في إطار اهتمام المفكرة بالشأنين القضائي والحقوقي، يهمّها أن تقدم لقرائها تغطية خاصة لمجريات الجلسة الأولى لمحاكمة المتهمين في القضية المصطلح على تسميتها بقضية المؤامرة والتي عقدت بقصر العدالة بتونس يوم 04-03-2025. للتذكير، كانت رئاسة محكمة تونس قد عممت مذكرة مفادها أن المتهمين الموقوفين في هذه القضية سيحاكمون عن بُعد، وهو ما اعتبرته المفكرة القانونية قرارا بحكم غير الموجود لصدوره عن سلطة غير مختصة وفي أية حال نسفا لمبادئ المحاكمة العادلة. نشر هذه الوثيقة التي تم الحرص في تحريرها على الالتزام بالموضوعية والنقل الأمين للأحداث غايته توفير مادة تصلح أن تقدّم صورة عن المحاكمات السياسية و مجرياتها.
ساعة ما قبل الجلسة: إسناد واستعداد
صباح يوم 04-03-2025، بدتْ كثافة الحضور بيّنة لكل عابر أمام المحكمة الابتدائية بتونس وسط العاصمة تونس من جهة شارع باب بنات: صحافيون يحملون مصادحهم وأدوات التصوير يترصّدون المتّهمين وعائلات الموقوفين والشخصيات الحقوقية لتسجيل تصريح سريع قبل بدء الجلسة. الشبكة التونسية للحقوق والحريات، التي تضمّ أحزابًا وجمعيات على خطّ التصدّي للانحراف السلطوي، رفع ناشطوها لافتة كبيرة بعنوان “لا للمحاكمات عن بعد، لا لقضاء لا يضمن الحقوق.. الحرية للمعتقلين السياسيين” مع صور المعتقلين الموقوفين. وكان عددٌ منهم يقرع على طبل كبير هاتفين “فاسدة المنظومة من قيس للحكومة” و”حريات حريات يا قضاء التعليمات” و”لا قضاء لا قانون، شرفاء في السجون”.
أمام هذه الأجواء الاستثنائية، لم يكن الحضور الأمني الظاهر في المكان مختلفا عن حالته الاعتيادية. اختلف هذا عن جلسات محاكمات سياسية سابقة، ومنها ذات قضية التآمر، والتي عند نظرها من دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف وضعت حواجز أمنية إضافية أمام مدخليْ المحكمة سواء من جهة شارع باب بنات أو شارع 9 أفريل بما عسّر الحركة.
غياب القيود مكّن عائلات الموقوفين والعديد من المتضامنين من الدخول للمحكمة بشكل جماعي حاملين صور المعتقلين رافعين شعارات تنادي بالحريات والقضاء المستقل ومتّجهين صوب القاعة عدد 06 حيث ستعقد الجلسة.
قاعة الجلسة
عند مدخل القاعة عدد 6 في الطابق الأرضي للمحكمة، لم تكن تضييقات أمنية خلافا لعادة جلسات دائرة الإرهاب. اكتفى الأمنيون بمراجعة هويّات الصحافيين ومنعهم من إدخال أدوات التصوير .. كان هناك تدافع كبير من الحاضرين، لم يكن ميسّرًا حتى للمحامين الدخول للقاعة يهمس المحامي الأستاذ عبد العزيز الصيد: “عباءتي تمزقت … التدافع كبير وحضور المحامين متميز”.
بدء الجلسة بالنشيد الوطني والهتاف: هي محاكمة سياسية
ضرب حاجب الجلسة الناقوس على الساعة التاسعة وخمس وثلاثين دقيقة مؤذنًا بدخول أعضاء الدائرة وممثل النيابة العمومية. وقف الحاضرون كما هو عرف المحاكم، وفي حركة ذكّرت بتقاليد المحاكمات السياسية أنشدوا النشيد الوطني التونسي “حماة الحمى” وبعد ذلك رفعوا شعار “جلسة حضوريّة حق مش مزيّة”، و”وينو الموقوفين.. وينو الموقوفين” و”سياسيين مش إرهابيين”.
في الجهة المقابلة وعلى منصة المحكمة، كانت ملفات أخرى مرصوفة مع ملفّ قضية “التآمر”. قضاة ينظرون للقاعة في صمت ومع حرص على عدم إظهار أيّ ملامح خاصة. يحاول رئيس الهيئة فرض النظام يطرق على منصته وينادي على ملف كان أمامه.كان المتهم في ذاك الملف موقوفا بالسجن وستتم محاكمته عن بعد. بدت صورته من خلال التلفاز لكن صوته لم يصل للقاعة. يعود الرئيس لمناداته فلا يصل أي صوت.
