ولفرام لاخر هو من كبار الباحثين في الشؤون الليبية. وقد تركزت أبحاثه على ديناميات الصراع في ليبيا ومنطقة الساحل. وهو مؤلّف كتاب “تفكك ليبيا – الهيكل والعملية في الصراع العنيف” (آي بي توريس، 2020) ومحرّر مشارك لكتاب “العنف والتحول الاجتماعي في ليبيا” (هيرست، 2023). يشرح لاخر في هذه المقابلة أسباب إغلاق المعبر الحدودي التونسي الليبي وديناميات عملية إعادة الصوغ السياسية للنخبة الحاكمة الجديدة في ليبيا ما بعد القذافي.
المفكرة: منذ اشتباكات 18 و19 مارس، تمّ إغلاق معبر رأس جدير الحدودي الخاضع لسيطرة مليشيات زوارة الأمازيغ. وقد فشلت حكومة الوحدة الوطنية، حتى هذا التاريخ، في فرض إعادة فتح هذا المعبر. ماذا تعني هذه الأزمة الجديدة على صعيد موازين القوى بين حكومة عبد الحميد الدبيبة والجماعات المسلحة؟
لاخر: المسألة ليست مسألة توازن قوى بين الحكومة والجماعات المسلّحة – بل توازن قوى بين التشكيلات المسلّحة المتحالفة مع الحكومة، والتشكيلات المسلّحة التي تعتبر نفسها مهمّشة في ظلّ الوضع السياسي الحالي. ووزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية، وهو أحد قادة الميليشيات العديدة المتحالفة بشكل وثيق مع رئيس الحكومة الدبيبة، يريد للوحدات الخاضعة له أن تتولّى السيطرة الكاملة على المعبر. ولكنه يواجه مقاومة من زوارة، كما أنه لا يحظى بدعم القوى من الزاوية للسيطرة على المعبر بالقوة. لذلك فهو يحاول الضغط على خصومه لإجبارهم على الرضوخ عن طريق إغلاق المعبر – الأمر الذي، في تقديره، سيدفع ميليشيات زوارة إلى التراجع عاجلًا أم آجلًا. إلّا أن تصرّفاته تعزّز صفوف الساخطين على الحكومة، في حين أن موقف الدبيبة يزداد ضعفًا.
بشكل عام، من المهم التنبّه إلى أنّ ليبيا لا تمتلك قوى أمنية موالية للدولة ككل. فثمة وحدات مختلفة من وزارتي الداخلية والدفاع، فضلًا عن وحدات تابعة شكليًا للمجلس الرئاسي، متحالفة مع جهات سياسية متنافسة في طرابلس، أو حتى مع المعسكر الشرقي بقيادة حفتر. يمكنكم تسميتها تشكيلات مسلحة أو ميليشيات إذا أردتم، ولكنها تزداد قوّة وتنظيمًا بشكل متزايد، وتتمتّع بصفة رسميّة كقوى أمن للدولة، ومن المرجّح أن تهيمن على المشهد الأمني في ليبيا لفترة طويلة قادمة.
المفكرة: لقد نشرت مؤخرًا تقريرًا بعنوان “الاقتصاد السياسي للزاوية: الجماعات المسلحة والمجتمع في مدينة غرب ليبيا”. كيف يمكن لدراسة الحالة هذه تسليط الضوء على ديناميّات عملية إعادة الصوغ السياسية وتشكيل نخبة حاكمة جديدة في ليبيا ما بعد القذافي؟
لاخر: ثمة سببان يجعلانني أؤمن بأهمية إجراء دراسات حالة محلية تفصيلية كهذه. الأوّل هو أنّ هياكل السلطة في ليبيا كانت تعزز قبضتها تدريجيًا على مدى السنوات الثلاث الماضية. خلال السنوات الستّ أو السبع الأولى بعد عام 2011، كان المشهد السياسيّ والعسكريّ في ليبيا فوضويًا للغاية، وكان هناك العديد من الجهات المختلفة، وقلّة قليلة منها حافظت على مكانتها خلال العقد الماضي. ومع مرور الوقت، تناقص عدد قادة الميليشيات البارزين أكثر: فقد حصّنوا أنفسهم في المناطق التي يسيطرون عليها، وهم يمارسون نفوذًا كبيرًا في مؤسسات الدولة. لذا، يجدر النظر بالتفصيل لفهم من هي هذه الجهات بالضبط، وما هي بالضبط القاعدة التي بنتْ عليها سلطتها، وما هي العلاقة التي تربطها بالمجتمع المحلي – حتى في مدينة مثل الزاوية، حيث لا تزال عملية الدمج في مرحلة مبكرة نسبيًا إذ أن أربع جماعات مسلحة رئيسية تتنافس على النفوذ هناك.
السبب الثاني هو أنّ العلاقة بين الجماعات المسلحة والمجتمع تختلف بشكل كبير بين منطقة وأخرى في ليبيا. لم يُكتب سوى القليل عن الزاوية على الرغم من أنّ جماعاتها المسلّحة تتمتع بنفوذ سياسي، لذلك رأيت أنّ الأمر يستحقّ تسليط بعض الضوء على الوضع هناك.
المفكرة: في كتابك الأخير، “العنف والتحول الاجتماعي في ليبيا”، أجريتَ دراسةً لمعرفة كيف أدّى أكثر من عقد من الصراع إلى تغيير السلطة والمجتمع في ليبيا. هل يمكنك أن تشرح لنا تأثير العنف على المجتمع، الأمر الذي نادرًا ما نتحدّث عنه؟
لاخر: في هذا الكتاب، جمعنا أنا وفيرجيني كولومبييه عددًا من المساهمين للنظر في مجموعة من جوانب المجتمع الليبي التي أدى الصراع العنيف إلى تغييرها. الإجابة المختصرة عن سؤالك هي أن العنف قد بدّل جوانب المجتمع الليبي كافة – وهذا أمر شائع في البلدان التي تشهد حروبًا أهلية. إنّ الطريقة التي يحدّد بها الناس هويّتهم، على سبيل المثال من خلال الانتماء إلى مدينة أو منطقة معينة، قد تشكّلت وتقولبت من خلال الصراع. لقد تشكّلت الهوية الاجتماعية لجيل الشباب في ليبيا من خلال الصراع، على سبيل المثال من خلال حقيقة أنّ الانضمام إلى جماعة مسلحة يوفّر اليوم أحد أفضل السبل للترقية الاجتماعية. وقد نزح الناس على نطاق واسع، وتغيّرت التركيبة السكانية لمدن أو أحياء بأكملها بسبب العنف. كما تأثرت الطريقة التي تمارس بها النساء أعمالهنّ وأنشطتهنّ الاجتماعية بانعدام الأمن والانكماش الاقتصادي الناجم عن الصراع. والحديث يطول – فما من جانب من جوانب الحياة الاجتماعية لم يتأثر بالعنف منذ عام 2011.
المفكرة: تكمن أهميّة ليبيا الإستراتيجية الرئيسية بالنسبة إلى الاتّحاد الأوروبي في مسألة الهجرة. لقد عمدتْ الدول الأوروبية إلى تمويل الجماعات المسلّحة من أجل “مكافحة الهجرة غير الشرعية”. كيف أثرت مأسسة هذه الجماعات على الإتجار بالمهاجرين؟
لاخر: قد يكون من المبالغة القول إنّ الدول الأوروبية قامت بتمويل الجماعات المسلّحة لمكافحة الهجرة. الأمر المؤكد هو أنّ خفر السواحل الليبي قد حصل على قوارب وتلقى التدريب من الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء، وأنّ الأوروبيين يزوّدون خفر السواحل بإحداثيات القوارب التي تحمل المهاجرين. ثم يعترض خفر السواحل هؤلاء المهاجرين ويسلمونهم إلى وزارة الداخلية الليبية التي تحتجزهم في ظروف مروّعة في كثير من الأحيان. وقد شجّعت هذه السياسات الأوروبية الجماعات المسلّحة على طول الساحل الغربي الليبي على الانخراط في أعمال مكافحة الهجرة. وفي بعض الحالات، قام مهرّبو المهاجرين بإعادة تشكيل أنفسهم كقوّات لمكافحة الهجرة من أجل الحصول على دعم الحكومة وتمويل الدولة، ولكن أيضًا للتهرّب من خطر العقوبات الدولية أو الملاحقة القضائية من قبل النيابة العامة الليبية. وفي حالات أخرى، يتنقّل المهرّبون بين نمطي الأعمال: تيسير الهجرة أو وقفها ــ تبعًا للحوافز المتاحة حينها. والقاسم المشترك بين هذين النمطين هو استغلال المهاجرين. ويشارك الأوروبيون بشكل كبير في نظام استغلال المهاجرين هذا، من خلال الطلب من خفر السواحل الليبي اعتراض المهاجرين ومساعدتهم في ذلك.
ومن وجهة نظر أوروبية، نجحت هذه السياسة على مدى عدة سنوات، منذ منتصف عام 2017 فصاعداً. ولكن منذ عام 2021، باتت هذه السياسة أقل فعالية وعادت أعداد الوافدين من ليبيا لترتفع من جديد تدريجياً.
المفكرة: يبدو الوضع السياسي الحالي غير مؤاتٍ لاستئناف الحرب الأهلية أو لإجراء الانتخابات. ما هو رأيك في هذا الخصوص؟
لاخر: ليبيا خارجة من مرحلة كان فيها اللاعبون الرئيسيون مرتاحين إلى حدّ ما للجمود السياسي، وتدخل اليوم في مرحلة تشهد من جديد تصاعدًا تدريجيًا للتوترات. إنّ الترتيبات المالية التي كانت قائمة بين الدبيبة وآل حفتر وقادة الميليشيات في غرب ليبيا تتفكك ببطء منذ الصيف الماضي. الدبيبة اليوم في موقف أضعف، إذ أنه فقد دعم حاكم البنك المركزي، وبالتالي يواجه صعوبات أكبر في الحفاظ على مستويات إنفاق حكومته. وفي الوقت نفسه، يبرز مرة أخرى معسكران متنافسان من الجماعات المسلحة في طرابلس، مع تزايد التوترات بين جهاز الردع من جهة وجهاز دعم الاستقرار، الذي يدعم زعيمه الدبيبة. من جهة أخرى. من الممكن أن تتصاعد هذه التوتّرات لتتحوّل إلى صراعٍ مفتوح في مرحلة ما. لكن في الوقت الحالي، لم تبلغ هذه التوتّرات مرحلة تقنع فيها الجهات المعنية بأنّ الوضع لا يمكن أن يستمرّ، وأنّه قد تمّ التوصل إلى ترتيب جديد. وما من مسار مقنع للمضيّ قدمًا: فالتفاوض على حكومة جديدة لن يحلّ أي شيء، والانتخابات غير واقعية ــ إذ أن الجهات الفاعلة الرئيسية غير مستعدّة لتقبّل احتمال فوز خصومها.
لقراءة الحوار باللّغة الانكليزية