا لما كنا توصلنا إلى النقطة التي توصلنا إليها الآن… حضرة السيد فابريزيو كاربوني، نحن جداً فخورين بوجودك معنا اليوم .. نحن لا ننسى أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر كانت الصديق الذي وقف وحده معنا أيام الضيق. والأهم، أن عندما تدق ساعة المعرفة، وقد إقتربت، بفضل عملكم الدوؤب والصامت (مع الشكر للأستاذ فابيان بوردييه ولكل الفريق الذي عمل من قبله ويعمل معه الآن مكرسين ساعات طويلة للإستماع إلى إفاداتنا المحفوظة). بفضلكم، لن ننطلق، نحن والدولة، من نقطة الصفر عندما ستباشر الدولة القيام بمهمتها لحل قضيتنا بطريقة علمية عادلة مؤسساتية، بل سننطلقُ من قاعدةٍ نَصِفُها بالمقبولة وبالثمينة وبالأمينة…
أضيف أننا نسلّمُكم اليوم، بالأمانة والثقة المطلقتين، وبهدف السحب من التداول السياسي والإعلامي، “أثمن ما لدينا”، إننا نسلّمُكم قصة علاقتِنا مع دولتِنا التي صارتْ قصةُ حياةِ كلٍ منا.
إلى جانب ذلك، يتضمّنُ الصندوق أيضاً جزءا من تاريخ هذا البلد البشع عندما إفترست العصبياتُ مناعةَ شعبنا… كما يتضمنُ صورةً طبق الأصل مذرية عما قامت به دولتُنا والأصح عما لم تقم به من أبسط واجباتِها إزاء شريحة من مواطنيها ومن أولادها… نحن نطالبها بأن تفعل… وأن تفعل ازاءنا ومعنا ما فعلته وتفعله كل الدول التي تحترم نفسها ازاء مواطنيها المفقودين والمختفين قسرياً، فتعترف بقضيتهم، تبحث عنهم، تحدد مصائرهم وتحترم أهاليهم، وأنا أتكلم هنا تحت رقابة ممثلي دول يعرفون ماذا أعني…
أيتها الصديقات، أيها الأصدقاء…
أشكر مجدداً الرئيس سليم الحص الذي شكّل أولَ لجنةٍ رسميةٍ للتقصي عن أحبتنا عام 2000… أشكر مجدداً دولة الرئيس تمام سلام لتنفيذه قرار مجلس شورى الدولة بتسليمنا نسخة عن هذا الملف. في الحالتين، تشكيل اللجنة الرسمية وتسليم ملف التحقيقات، إنجازان تحقّقا بعد أن نزلت حملة “حقنا نعرف” إلى الشارع.. وأغتنم هنا الفرصة لأشكر هذه النخبة من المواطنات والمواطنين الواقفين والذين وقفوا إلى جانبنا بوقتهم وكفاءاتهم وتفانيهم، بإسم الأهالي شكراً لكل واحدة وواحد منكم….
أيها الحفل الكريم
بالرغم من تشكيل اللجنة الرسمية قبل 15 سنة، وبالرغم من تسلّمنا نسخة عن ملف التحقيق قبل شهرين، لم تعترف بنا دولتنا بعد…
لماذا أقول ذلك؟ أقول ذلك، لا بل أجاهر به، وأتكلم هنا على مسمع وتحت رقابة ممثلين عن دول وهيئات (يمثل الصليب الأحمر أعرقها) إنكبّتْ على معالجة قضايا مماثلة في كافة القارات، أقول ذلك لأن الإعتراف بنا لا يكمن بإحصائنا من قبل لجنة رسمية لم تقم بعملها، ولا بتسليمنا ملفاً فارغاً لم يحقق مع أحد ولم يتحقق من معلومة واحدة.. بل أوصى بتوفية ذوينا بالجملة مع أنهم اختفوا، تواروا، في أمكنة وأزمنة بالمفرق… هذا وذاك يساويان التنصل منا والتخلي عنا، لا الإعتراف بنا ورعايتنا…
دعونا ننظر إلى الأمام… أيها الضيوف الكرام
الحل العلمي والعادل والموسساتي لقضيتنا يكمن في نقطتين:
1) (نقول أولا) الإعتراف بقضيتنا، بذوينا وبنامن خلال تشكيل بنك الDNA وتوقيع الإتفاقية بين اللجنة الدولية للصليب الأحمر والحكومة اللبنانية التي تنتظر منذ سنتين في الأدراج (تنتظر ماذا؟). مع الـ DNAتحمى الهوية من الموت الذي يلاحق الأهالي وتعطى الهوية للعظام التي تظهر تباعاً في الورش والتي تتكدس في المشارح…