يتدخل المحامي سمير ديلو وهو من محامي ملف المؤامرة ليقول في نبرة ساخرة حزينة: “من فرض المحاكمة عن بعد هو من يوفّر الإمكانيات”، وكأنه يقول إن هذه عاقبة صنيعكم. يرتبك القاضي ويقرّر في تمام الساعة التاسعة وخمسين دقيقة، رفع الجلسة بعد 15 دقيقة فقط من انطلاقها: “ترفع الجلسة لحين تجاوز الصعوبات”. تتعالى الشعارات ويسجّل بعض الحاضرين مقاطع فيديو تنتشر سريعًا على منصّات التواصل الاجتماعيّ.
في تلك الأجواء الصاخبة، يتدخّل المحاميان ديلو ودليلة بن مبارك ويطلبان من الحاضرين الكفّ عن رفع الشعارات لأهمية توفير ظروف تمكن الدفاع من القيام بدوره وهو ما كان لاحقا في انضباط كبير.
عن التصوير ومكبّرات الصوت
عادت الهيئة الحكمية على الساعة العاشرة وخمسة عشر دقيقة، وافتتحها رئيس الدائرة بدعوة لعدم تصوير أعضاء الدائرة مذكرًا بمقتضيات الفصل 78 من قانون مكافحة الإرهاب ..قبل أن يستدرك في خطاب حاول أن يكون هادئا: “نحن لا إشكال لنا مع العلنيّة”. فيتدخل رئيس الفرع الجهوي للهيئة الوطنية للمحامين العروسي زقير، منسق فريق الدفاع، ويساند طلب الرئيس ويطالب الجميع بالامتناع عن تصوير أعضاء الدائرة.
بعد ذلك، يعمّ الهدوء ويحاول رئيس الجلسة مجدّدًا إجراء استنطاق ملفه الأول لكن صوت المتهم لا يصل للقاعة. يبرّر القاضي ذلك بعدم حضور التلفزة الوطنية ويطلب من الحاضرين التعاون مع المحكمة لتوفير ظروف محاكمة يقول عنها عادلة. يصله صوتٌ من مقعد المحامين: “التجهيزات متوفرة ويتم استعمالها في الدوائر القضائية المتخصصة للعدالة الانتقالية، وهي ليست تجهيزات خاصة بالتلفزة التونسية بل وفّرها المانحون مثل الصندوق الإنمائي للأمم المتحدة”. يتجاهل الرئيس ويمضي قدما لينادي على ملف المؤامرة متنازلا عن نظر غيره من الملفات.
المعتقلون السياسيون ليسوا في غرفة البث: التمسك بحق الحضور جلسة
بدأ رئيس الجلسة بالمناداة على المتهمين، وفق تصنيف حالتهم. فنادى بأسماء المتهمين الموقوفين قبل أن يملي على كاتب الجلسة: “لم يحضر خيام التركي و رضا بالحاج و جوهر بن مبارك و غازي الشواشي وكمال اللطيف وعبد الحميد الجلاصي و عصام الشابي” وكانوا رفضوا الحضور إلى غرفة البث في السجن. ثم نادى على أسماء المتهمين الموقوفين في غير القضية ويسجل مجدّدا عدم حضور نور الدين البحيري والصحبي عتيق و كمال البدوي …حضر في قاعة العرض بالسجن متهمان فقط هما السيد الفرجاني وحطاب سلامة.
يقاطع المحامون الرئيس ويطلبون منه ألّا يضمن بالمحضر رفض الحضور موكليهم: “موكلّينا لم يرفضوا الحضور هم تمسكوا بحقهم في الحضور”. يتمسك القاضي مستندا إلى إفادة أعوان إدارة السجون الذين كانوا في كل مرة يدلون له بأوراق يقولون أن فيها شهادات على رفض المتهمين الحضور … تتشنج الأجواء ..تقاطع المحامية دليلة إملاء الرئيس لمحضر الجلسة وتقول بصوت عال فيه شرح لمن يتابعون حكاية الشهادات “جوهر بن مبارك (أحد المتهمين الموقوفين) أعلمني بالأمس عندما زرته بسجن “بلّي” أن أعوان السجون توجهوا في وقت سابق لموقوفي الحق العام الذي يشاركونه الغرفة وطلبوا منهم الشهادة بكونه رفض الحضور في قاعة البث عن بعد. كان الطلب واضحًا هو الإدلاء بوثائق رفض الحضور”.
