“
بعد مرور سنوات ساهمت بالتئام جروح العديد من ضحايا وعائلات شهداء عهود الإستبداد، أتت العدالة الإنتقالية لتتبلور قانونياً معيدة فتح جروح الضحايا الذين توافدوا بالآلاف لتقديم ملفاتهم لهيئة الحقيقة والكرامة آملين بذلك تحويل قضاياهم وحكايات نضالهم إلى أداة تساهم في تفكيك منظومة الاستبداد وتؤسس لذاكرة وطنية. لكن اليوم، مع توجه هيئة الحقيقة والكرامة لاعتماد تهميش وإقصاء على هؤلاء الضحايا، أخذ أملهم بالاضمحلال شيئا فشيئا. وعليه، ومع إقتراب موعد إعلان الهيئة عن تقريرها النهائي، يغلب عموما لدى ضحايا الفترة الاستبدادية حالة من الغضب والاحتقان.
كمال المطماطي، أنيس الفرحاني، بسمة البعلي، نبيل بركاتي، عثمان بن محمود، ورشيد الشماخي وغيرها من الأسماء التي كشفت بقصصها ومعطياتها الشخصية ليس فقط عن منظومة الإستبداد والقمع التى عاشتها خلال “سنوات الجمر” تحت حكم الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، بل أيضاً عن ممارسات التعطيل الممنهج لأعمال هيئة الحقيقة والكرامة والمطبات التى أخذت تسود مسار أعمال الدوائر القضائية المتخصصة.
من شهر أكتوبر 2018 إلى فيفري 2019، أصدرت محكمة الإستئناف بنابل حكما بتأجيل قضية فيصل بركات أربع أشهر بهدف فسح المجال للكتبة العموميين الحصول على ما يثبت إستلام المتهمين بالقضية لإعلامات حضورهم في الجلسة. هذا ما أوضحه جمال بركات، شقيق الشهيد فيصل بركات، خلال حواره مع المفكرة القانونية نهار السبت الواقع في 17 نوفمبر 2018. اليوم هو ذكرى مرور قرابة الثلاث سنوات على تاريخ الجلسة العلنية الخاصة بقضية الشهيد فيصل بركات، المتوفى تحت التعذيب في سجون بن علي والتي إستمع إليها ملايين التونسيين من خلال شهادة جمال بركات الذي كان شاهد عيان على واقعة تعذيب شقيقه فيصل.
عن مجريات القضية إستهلَّ “جمال” حديثه ..
كان عام 1991 حين استشهد فيصل بركات من شدة البطش والتعذيب في مركز الحرس الوطني التابع لفرقة الأبحاث والتفتيش في نابل. كان “جمال” شاهد عيان على واقعة التعذيب من ضمن 60 موقوفا في المركز وقتها. ليتم بعدها تقديم الشهيد لعائلته على أساس أنه ضحية حادث مرور عَرَضي سُجل ضد مجهول. بعد إطلاق سراح “جمال”، الذي تم توقيفه لأكثر من 6 أشهر دون محاكمة، حاول التواصل مع وكالة الجمهورية لإثارة قضية شقيقه من جديد ولكن قوبل طلبه بالرفض. يلتجئ “جمال” بعدها إلى صديق مقيم في فرنسا ليساعده على رفع القضية لدى لجنة مناهضة التعذيب لدى الأمم المتحدة. وبمساعدة من منظمة العفو الدولية، فتح الملف. لأسباب سياسية تم غلق الملف وفتحه مرارا وتكرارا لأربع مرات طيلة سنوات حكم زين العابدين بن علي، آخرها عام 2009 حين فتح الملف بطلب من المفوضية السامية لحقوق الإنسان بأمر إعادة استخراج رفات الشهيد ليتم عرضها على لجنة أطباء محليين ودوليين. ولكن قاضي التحقيق رفض إعادة استخراج الرفات بتعلة تحلل الجثة وبالتالي اندثار أسباب الوفاة. بعد الثورة وتحديداً عام 2013 تم إستخراج الرفاة بحضور طبيب مختص من طرف منظمة العفو الدولية. نص تقرير التشريح بأنه ليس من الممكن أن تكون أسباب الوفاة حادث مرور بحكم وجود آثار للتعذيب. بعد حصولنا على أرشيف رئاسة الجمهورية خلال فترة حكم المنصف المرزوقي، تم إثبات وجود لجان كانت تجتمع لدى رئاسة الجمهورية أيام “بن علي” وكانت تعمل على دثر ملف الشهيد فيصل بركات داخل لجنة مكافحة التعذيب أو القضاء التونسي. وفي عام 2016 أصدر قاضي التحقيق قرارا بإدانة 21 متهم فيهم 11 متهمين رئيسيين و10 مشاركين في جريمة التعذيب. بالرغم من تبني دائرة الإتهام محكمة الاستئناف في نابل هذا القرار، إلا أن دائرة التعقيب رفضته بحجة عدم رجعية القوانين وسقوط جريمة التعذيب مرور الزمن، ما يتنافى كلياً مع ما ينص عليه الدستور التونسي عام 2014 والعهود الدولية الموقعة من قبل الدولة التونسية فيما يخص مناهضة التعذيب.