2) (نقول ثانياً) تحديد مصير ذوينامن خلال إقرار قانون علمي وعادل في مجلس النواب، إسوة بما شرّعته برلمانات العالم… قانون يقفل ملف الحرب لأنه لم يُقفل بعد، قانون يعفو إذا شئتم عن الخاطفين ولكن لا يعفي نفسه من تحديد مصير أهله ومواطنيه المخطوفين والمفقودين. لا يا سادة يا حكام، لا نطلب بأن تعاملوننا كما عاملتم الخاطفين، نطلب فقط أن تعاملوننا كما تريدون أن نعاملكم لو لا سمح الله إفتقد حبيبٌ لكم. إن أكثر من يريد إقفال ملف الحرب هو نحن… لكي نستطيع أن نعود إلى الحياة.. إلى الحياة الطبيعية..لنعيش.. لأننا الآن لا نعيش… فقط ننتظر… أتفهمون ذلك؟
أيها الضيوف الكرام…
نحن في الشارع منذ 32 سنة، نتعتّر ونتيبّس (أتعرفون ماذا يعني ذلك في حياة إنسان؟ في توازنه؟ في قلبه وجسمه؟)… ومن وقت إلى آخر نسمع أننا نهدد السلم الأهلي (آخرها كان في المراجعة الفاشلة لإبطال قرار شورى الدولة)… لا لا لا وألف لا… نحن لا نهدد السلم الأهلي، أعوذ بالله… نحن نعمل من موقعنا المتواضع وبكل مسوولية ودراية لإرساء السلم الأهلي وبناء المواطنية. قضيتُنا لا حصص فيها ولا صراع طوائف ولا حتى حلولٍ طائفية… تصوروا يا ناس: الكيانات تنهار من حولنا .. المؤسسات تنهار في بلدنا، وداد حلواني وغازي عاد أم محمد، نهيلة وسونيا، ليلى جدع، نجاة حشيشو وغيرنا وغيرنا من الأهالي… نحن نهدد السلم الاهلي…!!
هل أضحك أو أسخر؟ حضرة رئيس البعثة، حضرة النقيب، أيها الضيوف لا أريد أن أضحك.. لا أستطيع أن أسخر، وتصلنا كل يوم من كافة مناطق سورية والعراق نداءات وأسئلة وآلام عن عشرات الآلاف من المفقودين في كل من الدولتين. وأغتنم الفرصة للتضامن مع أهالي مخطوفي الجيش والقوى الأمنية اللبنانية الذين يعيشون آلاماً نعرفها جيداً، ونحن نتمنى لهؤلاء الأهالي ملاقاة ذويهم سالمين في أسرع وقت وألا يجبروا على الإلتحاق بصفوفنا.
دعوني أختم بالتوجه إلى ممثل نقيب المحامين وإلى القضاة والمحامين الموجودين بيننا، جميعكم تمثلون بيننا السلطة القضائية بالمعنى الرمزي للكلمة، تمثلون العدالة… فالعدالة قضاة ولكنها أيضاً محامون. عام 2014، أعاد قرار مجلس شورى الدولة ثقتنا بالقضاء. علمني أستاذي وأخي نزار صاغية أن لا أشكر قرارات العدالة وصانعيها. إلا أنني أريد الآن بإسم الأهالي أن أشكره هو نزار لكل ما فعله ويفعله. أريد أيضاً أن أنوّه بالقرار التاريخي الذي اتخذه مجلس شورى الدولة والذي يستحق إعترافاً دولياً بقيمته. إضافة إلى أنه كرس حقنا بالمعرفة… جدّد، قوّى عزائمنا.
حضرة ممثل النقيب، نشعر من استضافتكم المشكورة لنا اليوم وإشرافكم على هذا الحفل تعبيراً إضافياً عن التزامكم بقضيتنا، تعميقاً وتأكيداً على حقنا في المعرفة.. نشعر من خلال موقفكم هذا ترسيخاً لموقع النقابة الطبيعي إلى جانب الحق، وبالتالي إلى جانبنا في نضالاتنا القادمة حتى تحديد مصائر ذوينا.
شكراً من القلب، ما قمتم به اليوم يجعلنا متسلحين بشجاعة أكبر وبعزيمة أكبر بأن نقابة المحامين، نقابة الحق إلى جانبنا.
أيها الضيوف والأصدقاء، شكراً لمجيئكم، شكراً لإصغائكم، شكراً لتضامنكم…
الصورة من أرشيف المفكرة القانونية