”المفكرة“ تسجل نقطة ثمينة في مجلس شورى الدولة: تقرير قضائي للحدّ من اعتباطية ”الموافقات الاستثنائية“ و”إعلان الطوارئ”


2021-07-07    |   

”المفكرة“ تسجل نقطة ثمينة في مجلس شورى الدولة: تقرير قضائي للحدّ من اعتباطية ”الموافقات الاستثنائية“ و”إعلان الطوارئ”
تصوير ماهر الخشن

صدر مؤخرا تقرير بالغ الأهمية في الطعن في تمديد إعلان حالة الطوارئ. التقرير صدر عن المستشارة المقررة في مجلس شورى الدولة ميشيل منصور مزهر بتاريخ 26/5/2021 وذلك في المراجعتين اللتين تقدمت بهما المفكرة القانونية للطعن أولا بمرسوم تمديد حالة الطوارئ (رقم 6881 تاريخ 18/8/2020) وثانيا ب”المذكرة” الصادرة عن أمين عام مجلس الوزراء محمود مكيّة (رقم 1955/م.ص. تاريخ 14/9/2020) والتي نصت على تمديد حالة الطوارئ مع تكليف الجيش بتنفيذ بعض المهام الإضافية التي لا تدخل في صلاحياته التي تلحظها القوانين العادية. وكانت “المفكرة القانونية” قد نشرتْ حينها مجموعة من المقالات التي تناولت إعلان حالة الطوارئ عقب جريمة انفجار مرفأ بيروت بحيث فنّدت فيها المخالفات الدستورية الجسيمة التي شابت مراسيم اعلان الطوارئ وتمديدها كما المذكّرة الصادرة عن أمين عام مجلس الوزراء.

وقد خلصت المستشارة المقرّرة في تقريرها المذكور إلى قبول المراجعة في الشكل والأساس وطلب إبطال المرسوم رقم 6881 ومذكّرة أمين عام مجلس الوزراء، موافقةً بذلك على الحجج القانونية التي ساقتها “المفكرة القانونية” ضد الكيفية التي جرى فيها تمديد إعلان حالة الطوارئ في مدينة بيروت.

وعلى الرغم من أن تقرير المستشارة ليس بحدّ ذاته قراراً قضائياً طالما أن القرار يعود في النهاية إلى الغرفة في مجلس شورى الدولة التي تتولى النظر في الدعوى، إلا أن التقرير يبقى بحدّ ذاته موقفا قضائيا بالغ الأهمية يؤمل أن يحدد الاتجاه الذي سيأخذه مجلس شورى الدولة في قراره النهائي.

جرّاء ما تقدم، سنعالج المنطق القانونيّ الذي استند عليه التقرير أولا لإبطال مرسوم تمديد حالة الطوارئ، وثانيا لإبطال المذكرة الصادرة عن أمين عام مجلس الوزراء بناء على الموافقة الاستثنائية التي منحها كل من رئيسي الجمهورية والحكومة.

إعلان حال الطوارئ في ظل حكومة تصريف الأعمال

صدر المرسوم رقم 6881 والقاضي بتمديد حالة الطوارئ في مدينة بيروت بتاريخ 18/8/2020 أي بعد استهقالة رئيس مجلس الوزراء حسان دياب بتاريخ 10/8/2020 ما يعني أن الحكومة كانت قد أصبحت حينها في حالة تصريف للأعمال. وإذ صدر المرسوم المطعون به دون موافقة الحكومة (التي هي صاحبة الصلاحية بإعلان حالة الطوارئ وفق المادة 65 من الدستور وقانون إعلان حال الطوارئ)، ردّت الجهة المستدعى بوجهها (أي الدولة) أن هذا التدبير أملته الظروف الاستثنائية الناجمة عن انتشار فيروس كورونا وتداعيات الانفجار في ظل حكومة مستقيلة، مضيفة أن الظروف الاستثنائية تسمح “للسلطة الإدارية تجاوز حدود صلاحياتها العادية، والتعدي على صلاحيات سلطة إدارية أخرى وعدم مراعاة الأصول القانونية والنظامية العادية”.

وقد دحض التقرير هذه الحجة موافقا على ما أكّدته المفكّرة القانونية في مراجعتها ضدّ مرسوم تمديد إعلان حالة الطوارئ. فقد أعلن التقرير أن حالة تصريف الأعمال تمنع بالفعل الحكومة من ممارسة كامل صلاحياتها لكن هذا القيد ليس مطلقا إذ أنّ وجود حالة طارئة يسمح للحكومة باستعادة كامل صلاحياتها الضرورية من أجل الاستجابة لها على أن يتمّ ذلك تحت إشراف القضاء الإداري ورقابته. لذلك، اعتبر التقرير أن الطبيعة الكارثية لانفجار المرفأ تؤدّي إلى نشوء حالة طارئة بحيث لا تحول استقالة الحكومة “دون اجتماع مجلس الوزراء المستقيل واتخاذه أعمالا تصرفية استثنائية لمواجهة هذه الحالة”. لذلك كان يتوجّب على مجلس الوزراء الانعقاد من أجل إقرار مرسوم تمديد حالة الطوارئ. أما أن يصدر هذا الأخير دون هذا الشرط الدستوري رغم توقيعه من قبل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزراء الداخلية والدفاع والمالية، فإن ذلك يجعل منه عملا صادرا عن سلطة غير مختصة ما يوجب إبطاله.

