منتصف أيلول 2019، استفاق كميل، أحد رعاة قضاء جزين، عند الخامسة فجراً كعادته كل يوم. عاون زوجته في حلب قطيع الماعز وسار برؤوس الماشية نحو مرج بسري حيث يعمل، بالوراثة عن جده وأبيه، على رعي قطيعه في سهل المنطقة. بعد ضيعة بحنين التي قطعها من أسفل سفحها، وصل إلى المعبر الذي يُفترض أن يقطعه إلى المرج. هناك وجد قطيعه الذي سبقه بنحو خمسين متراً مع الكرّاز، يتزاحم أمام بوابة حديدية مقفلة بثلاثة جنازير عريضة وبأقفال غليظة. كان مجلس الإنماء والإعمار مع الشركات المتعهدة سواء تنفيذ السد أو قطع الأشجار أو حفر الرمول ومقالع الصخور، قد أقفلوا الباب أمام غذاء مواشيه، وبالتالي لقمة عيشه.
عرضنا، أي فريق “المفكرة”، على كميل أن نسير معه في رحلته المعتادة نحو المرج بعد أن نأتي بآلة تصوير فيديو لنوثق بالصوت والصورة ما حصل معه ومع غيره من مربي المواشي. وافق ابن قضاء جزين بكل سرور بعدما صار يفكر ببيع قطيعه والبحث عن مصدر رزق آخر “مع تسكير المرج صرت عم غذي المواشي على العلف بالزريبة، وهذا مكلف جداً، ولا يمكنني تحمله”، يقول.
بعد أسبوع بالتمام عدنا مع كاميرا التصوير. اتصلنا بكميل لنسوق معه القطيع نحو المرج فاعتذر منّا سريعاً مبرراً بالقول: “وظفوني حارسا معهم ما بقى إقدر إحكي، إذا بتريدوا ما بقى تتصلوا فيي”. تمت رشوة كميل وغيره من بعض أبناء المنطقة بالوظيفة المؤقتة، وبراتب لا يتجاوز الحد الأدنى للأجور لإسكاته. قال كميل إنه لا يعلم ما إذا كانت الحملة ضد سد بسري سوف تنجح في منعهم من التنفيذ، وتعيد المرج لأهله، فارتأى النجاة بنفسه “ع القليلة بيطلع لي قرشين بعيّش أولادي، أنتو ما رح يجيني منكم شي”، قال لنا، وأقفل الخط.
سد يبتلع مراحات الرعيان
على المقلب الآخر لحوض بسري وتحديداً في بلدة مزرعة الشوف التي يعدّ أهلها مع أهل عماطور من كبار المُلّاك في المرج (نحو 30% من أراضي بسري للمزرعة وحدها) نجد نجيب بو كروم، إبن المزرعة في مراحه الخاص في منطقة جب الروس. والمراح هو المكان الذي يبني فيه الرعاة بيتاً زراعياً وحظائر المواشي وقناً للدجاج، كما أضاف لهم نجيب أعشاش الحمام على سطح داره.
ترك نجيب المراح واقترح أن يقود بنا إلى شوار المرج الذي يقع بين رأس الجبل الذي يطلّ منه خراج مزرعة الشوف على مرج بسري. يقف على ارتفاع شاهق ليدلّنا على الطريق التي يسلكها حين يقود قطعانه نحو السهل في أسفل الشوار “هونيك بكعب الوادي منحط المعزة، حدها منشتي البقر، والغنم مننقله نزول لأنه الطقس أدفى بأول السهل”. يراوح ارتفاع السهل بين 300 إلى 500 متر عن سطح البحر. الماعز، الذي يمتلك منه نجيب نحو 300 رأس يقضي الشتاء في المنطقة المرتفعة مع الأبقار وعددها 15 رأس بقر، فيما تأخذ العائلة 50 رأس غنم نحو أسفل المرج، كون الأغنام لا تتحمل بعض البرد في الأعلى.
