بعد جلسات ماراتونية استغرقت ستة أشهر، أصدرت غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بالرباط حكمها في واحدة من أكثر القضايا جدلا على الساحة الحقوقية المغربية: إنها قضية أكديم إزيك[1].
وكانت القضية أحيلت على القضاء العادي بقرار تاريخي لمحكمة النقض قضى بنقض الحكم الصادر عن المحكمة العسكرية في وقت سابق انتصارا لمبدأ عدم محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية.
وقد تضمن الحكم الصادر بتاريخ 2017/07/19 عن محكمة الاستئناف بالرباط أجوبة للعديد من الدفوع التي تقدم بها دفاع المتهمين والمطالبين بالحق المدني.
ملخص القضية
تعود فصول القضية إلى أواخر سنة 2010 حينما شيد عدد من المواطنين مخيما على بعد حوالي 15 كلم من مدينة العيون جنوب المغرب، احتجاجا على تدهور أوضاعهم الإجتماعية. وبعد فشل المسؤولين في حثهم على تفكيك المخيم، قامت السلطات الأمنية يوم الإثنين 2010/11/08 باقتحامه فجرا، وخلفت العملية بحسب الإحصائيات الرسمية 11 قتيلا من صفوف قوات الأمن من ضمنهم أحد عناصر الوقاية المدنية، إضافة إلى 70 جريحا من بين أفراد هذه القوات، وأربعة جرحى في صفوف المدنيين.
وبناء على ذلك، تمت إحالة عدد من المحتجين على المحكمة العسكرية، ووجهت لهم تهمة تكوين عصابة إجرامية، والعنف في حق رجال القوة العمومية أثناء مزاولتهم لمهامهم المفضي إلى الموت بنية إحداثه، والتمثيل بجثة، والمشاركة في ذلك[2].
من القضاء العسكري الى القضاء العادي
بتاريخ 2013/02/16 أصدرت المحكمة العسكرية أحكاما في حق المتهمين تتراوح بين السجن 20 عاما والسجن المؤبد.
بتاريخ 2016/07/27 أصدرت محكمة النقض قرارها بإبطال الحكم الصار عن المحكمة العسكرية وإحالة القضية على غرفة الجنايات الاستئنافية بمحكمة الاستئناف بالرباط لتبت فيها من جديد طبقا للقانون، وذلك بعد صدور قانون القضاء العسكري الجديد الذي ألغى امكانية محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري[3].
قضية أكديم ازيك أمام القضاء العادي والدفوع الشكلية
تضمن الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف بالرباط جوابا على عدد من الدفوع الشكلية التي أثيرت خلال جلسات المحاكمة أهمها:
إجراءات استثنائية لضمان محاكمة عادلة:
ردا على ما جاء على لسان عدد من المتهمين ودفاعهم من مناقشة لمدى توافر شروط المحاكمة العادلة، اعتبرت المحكمة أن هذه الشروط تحققت من خلال توفير شروط العلنية، حيث حرصت الهيئة على السماح بولوج قاعة المحاكمة لكل أهالي المتهمين والضحايا والملاحظين الدوليين والوطنيين، والصحافة وكل من يرغب في متابعة أطوار المحاكمة. كما تم تجهيز قاعة المحاكمة بالتجهيزات التي تسمح بمتابعة الحضور لجميع أطوار المحاكمة، وتخصيص قاعة مجاورة لقاعة الجلسات مجهزة بالوسائل التقنية التي تسمح بنقل مجرياتها. كما بادرت المحكمة بتوفير ترجمة فورية غير رسمية لفائدة الملاحظين والمتتبعين الأجانب ليتمكنوا من مواكبة مجريات المحاكمة.
التحقيق في ادعاءات التعذيب وفق برتوكول اسطنبول:
استجابت المحكمة لطلب دفاع المتهمين الرامين إلى عرضهم على خبرة ثلاثية لاثبات ادعاء التعذيب من عدمه، حيث أصدرت أمرا بعرض المتهمين الموجودين في حالة اعتقال على خبرة عهد بها للجنة طبية ثلاثية ترأستها طبيبة مختصة في الطب الشرعي. وأنجزت الخبرة طبقا للإجراءات والوسائل المنصوص عليها في برتوكول اسطنبول. واستجاب لإجراء الخبرة 16 متهما، فيما رفض 5 منهم إجراءها. كما أمرت المحكمة بصفة تلقائية بترجمة الخبرة المنجزة للغة العربية من طرف مترجمين محلفين بهدف تبسيط وتقريب مضمونها للمتهمين.
وجاء في تعليل المحكمة بهذا الخصوص: "وحيث أنه بالرجوع إلى تقارير الخبرة، يتضح أن الخبراء قاموا بالمهمة المنوطة بهم واحترموا مقتضيات برتوكول اسطنبول ودليل التقصي والتوثيق الفعالين للتعذيب للأمم المتحدة لسنة 1999؛
وحيث أوجب البرتوكول على الخبراء إعطاء تفسيرات للإصابات والخدوش التي يزعم الشخص أنها ناتجة عن التعذيب، وأن يبحثوا عن أدلة على مستوى درجة التوافق مع ادعاءات التعذيب دون تحديد نسبة معينة، عاملين على ربط الوسيلة المستعملة في ادعاءات التعذيب مع نتيجة الفحص المنجز على الشخص، والبحث عن الدليل المادي للقول بوجود التعذيب من عدمه، وكذا درجة التوافق التي يمكن أن تكون كبيرة أو مميزة أو خاصة ونسبتها التي يمكن أن تكون ضعيفة أو متوسطة أو محتملة.
وحيث خلصت الخبرة المأمور بها على أن الأعراض التي تبدو على المتهمين والمعطيات الموضوعية للفحص الطبي ليست لها أية علاقة بمختلف طرق التعذيب المزعومة".
وعليه اعتبرت المحكمة أن ادعاءات المتهمين بهذا الخصوص تبقى مجردة وغير مؤسسة قانونا.
الدفع بعدم الاختصاص النوعي والمكاني:
دفع دفاع المتهمين بعدم اختصاص محكمة الاستئناف بالرباط في النظر في القضية لكون محكمة الاستئناف بالعيون هي المختصة مكانيا، طالما أن الوقائع ارتكبت بدائرة نفوذها، وبها ألقي القبض على المتهمين، الذين تتواجد محلات اقامتهم بها أيضا، كما أن غرفة الجنايات الابتدائية بها هي المختصة نوعيا، للنظر في القضية لعدم حرمان المتهمين من درجة من درجات التقاضي.
وأجابت المحكمة على هذا الدفع بما يلي: "حيث جاء في حيثيات القرار النقض والإحالة الصادر عن محكمة النقض والقاضي بنقض الحكم الصادر عن المحكمة العسكرية بتاريخ 2013/02/17 وبإحالة القضية على القضاء العادي الذي آل اليه بحكم القانون اختصاص البت في تلك الأفعال وبالدرجة الانتهائية، طبقا للمواد 254 و457 و555 من قانون المسطرة الجنائية، والتي جاء فيها: إذا أبطلت محكمة النقض مقررا صادرا عن محكمة زجرية، أحالت الدعوى والأطراف إلى نفس المحكمة متركبة من هيئة أخرى وبصفة استثنائية على محكمة أخرى من نفس نوع ودرجة المحكمة التي أصدرت المقرر المطعون فيه.
وحيث أنه بالرجوع إلى الحكم الصادر عن المحكمة العسكرية، يتضح أنه صدر حضوريا وعلنيا وانتهائيا من طرف هيئة خماسية، ولا يمكن الطعن فيه إلا بالنقض. وبالتالي تكون غرفة الجنايات الاستئنافية هي من نفس نوع ودرجة المحكمة الصادرة عنها الحكم المطعون فيه؛
وحيث أنه استنادا لما ذكر وإعمالا لمقتضيات المادة 254 من قانون المسطرة الجنائية والتي تلزم المحكمة التي أحيلت عليها القضية بعد النقض بأن تلتزم بقرار محكمة النقض فيما يرجع للنقطة القانونية التي بتت فيها، فإن الدفع أعلاه يبقى غير مؤسس قانونا، ولا يمكن إثارته أمام هذه الغرفة في ملف القضية المحالة عليها من طرف محكمة النقض".
هل من حق أهالي الضحايا الانتصاب كطرف مدني في القضية؟
دفع دفاع المتهمين بانعدام صفة أهالي الضحايا في الانتصاب كمطالبين بالحق المدني، طالما أنهم لم يكن لهم هذا الحق أمام القضاء العسكري. كما أن الدعوى المدنية التابعة ليست دعوى اصلية، والحق في إقامتها هو حق استثنائي، والطرف المدني لم يكن ضمن أطراف الدعوى التي فصلت فيها محكمة النقض. كما أن غرفة الجنايات الاستئنافية تصدر أحكاما انتهائية، ومن شأن بتها في المطالب المدنية المس بمبدأ التقاضي على درجتين.
لكن المحكمة اعتبرت أنه "ولئن ذهب الفقه والقضاء إلى إقرار عدم جواز المطالبة بالحق المدني لأول مرة أمام محكمة الاستئناف بعلة أن حسن سير الدعوى العمومية والمدنية يقتضي سير التحقيقات والاجراءات سويا إلى أن يتم الفصل فيها بحكم واحد؛ فإن هناك عدة استثناءات قد ترد على هذا المبدأ من بينها حالة صدور قانون جديد، فالمطالبة بالحق المدني أمام غرفة الجنايات الاستئنافية بالنسبة لقرارات القضاء العسكري في ظل القانون القديم والمطعون فيه بالنقض مع الإحالة على القضاء العادي نظرا لما استجد على قواعد الاختصاص بموجب القانون العسكري الجديد تجعل من هذه الحالة حالة قانونية جديدة تسمح بالمطالبة بالحق المدني لأول مرة أمام غرفة الجنايات الاستئنافية لعدة اعتبارات من بينها أن الضحايا لم يكن لهم الحق في المطالبة بالحق المدني أمام المحكمة العسكرية في ظل القانون القديم، ولكون القضية المعروضة على أنظار هذه المحكمة بمقتضى قرار الإحالة والنقض أبطل جميع المناقشات السابقة، وبالتالي سيبقى من حق كل متضرر تقديم مطالبه ..
قرار المحكمة
بعد مناقشات استغرقت ما يزيد عن ستة أشهر أصدرت غرفة الجنايات الاستئنافية قرارها برد الدفوع الشكلية، وفي الدعوى العمومية، ببراءة عدد من المتهمين، وإدانة الباقي بعقوبات تتراوح بين السجن لمدة ثلاثين سنة، وسنتين، وبعدم قبول المطالب المدنية شكلا.