فيما بدا محاولة لتخفيف التشنج، يجذب رئيس الجلسة الوثائق المدلى بها ويمكن المحامين من الاطلاع الحيني عليها. كانت في أغلبها شهادات خطّها مساجين حقّ عامّ كانوا في ذات غرف المتهمين في القضية تشابهت في صياغتها تؤكد أن السجّانين طلبوا من المتهمين الحضور إلى قاعة العرض لكن هؤلاء رفضوا مغادرة غرفهم.
علاوة على تلك الأوراق مكن القاضي منسق الدفاع زقير من الاطلاع على مراسلة من مدير السجن موجهة لوكيل الجمهورية ورئيس الدائرة موضوعها: “رفض سجين الحضور في الجلسة”.
المتهمون بحالة سراح على الموعد
لم توجه المحكمة لسبب لا يعلم استدعاءات لحضور المتهمين بحالة سراح جلسة المحاكمة. أمر لم يمنع المتهمين المحالين بحالة سراح أحمد نجيب الشابي، والعياشي الهمامي ورياض الشعيبي وشيماء عيسى ومحمد لزهر العكرمي و نورالدين بوطار وكريم القلاتي من الحضور بالمناداة عليهم. حينها قالت شيماء عيسى في صرامة ظاهرة: “أنا أرفض أن أحاكم في غياب المعتقلين وأتمسّك بطلب إحضارهم لأنّ تغييبهم لا يوفّر شروط المحاكمة العادلة.”
العياشي الهمامي من جهته قال بنبرة صارمة: “أنا أرفض المشاركة في هذه المهزلة ما لم تتوفر شروط المحاكمة عن بعد وما لم يتم إحضار الموقوفين”.
رئيس جبهة الخلاص أحمد نجيب الشابي، قال في هدوء لا يخفي عزما وإصرارا: “لم أشاهد مثل هذا التعسف حتى في عهد الرئيس السابق بن علي. “
محمد لزهر العكرمي، لم يكن مقتضبا كمن معه. تحدّث مطوّلا بنبرة فيها كثير من السخرية عن إيقافه سابقا والخروقات القانونية الإجرائية التي عاينها في ذلك. فقال: “أصدر قاضي تحقيق بطاقة إيداع بحقي شهر فيفري 2023 وأحال ملفي على قاضي التحقيق الذي كان يباشر ملفّ “التآمر”… قاضي تحقيق المؤامرة لم يصدر في حقي بطاقة إيداع. ولكني بقيت في السجن مدة أربعة أشهر كاملة: كنت في حالة سراح لكن موقوفا في المرناقية … لماذا كل هذا؟ … لأجل ادعاءات باطلة أنها محاكمة سياسية..”.
رياض الشعيبي كان أكثر اقتضابا في خطابه. تمسّك بإحضار المعتقلين الموقوفين لأن دون ذلك يمسّ من أهداف المحاكمة ومما قد يصدر عن الدائرة بتعبيره. وقال: “غير مستعدّ لمحاكمة تنتهك واحدة من أهم ضمانات المحاكمة العادلة وذلك بعد سنتين من انتظار معرفة الحقيقة”.
السيد الفرجاني وهو السياسي الوحيد الذي كان متوجدًا في غرفة البث في المرناقية بعد إحضاره من سجن المسعدين توجه لرئيس الدائرة “هذه محاكمة مشتتة وليست عدالة”. ثم أشار إلى إقحام اسمه في ملف القضية ليتم سماعه من قاضي التحقيق ولكن “صُدم” بما وجده بقرار ختم البحث بإحالته. “هذا تزوير ودسّ واختلاق للتهم. نحن أين يعيش؟ إذا لم يتم تصحيح هذا فلا قيمة لحضوري. احكموا ما شئتم”. كانت حالته الصحية ليست على ما يُرام لذلك طلب بعد سويعات من رئيس الدائرة السماح له بمغادرة غرفة البثّ وهو ما تمّت الاستجابة له.
رفض المحاكمة عن بعد: مسألة أوليّة
بدأت، تباعًا، مرافعات المحامين في “الشكل” متوحّدة حول مطلبين رئيسييْن: طلب إحضار المنوبين لقاعة الجلسة رفضًا للمحاكمة المرئية مع طلب الإفراج عنهم من سجن إيقافهم. ولكن البداية، وعلى سنّة تسيير الجلسة، بدأت بإعلام رئيس الدائرة بالمحامين النائبين في الملف والذين بلغ عددهم نحو 300 محام. كان العدد مهمًا عكسه بالخصوص الحضور اللافت داخل قاعة الجلسة التي ضاقت على المحامين قبل عائلات المتهمين والمتضامنين. الأستاذ الصيد لاحظ لرئيس الدائرة للزوم التثبت من إعلامات النيابة ومقارنتها بالمتهمين ليتم تسخير محامٍ للمتهّم الذي لا محامٍ له.
وابتدأ رئيس الفرع العروسي زقير مهرجان المرافعات بتأكيده أن هذه المحاكمة سيدوّنها تاريخ تونس مشدّدًا على “بدعة” المحاكمة عن بعد، ذلك أن الشعب التونسي ينتظر المحاكمة العلنية منذ سنتين شهدت تشويهًا للموقوفين وهم يأملون كشف الحقيقة بتمسكهم بحق الحضور الفعلي. كان حاسمًا أن ملف القضية “فارغ” بحكم اطلاعه عليه، مشددًا بالخصوص على التراجع في فرض المحاكمة عن بعد. أكمل زقير مرافعته الموجزة ولكن احتجّ على عدم تدوينها كما يجب ليتدارك رئيس الدائرة بإعادة الإملاء على كاتب الجلسة.
تتالت المرافعات وسط حالة إجماع بشأن مخالفة قرار رئيسة المحكمة ووكيل الجمهورية بعقد المحاكمة عن بعد مع الفصل 141 مكرّر من مجلة الإجراءات الجزائية الذي ينظّم هذا الصنف من المحاكمات: غصب لاختصاص رئيس الدائرة وانعدام التعليل واستناد على نصّ صدر في شكل مرسوم زمن “كورونا” مقيّد موضوعيًا وزمنيًا. “القرار بيدكم واغتصبه غيركم. هذا انتحال صفة. رئيس الدائرة هو الذي لديه الولاية الحصرية على الملفات المنشورة أمامه وليس رئيسة المحكمة”، هكذا توجه ديلو لرئيس الدائرة.
الهيئة الحكمية تحت المجهر
تناولت المرافعات، أيضًا، معضلة عدم شرعية الهيئة القضائية وبالخصوص عدم تعيين رئيس الدائرة طبق القانون أي من طرف قرار من المجلس الأعلى للقضاء بالنسبة لقضاة قطب مكافحة الإرهاب. لكن أمين بوكر لاحظ بالخصوص أن أحد أعضاء الدائرة المنتصبة كان قبل أيام عضوًا بالدائرة الجنائية الثانية التي تعهدت بملف “انستالينغو” الذي انتهى بإصدار أحكام سجنية قاسية ضد معارضين وصحفيين، وهو فضلا عن كل ذلك ليس معيًنًا في القطب طبق القانون، باعتبار أن التعيينات تجري حاليًا بمجرد مذكرة عمل من وزارة العدل. ولذلك كان طلبه، هنا، هو إيقاف النظر في القضية إلى غاية البت في دعوى إلغاء منشورة أمام المحكمة الإدارية تسلّطت على مذكرة العمل الصادرة من وزيرة العدل.
أحمد صواب القاضي السابق، توجّه لرئيس الدائرة مباشرة: “أنا كنت في مكانك. درجة الحرارة مختلفة بين موقعي وموقعك. كنت في مكانك في وضع راحة ولكن الآن لديّ مشكل. والمشكل الآن بالنهاية ضمانات المحاكمة العادلة”. يواصل صواب بطريقته الحازمة والساخرة في آن “حكم ضميرك وكن مسؤولًا. الدنيا دوارة ولو دامت إلى غيرك لما آلت اليك”.
محمد عبو كان مباشرًا بدوره بشأن عدم توفر ضمانات المحاكمة العادلة بدءًا من عدم استقلالية القضاء مذكرًا بالمرسوم عدد 11 الذي تم بموجبه حل المجلس الأعلى للقضاء، وقال، في باب ما بين الجدّ والهزل، أن الطلب الطبيعي في هكذا حال هو إيداع الملف بكتابة الدائرة إلى غاية توفّر شروط المحاكمة العادلة.