هذا الأمر يحزن نجيب كثيراً “اضطريت استأجر في عنبال ونقلت الماعز إليها وهذا مكلف عليي”. حتى الآن لا يعرف أين يذهب بالأبقار والغنم “عم نحاول نقطّع هالشتوية تحت، وعم نفاوضهم، وما منعرف إذا رح يسمحوا لنا أم لا، كون منطقتنا بعدها بعيدة نسبياً عن أعمال السد الجارية حالياً”.
يخشى نجيب أن يفشل الأهالي ومعهم الناشطون البيئيون في منع إقامة السد “يعني ساعتها بضطر بيع كل المواشي وفتش على مصدر عيش آخر”. كيف له أن يفعل ذلك؟ هو السؤال الذي يقضّ مضجعه، هو الذي ولدته أمه في السهل، كما كثر ممن توارثوا العمل الزراعي عن أجدادهم وآبائهم “ما بعرف إشتغل شي تاني” يقول. ذهبت الأرض التي يزرعها في المرج، واليوم يخاف أن يضطر لبيع قطعانه ومواشيه.
يوزع نجيب مصادر دخله من المواشي على الشكل التالي: “نبيع الحليب والألبان والأجبان ومشتاقتها، وكذلك العجول والخواريف وسواعير الماعز للذبح، ومعها صوف الأغنام، والبقر الحلوب. نؤمّن اكتفاءنا من البيض البلدي، ونبيع كرتونة البيض بعشرة آلاف ليرة لبنانية، وكذلك نبيع من الحمام الذي نربّيه في المراح. ومن المرج تؤمن العائلة مؤونتها من الخضار والحبوب وتبيع الباقي. الحمدالله منتعب بس عايشين بكرامتنا وعمرنا ما عزنا حدا ولا طلبنا وظيفة أو واسطة أو انذلّينا لمسؤول”. الحاجة إلى الناس هي ما لا يريده نجيب “في متلنا كتار، في حوالي 35% من أهل المزرعة بيعيشوا من الزراعة ومن المواشي سوا”. اليوم سيتم طردهم من المرج من دون أي تعويض “ما حدا سائل عنا”.
بالقرب من نجيب يهتم إبن بسابا، غسان نزيه العاكوم، بنحو 20 رأس بقر وقطيع من الأغنام في مراحه، وكذلك عشرات الطيور الداجنة التي يبيع بيضها.
لا يرى غسان تأثير سد بسري فقط على حياته وحياة أبناء بسابا “أقفلوا علينا المرج ولأهالي بلدتي فيه نحو مليوني متر مربع مع خراج البلدة المتصل ببسري”. يهتم ابن بسابا بتأثير السد على مناخ المنطقة “بدهم يقتلونا بالتلوّث متل ما صاير بمحيط نهر الليطاني وبحيرة القرعون. بدهم يعملوا فينا متل ما عملوا ببر الياس اللي فيها 600 حالة سرطان”. هذا ولم يتحدث غسان بعد، كما قال، عن “الغطاء النباتي الذي يتقلص في لبنان تدريجياً. بدل ما يشجروا بعد عم يقطعوا على القليلة ربع مليون شجرة معمرة”. وذلك يعني فعلياً، كما يقول “القضاء على رئة جزين والشوف والإقليم”، فالمرج بالنسبة له “ليس سهلاً للزراعة فقط، ولا مرعى للمواشي فقط، بل هو ثروة وطنية لا تخص أهل المنطقة وحدهم”.
يختم غسان بالقول إن موقف رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط فاصل في الموضوع “إذا وقف بوجه السد بيقدر يمنعه لأنه معظمه واقع بأراضي منطقته، وبيضرّ الشوف بالأساس مع جزين، وكتير ناس من الإقليم بتنتخبه كمان”، ثم يضيف “يعني الناس متوقعة منه يكون حنب أهل المنطقة ويوقف السد”.
- نشر هذا المقال في العدد | 62 | كانون الثاني 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
مرج بسري في قلب الإنتفاضة