أكثر من ذلك، ذهب التقرير إلى معالجة فرضية عدم تمكّن مجلس الوزراء من الانعقاد بسبب الظرف الاستثنائي التي تتذرّع به الجهة المستدعى بوجهها. وفي حين اعتبر أن الظرف الاستثنائي يسمح للإدارة بتخطي بعض الشروط القانونية، إلا أنه عاد ليوضح بأن ذلك يصحّ “فقط عندما تكون السلطة الصالحة لاتخاذ قرار ما واقعة في عجز يحول دون اتخاذها القرارات المطلوبة” كاستحالة حضور بعض الوزراء إلى جلسة مجلس الوزراء بسبب التداعيات المباشرة للانفجار أو تضرّر مقر الحكومة بحيث يستحيل عقد جلسة لمجلس الوزراء، أي ان الظرف الاستثنائي قد لا يكون استثنائيا من الناحية القانونية في حال لم يجعل من السلطة المختصة عاجزة واقعيا عن تأدية مهامها بصورة قانونية طبيعية. وهكذا يرد التقرير على ذريعة الظرف الاستثنائي معتبرا أن الحكومة اجتمعت فعليا بعد الانفجار وقبل استقالتها أي أن الانفجار لم تكن له مفاعيل تؤدي إلى شلل الحكومة وعجزها عن الانعقاد في مجلس الوزراء وفقا لما يفرضه الدستور. لا بل أن الجهة المستدعى بوجهها اعترفت بأن عدم اجتماع الحكومة سببه تصريف الأعمال وليس الظرف الاستثنائي الناشئ عن الانفجار، ما يعني أنه كان بمقدورها الاجتماع من أجل إقرار مرسوم تمديد حالة الطوارئ كون الظرف الاستثنائي الحقيقي الناجم عن الانفجار يتيح لها استعادة كامل صلاحياتها الضرورية بغية معالجة هذا الظرف.

مخالفة أخرى وثقتها المفكرة القانونية وأيّدها تقرير المستشارة المقررة. فتمديد حالة الطوارئ لمدة تتجاوز الثمانية أيام يتطلب عملا بأحكام المادة الثانية من المرسوم الاشتراعي رقم 52/1967 الحصول على موافقة مجلس النواب خلال هذه الفترة، الأمر الذي لم يتمّ. وقد ذهب التقرير إلى اعتبار أن “تمديد إعلان حالة الطوارئ هو بمثابة إعلان جديد لها” بحيث يخضع مرسوم التمديد للشروط نفسها الواجب توفرها في إعلان الطوارئ لا سيما الحصول على موافقة مجلس النواب. وبما أن هذا الشرط الأخير لم يتمّ احترامه أيضا، يتوجّب إبطال المرسوم المطعون فيه لمخالفته القانون.

أي أسباب لإبطال بدعو “الموافقات الاستثنائية”؟

أطلقتْ المستشارة المقرّرة على هذه المذكرة صفة “القرار” وهو الأمر الذي يقودنا مباشرة إلى صلب الإشكاليّة. فكيف يُعقل أن يصدر أمين عام مجلس الوزراء قرارات نافذة ملحقة للضرر بتكليف الجيش بمهامّ إضافية بناء على موافقة كل من رئيسي الجمهورية والحكومة. فآلية الموافقات الاستثنائية التي بات يتمّ اعتمادها في حالة تصريف الأعمال تؤدّي فعليا إلى تحويل رئيس الجمهورية من رأس البناء التنظيمي في لبنان إلى جهة تقترح على أمين عام مجلس الوزراء اتخاذ اجراءات معينة.

وقد أدلت الجهة المستدعى بوجهها أن الموافقات الاستثنائية تجد سندها القانوني في التعميم رقم 27 تاريخ 11/8/2020 الصادر عن رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب والذي يطلب بموجبه من جميع الوزراء “في حال أن ثمة قرارا إداريا يدخل في نطاق اعمال التصرفية التي تقتضي الضرورة اتخاذه في خلال فترة تصريف الأعمال إيداع مشروع القرار رئاسة مجلس الوزراء للاستحصال بشأنه على الموافقة الاستثنائية لفخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس مجلس الوزراء”. وتضيف الجهة المستدعى بوجهها بكل بساطة أن آلية الموافقات الاستثنائية هي من “الأصول المتبعة عند استقالة الحكومات”.