ملامح تفكيك منظومة الاستبداد
عقلية قضاة التعقيب التى ما زالت في بعض الأحيان مجحفة للحقوق والحريات، تجعل الأمل الوحيد اليوم الذي تبقّى للضحايا هي الدوائر القضائية المتخصصة. قضية فيصل بركات كشفت الكثير من الوثائق، خصوصًأ بعد ولوجنا لأرشيف رئاسة الجمهورية. فتبعا للاطلاع على هذا الملف، تمكننا من أن نفهم أن التعذيب في تونس لم يكن اجتهادا فرديا من قبل عون أمن قرر أن يتجاوز الصلاحيات الموكلة إليه وأن يمارس التعذيب على متهم بشكل إرادي، بل هناك منظومة كاملة وراء التعذيب ويجب محاسبتها. التعذيب كان قرارا يؤخذ بشكل هرمي. أي من قبل رأس الهرم، رئيس الدولة، إلى أعوان الأمن الصغار. يجب أن أذكر هنا أن “بن علي” هو أحد المتهمين الرئيسيين بقضية فيصل بركات.
ثانياً، ممارسات التعذيب في حد ذاتها تكشف الكثير. ففي حال استنتجنا أن ما مُورس من تعذيب في نابل هو نفسه في قابس وصفاقس، فمن الممكن أن يكون هناك تدريبات خاصة قام بها النظام الاستبدادي سابقة لهذه الممارسات. أي أن أشكال التعذيب لم تكن اعتباطية بل تكتيكية. كما أن معرفة آليات التعذيب وأشكاله هو جزء لا يتجزأ من معرفة تفاصيل مجريات القضية بل هو من أساسيات تفكيك المنظومة. كما أن التنكيل بالجثث يدلنا أيضاً على الفكر والمخيلة والعقل المنفذ والمخطط القابع وراء منظومة الاستبداد والبطش. وقع قتل فيصل بركات يوم 8 أكتوبر 1991 ولكن وقع إعلام الحرس الوطني بمنزل بوزلفة بالحادث المروري الذي توفى فيصل على أثره يوم 11 أكتوبر. فهل وقع إخراج جثة فيصل بركات وإلقائها في الطريق العمومي ودهسها بسيارة فعلا ليتم إخفاء القصة الحقيقة وآثار التعذيب؟ أم أن هذه القصة هي مجرد قصة مفبركة بالتنسيق مع رئيس مركز الحرس الوطني والمستشفى من أجل التغطية على جريمة التعذيب. نريد من المتهمين إخبارنا حقيقة ما حصل. كل ذلك يفكك المنظومة ويضمن عدم تكرارها وهذا أساس العدالة الإنتقالية.
تعذيب بغرف مغلقة وجلسات “علنية”
العدالة الإنتقالية هي عدالة إستثنائية، وهي عدالة قائمة على كشف الحقائق. جريمة التعذيب تمت ممارستها بغرف مغلقة. لذلك يجب على المحاكمات أمام الدوائر القضائية المتخصصة أن تكون علنية ومنعقدة بوجود الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة. للأسف هناك نقص بالتغطية الإعلامية لهذه الجلسات لأسباب عديدة ممكن أن تكون نقص الوعي بأهميتها أو لأسباب سياسية بحتة. لذلك، نطالب بأن يكون على الأقل هناك تواجد لتوثيق رسمي من قبل وزارة العدل، وهي الوزارة المعنية مباشرة بالجلسات. بعدها تمكننا الوزارة من الحصول على نسخ من هذه التسجيلات لعرضها على خبراء مختصين بالتاريخ ولضمان عدم تكرار الجرائم، إلخ. تم الإستماع لمطلبنا هذا خلال جلسة رشيد الشماخي الأخيرة حيث تم تسجيل الجلسة من قبل كاميرات رسمية.
الإشكالية الثانية والأساسية هي مسألة وصول التبليغ والإعلام بالحضور للمنسوب إليهم الاتهام. المتهمون معظمهم من ضمن الجهاز الأمني، حتى أولئك الذين ليسوا من ضمن الجهاز وقع تخويفهم وعدم ترغيبهم في الحضور للجلسات إثر بيانات وتصريحات النقابات الأمنية. كتبة الدوائر القضائية المتخصصة تعودوا الالتجاء للضابطة العدلية والأمنية لتبليغ الإعلانات وهذا خطأ. يجب إعادة التذكير بأن الهدف الرئيسي للعدالة الإنتقالية وانعقاد هذه الجلسات ليس التشفي بالمتهمين بل الكشف عن منظومة الإستبداد.
عن الحق الحصري للضحية بالعفو
المحاكمات اليوم يجب أن تكون هي الأولوية في مسار العدالة الإنتقالية. من بعدها يمكن لنا الحديث عن مصالحة وإمكانية القيام بمصالحة شاملة. باعتقادي، الضحية هي الوحيدة التي تملك الحق بالعفو عمّن إرتكب بحقها جرما وليس كما يدعو بعض رؤساء الأحزاب لمصالحة شاملة. هذا يعد تعديا على حقوق وكرامة الضحية. حتى في شرعنا الإسلامي، إن كان من يدعو للعفو العام هم من أولئك الذين يحملون خلفية دينية، فللضحية الحق الحصري بالعفو. فإسلامياً “الدية” تقبلها أو ترفضها عائلة الضحية. وهنا على مجموعات الضحايا الذين يطالبون بالقرار الإطاري ومنظومة جبر الضرر أن يعوا جيدا أن في تقاليدنا وشرعنا قبول “الدية”، أي جبر الضرر المادي، هو بحد ذاته عفو عن القائم بالانتهاك. والخطر الكبير يكمن في الوصول إلى المصالحة قبل كشف الحقيقة والمحاسبة.
ضبابية المشهد ما بعد الهيئة..
هناك لوم كبير على هيئة الحقيقة والكرامة. لماذا وقع تركيز الدوائر المتخصصة بعد أربع سنوات من تأسيس الهيئة؟ لو تم تركيزها في السنوات الأولى لكنا اليوم بصدد تلقي أحكام صادرة ضد القائمين بالانتهاكات. حتى وأن قانون العدالة الإنتقالية ينص على أن الدوائر المتخصصة تصدر تقارير يتم إحالتها للهيئة حول مسار القضايا التي أحيلت إليها. قريبا ستنهي الهيئة أعمالها فلمن ستحيل الدوائر هذه التقارير؟
من سيتابع أعمال الهيئة بعد 15 ديسمبر في ظل غياب أي حديث عن اللجنة البرلمانية التي ستكلف بمتابعة تطبيق قرارات هيئة الحقيقة والكرامة وتوصياتها الصادرة في تقريرها النهائي من قبل الحكومة؟ حتى أن مصير صندوق الكرامة ما زال مجهولا. يجب الضغط على الحكومة لفتح الحساب الجاري لتتمكن الجهات المحلية والدولية تحويل أموالها على شكل هبات ومساعدات غير مشروطة ليتم دفع التعويضات وجبر ضرر الضحايا.
كما أن مسألة أرشيف هيئة الحقيقة والكرامة مسألة شائكة. فطبقاً لقانون العدالة الإنتقالية، يحال أرشيف هيئة الحقيقة والكرامة إما إلى الأرشيف الوطني أو إلى مؤسسة يتم تشكيلها لغرض حفظ أرشيف الهيئة. لماذا لم يسعَ مجلس النواب طيلة هذه السنوات لتركيز هذه المؤسسة؟ اليوم سيحال الأرشيف أتوماتيكياً للأرشيف الوطني في ظل غياب أي مؤسسة خاصة لإستقباله، وطبعا سيخضع لقوانين الأرشيف الوطني الذي لا يمكننا من الولوج للوثائق المودعة إلا بعد سنوات حسب نوعية الوثائق وهذا قبر للحقيقة والذاكرة الوطنية.
لكي لا تكون الضحية ضحية من جديد..
اليوم من واجب المجتمع المدني أن يضبط صفوفه بتحرك وطني كبير لإنقاذ ما يمكن إنقاذه واستكمال مسار العدالة الانتقالية من خلال الضغط لتشكيل اللجنة البرلمانية الضامنة لتنفيذ قرارات وتوصيات تقرير الهيئة النهائي. كما على الضحية أن ترفض أن تكون ضحية من جديد من خلال متابعة أعمال الدوائر القضائية المتخصصة والتي، بالاطلاع على تجارب أخرى، دامت لسنوات بعد انتهاء أعمال هيئات الحقيقة والكرامة. اليوم على مجموعات الضحايا والمجتمع المدني بمنظماته وهيئاته كافة أن تتعاون لتصل بتونس إلى آخر محطات مسار العدالة الإنتقالية وهي المصالحة الشاملة.
“