عودة على “اللا جريمة”
هذا ولم تتجاوز المرافعات بالضرورة العودة للطابع السياسي المحض للقضية أي باعتبارها محاكمة على خلفية ممارسة معارضين لنشاطهم السياسي وتنسيقهم فيما بينهم. “لم تتم مجابهة المنوبين بفعل مجرّم. أين احتكار البضائع؟ أين الاعتداء على الأمن البيئي؟” هكذا توجهت دليلة بن مبارك، وعرّجت على زيف ما تداوله معلّق صحفي مُوالٍ للسلطة في قناة “التاسعة” مؤخرًا مؤكدة أن المخطط المزعوم الذي تم تداوله عدا عن أنه يحمل خطة سياسية فهو لا يهم المعتقلين باعتبار أنه صادر من فصيل سياسي معارض غير مشمول بالقضية من أصله. “كل الأنظمة الاستبدادية تبني استبدادها بالأمن لكن هذا النظام يبنيه بالقضاء”، مطالبة بوقف تيار المحاكمات السياسية “من يملك حدّا أدنى من المصداقية لا يشارك في هذه المهزلة”. كانت الدعوة واضحة. تباعًا استعاد العروسي زقير الكلمة ليلاحظ للمحكمة أن المطلب الرئيسي للدفاع هو التأخير لإحضار الموقوفين. هذا تأكيد لمسألة أولية.
كانت العودة واجبة على حقيقة انعدام أيّ جرم منسوب للمعتقلين عبر التعريج في كل مرة على أوراق أو قرائن “مزعومة” في الملف تثبت تهافت الادعاءات وعدم معقوليتها ومن ذلك الإشارة لحصول اجتماع بحضور بوعلي المباركي، الأمين العام المساعد السابق لاتحاد الشغل، والحال أنه متوفى بتاريخ الاجتماع كما ذكّر الصيد. ومنسّق هيئة الدفاع استعاد سلسلة الانتهاكات ضد المحامين في هذا الملف “قهرونا كدفاع وكمحامين سيدي الرئيس، قطعوا أجنحتنا بداية من تقييد حقنا في الحصول على بطاقة زيارة للموقوفين إلى غير ذلك من التضييقات”. كانت الحسرة واضحة هنا، وفي المرآة استعادة للتتبعات القضائية التي شملت الصيد ودليلة بن مبارك وإسلام حمزة على خلفية تصريحات صحفية حول القضية.
أمان الله مورو أوضح فظاعة التهم الموجهة لمعارضين عُرفوا طيلة حياتهم وعلى مدى عقود منذ الاستبداد بنضالهم السلمي “ليس خطورة التهم في عقوبة الإعدام بل في أنها تمس من الشرف السياسي. المتهمون اهتموا بالشأن العام لوطنيتهم”، وسخر، هنا، أنهم يواجهون تهم الاعتداء على أمن الدولة، الذي يستلزم ركن مادي وهو الاعتداء في ذاته، في غياب محجوز تفترضه مثل هاته الجريمة، فلا محجوز بالنهاية إلا الهاتف. جملة كانت كفيلة بإرسال موجة ضحك داخل القاعة. هي صورة المأساة التي تدفع للسخرية.
وكان لسامي بن غازي إشارة إلى وضعية الموقوف الوحيد على ذمة القضية الحاضر من غرفة البث في المرناقية، وهو ليس سياسيا بل مواطن مودع فقط على خلفية وجود سيارته في مأوى سيارات بجانب منزل أحد المتهمين الآخرين. كانت حالة هذا الموقوف، التي كانت عائلته في آخر القاعة تذرف الدموع، هي انعكاس لحالة العبث في القضية.
طلب الإيجاز وغياب المزيو
تواصلت المرافعات، في الأثناء، مع طلب الإيجاز قدر الممكن من رئيس الدائرة بتعلّة وجود ملفات أخرى منشورة في الجلسة ما كان في الأصل أن تعيّن بنفس تاريخ جلسة قضية رأي عام بهكذا حجم، فيما واصل، من جهته، رئيس الفرع ترتيب قائمة المحامين. في الأثناء، سجّل عدد من أعضاء مجلس هيئة المحامين حضورهم، ورافع بالخصوص عضو المجلس الطاهر يحيى في ملفّ يضمّ 7 محامين متهمين منهم ثلاثة موقوفين. وكان الغياب الملاحظ للعميد حاتم المزيو.