وقد وافق التقرير على ما ذهبت اليه “المفكرة القانونية” بأنّ هذا القرار هو مخالف للأصول الجوهرية وصادر عن سلطة غير مختصّة كون آلية الموافقات الاستثنائية هي إجراء مخالف للدستور والقانون. وكانت الجهة المستدعى بوجهها قد وقعت في تناقض صارخ حين أعلنت أن هذا القرار “لم يمدّد إعلان حالة الطوارئ بل طلب من الجيش الاستمرار بمتابعة تنفيذ المهام التي كانت موكلة إليه بموجب مرسوم إعلان حالة الطوارئ حفاظا على النظام العام”. فكيف يعقل أن يستمرّ الجيش بممارسة مهامّ نصّ عليها مرسوم الطوارئ دون أن يؤدي ذلك إلى تمديد مفاعيل حالة الطوارئ بالنسبة إلى تلك المهام؟

ويتابع التقرير دحض الذرائع القانونية التي استند عليها هذا القرار مُعتبرا أن تكليف الجيش بمهام معينة أمنية أو اجتماعية هو جائز لكن ذلك يجب أن يتم إمّا تلقائيا عبر مرسوم إعلان حالة الطوارئ أو عبر سلوك وسيلة أخرى نصت عليها المادة الرابعة من قانون الدفاع الوطني التي تجيز تكليف الجيش بالمحافظة على الأمن في منطقة معينة خارج حالة الطوارئ على أن يتمّ ذلك أيضا بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح الوزراء المختصين. وبما أن قرار أمين عام مجلس الوزراء صدر “بالاستناد إلى موافقة استثنائية لرئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، ولم يتم اتخاذه في مجلس الوزراء الذي كان بإمكانه الانعقاد عملا بما سبق بيانه أعلاه، مما يعني أنه صادر عن سلطة غير مختصة”، وأنه أيضا مخالف للأصول الجوهرية المفروضة قانونا كونه لم يقترن باقتراحات الوزراء المختصين ما يقتضي إبطال القرار المطعون فيه.

بعد استعراض كل هذه الحجج القانونية التي أدّت إلى نسف كل المسوغات التي اعتمدت عليها السلطة من أجل تمديد حالة الطوارئ، يعلن التقرير أن المفعول الرجعي لإبطال المرسوم رقم 6881 وقرار أمين عام مجلس الوزراء لا يجب أن يؤدي إلى إلحاق ضرر بالنسبة “لأعمال الإغاثة التي تمت نتيجة انفجار المرفأ”، إذ ان القاضي الإداري قد يصبح مرغما بتأجيل نفاذ قرار الإبطال بغية الحفاظ على استقرار الأوضاع القانونية التي نشأت عن الأعمال الإدارية المشكو منها. وعليه، لم يستثنِ التقرير إلا القرارات الصادرة على أساس الأعمال المزمع إبطالها والتي تم الطعن فيها أمام القضاء.

أبعاد القرار

وهكذا يتضح لنا أن تقرير المستشارة المقررة يشكل إدانة شاملة لكل الممارسات التي انتهجتها السلطة السياسية لا سيما في النقاط التالية:

  • إدانة بدعة الموافقات الاستثنائية التي لا سند دستوري لها والتي تسمح لرئيسي الجمهورية والحكومة بالحلول اعتباطيا محل مجلس الوزراء، ما يعني أن كل المراسيم والقرارات التي صدرت وفقا لهذه الالية هي مخالفة للدستور والقانون ويتوجب إبطالها في حال تم الطعن بها أمام مجلس شورى الدولة.
  • رفض مطلق لنظرية الظروف الاستثنائية وفقا للفهم الاعتباطي للسلطة الحاكمة والتي غالبا ما لجأت اليها من أجل تبرير مصالحها السياسية أو للنيل من حقوق المواطنين وحرياتهم الأساسية.
  • إدانة تقاعس مجلس النواب الذي لم يجتمع كي يصادق على مرسوم تمديد إعلان حالة الطوارئ إما عمدا أو بسبب جهله بالأصول القانونية الواجب اتباعها، ما يظهر فشله الذريع في القيام بدوره الطبيعي عبر الدفاع عن حريات المواطنين.

وفي الختام يظهر جليا أن هذا التقرير هو انتصار لمنطق القانون وهو يأتي في ظرف دقيق جدا يعيشه لبنان إذ لا بد من حماية أسس الأنظمة الدستورية والقانونية والإدارية كما ورد في مراجعة الفكرة القانونية، كما أنه يشكل النموذج الذي يتوجب أن تكون عليه السلطة القضائية بوصفها الجهة المخولة بالدفاع عن المجتمع بوجه سلطة نجحت نجاحا باهرا في اجتراح ممارسات أقل ما يقال فيها أنها خليط من انتهاك القوانين والجهل.

انشر المقال



متوفر من خلال:

قضاء ، قرارات قضائية ، استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني