أصدرت محكمة الاستئناف بسليانة بتاريخ 31-07-2024 حكما قضى بعدم سماع الدعوى لبطلان الإجراءات في حقّ شخص وجهت له تهم المرسوم 54 وبنسبة أمر موحش لرئيس الجمهورية لكون أدلة الإثبات في حقّه كان مصدرها اعتداءً على حقّه في سرية اتصالاته. ويكتسي هذا الحكم الذي تتفرّد المفكرة القانونية في نشره أهمية فائقة لكونه يوثق ملاحقات سياسيّة تغيب عنها الملاحظة الحقوقيّة وتطال أشخاصا لا يعلم عددهم من عموم المواطنين في مختلف المحاكم التونسية، فضلا عن كونه مهمًا في منطوقه الذي يذًّكِر بقيمة القضاء الحامي للحقوق والحريات ويصلح ليكون مؤيّدًا في مختلف المحاكمات المماثلة التي تخرق فيها الإجراءات الأساسية وكثيرا ما تنتهي بأحكام سجنية.
توثيق مسار المحاكمات
بعد الثورة وبفضل مناخ الحريات الذي فرضته، غاب ما كان قبلها من قمع لكل من يتجرأ على نقد شاغلي منصب رئيس الجمهورية.
واقع كشف رئيس الجمهورية قيس سعيد عن رفضه له في شريط فيديو بثه في صفحة رئاسة الجمهورية بتاريخ 11-06-2021 وثّق لقاء له مع رئيس الحكومة هشام المشيشي ووزيرة العدل حسنة بن سليمان حينها وقال فيه “من يتجرّأ على رئيس الدولة كان على النيابة العمومية أن تتحرّك من أجل مقاضاتهم … ليعلم الجميع وأقولها اليوم أمام الجميع لن أترك أحدا يضرب الدولة التونسية ومؤسساتها ورموزها…”.
تاليا تعددت الإحالات على المحاكم العسكرية والمدنية لمدوّنين بتهمة نسبة أمر موحش لرئيس الجمهورية قبل أن تنضاف للاتهامات التي توجه لهم جرائم المرسوم عدد 54 لسنة 2022 المتعلق بجرائم الاتصال.
شملت المحاكمات التي أثيرت شخصيات عامة عرفت بانتقادها للسلطة وانتهت في عدد منها بإصدار أحكام بالسجن النافذ. وتؤكّد بيانات وتقارير حقوقيّة متعدّدة أنها وفي العدد الأكبر منها استهدفتْ مدوّنين من مختلف جهات الجمهوريّة تغيب المعلومات عنهم لضعف الرصد الحقوقيّ لمحاكماتهم. وربما كانت أهمية عدد من شملتهم تلك المحاكمات السبب الذي برّر إصدار الرئيس قيس سعيد سنة 2024 عفوا خاصا على عدد ممّن صدرت في حقهم أحكام بالسجن ويقضون عقوبات لأجل تلك التهم وهو عفوٌ لم يمنع تواصل تلك المحاكمات بعده وتعدد الإيقافات اللاحقة له لأجل ذات التهم.
في هذا الإطار، يوثّق قضاء محكمة استئناف سليانة مسار تلك المحاكمات بداية من انطلاق الأبحاث فيها قبل أن يمضي في مستنداته القانونية لبيان الخروقات الإجرائية الأساسية التي تشوبها.
حماية سرية الاتصالات
نظرت استئناف سليانة في إجراءات تتبّع المتّهم، فعاينت تحرير أعوان الضابطة العدلية محضر البحث في جريمة غير متلبس بها حال أنه لم يكن لهم في ذلك إذن كتابي من النيابة العمومية. وأكّدت في تسبيب حكمها على أنّ تلك الإجراءات تخالف صريح أحكام مجلة الإجراءات الجزائية ولا يمكن بالتالي الاستناد لها في إثبات التهمة لما فيها من خرق لإجراءات أساسية تضمن الحق في المحاكمة العادلة.
بعد ذلك، توقّفت المحكمة عند استعمال الباحث الهاتف الجوّال للمتّهم في استخراجه أدلّة الاتهام، لتبيّن أن تلك الممارسات تتعارض مع الحقّ في سرّية الاتصالات المكرّس في الدستور والمواثيق الدولية بما يفرض على القضاء عدم اعتماد نتائجها.
ويبدو في هذا الإطار الحكم موضوع هذه الملاحظات مما يستحق الوقوف عنده وتحليله لكونه يتعلّق بخرق جسيم للقانون واعتداء على الحريات يمارس بشكل متكرر ويحتاج التصدي له موقفا قضائيا ينتصر لقيمة القاضي الحامي للحقوق والحريات.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.