في الجلسة، تباعًا، وعلى الساعة الثانية ونصف، رفعت الدائرة الجلسة فيما يبدو لاستراحة اضطرارية لتعود بعد حوالي 20 دقيقة لمواصلة الترافع. كان واضحًا أن رئيس الدائرة بقدر سعيه لإنهاء المرافعات فإنه حاول إظهار قدر كبير من التعاون، هو واجب في الأصل، ولكن من البيّن أنه سعى لضمان أقصى ما يمكن من خيط تواصل آمن مع لسان الدفاع في أولى جلسات قضية هو يعلم أنه ستتعدّد جلساتها لزمن غير قصير.
تواصل الترافع إذا لمحام تلو الآخر إلى غاية الاختتام على الساعة الرابعة مساءً أي بعد حوالي سبع ساعات من افتتاح الجلسة. توجّه أحد الجالسين في الدكة الأمامية لرئيس الدائرة لاستطلاع موقف ممثل النيابة العمومية بخصوص مطالب الإفراج، وهو طلب بدا تذكيرًا بعد سهو. طلب ممثل النيابة “تطبيق القانون”، كان ذلك لافتًا فيما ظهر كأنه تفويض لنظر المحكمة، وإن جرت عادة النيابة، في المجمل، على عدم مسايرة مطالب الإفراج وطلب رفضها. تمّ حجز القضية بذلك إثر الجلسة، ليغادر الجميع القاعة بعد يوم مرهق زاده صوم رمضان إرهاقًا.
الملاحظون حاضرون وعميد سابق يُمنع من الترافع
وشهدت الجلسة حضور عدد من الملاحظين الأجانب على دأب ما تشهده دائمًا المحاكمات السياسية لمعاينة مدى الالتزام بضمانات المحاكمة العادلة في الحدّ الأدنى. حضر بالخصوص الرئيس السابق للرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان مصطفى بوشاشي، والعميد السابق للمحامين بباريس “كريتسيان شاريار بورنازال” Christian Charrière-Bournazel الذي طلب، عن طريق رئيس الفرع، تمكينه من الترافع، بيد أن رئيس الدائرة رفض ذلك إثر مفاوضة حينية سريعة مع أعضائه، في خرق كما أكده رئيس الفرع لنواميس جرت عليها أصول الدفاع في هذه المحاكمات.
زقير أكد أن المحكمة العسكرية سبق وأن سمحت بترافع محامين أجانب أمامها. أما العميد بورنازال توجه إثر رفض رئيس الدائرة في تفاعل غاضب وهو الذي كان يستعدّ للترافع: “إن احتجتم يوما في مظلمة سلطت عليكم أينما كنتم، فنحن سنكون جاهزين للدفاع عنكم”. ينقل المحامي عبد الستار المسعودي هذا مضيفًا أن العميد السابق توجّه إليه إثر هذا الرفض بالسؤال “ما الذي تغيّر عندكم يا زميلي؟ فمنذ عهد بورقيبة وبن علي كنا نأتي من باريس وروما ومدريد وبروكسل ولندن ونترافع والمحكمة تصغي وترحب؟”.
تأخير الجلسة ورفض مطالب الإفراج
على الساعة الخامسة و17 دقيقة، نشرت وكالة تونس إفريقيا للأنباء خبرًا منسوبًا لـ”مصدر قضائي” مفاده رفض مطالب الإفراج مع تأخير القضية لجلسة 11 أفريل 2025. اُختتمت المرافعات في الشكل في القضية بعد الساعة الرابعة مساءً، وأكد رئيس الدائرة أن جلسته متواصلة للنظر في ملفات أخرى. كان لافتًا للانتباه إذًا، وإن ليس مستغربًا، أن تقرّر الدائرة في غضون بالكاد ساعة واحدة رفض جميع مطالب الإفراج. وإجمالًا انتهى بهذا الخبر، وقبيل ساعة واحدة من موعد الإفطار، يوم طبع نفسه بقوة في سجلّ تاريخ النضال الحقوقي في الدفاع عن الحريات العامة، والتصدّي للمحاكمات السياسية، وقد كان بالخصوص للحضور المكثّف للمحامين رسالة واضحة في التعبئة والإسناد، في مسار طويل، في انتظار جلسة جديدة، سيتواصل خلالها المطالبة بتأمين أدنى شروط المحاكمة العادلة وليس أولّها بداهة إحضار المعتقلين من سجن إيقافهم في قاعة الجلسة.