(حلقة 1: مذكرة عن اصلاح القضاء، نشرت في 1971 في مجلة المحامي تحت عنوان: الحقيقة)
منذ فترة، يردد وزير العدل شكيب قرطباوي أن القضاء صامت، ولذلك يتولى هو النطق باسمه. ومن هذا المنطلق، لم يشارك أي من القضاة العاملين في وضع مشروع تعديل قانون القضاء العدلي (2012)، كما أن الهرمية القضائية تتولى بعناية وبمثابرة فائقتين الضغط على أي قاض يحتج ضد المس باستقلاليته أو ضد بعض المظالم. وعدا عن أن هذا الكلام بات في حال تعارض مع المفهوم الحديث للوظيفة القضائية ومع مجمل التطورات الحاصلة في المنطقة وخارجها، فانه يطمس أيضا ذاكرة القضاء اللبناني، ذاكرة زمن كان القضاة يتولون فيه الدفاع عن استقلاليتهم. فأي مواطن تراه يصدق أن القضاء مستقل اذا لم ير أمامه نماذج واضحة لقضاة مستقلين؟ على العكس من ذلك، القضاة كما المحامون والمتقاضون مدعوون للكلام في الفضاء العام، مدعوون للتعبير برصانة من دون تزلف، وأيضا من دون مواربة أو تمييع عن التدخلات والمظالم (وما أكثرها) التي ترتكب بشكل شبه يومي داخل قصور العدل وعن كيفية تجاوزها، مدعوون الى الادلاء بشهاداتهم. فقد حان أن ندافع معا عن المجتمع، أن نبني مساحة مشتركة كبديل عن هذه المساحات المتنافرة المتباعدة التي لا يجمعها شيء سوى أهازيج التمجيد لهذا الزعيم أو ذاك.
******
“صوت الحقيقة”:تحت هذا العنوان، نشرت مجلة المحامي في 1971 المذكرة الصادرة عن حلقة الدراسات القضائية (وهي جمعية أسسها قضاة في 1969) والتي ضمنوا فيها أفكارهم الاصلاحية وقدموها لرئيس الجمهورية. وقد أورد فؤاد رزق (مدير تحرير المجلة) في مقدمته العبارات الآتية والتي هي أفضل مقدمة: “مشاريع عديدة وضعت لتطوير المؤسسات القضائية اللبنانية. ولكن أجهزة التشريع تتحرك ببطء.. اذا تحركت. ازاء هذا الجمود أخذ القضاة يتحركون، فألفت فئة منهم حلقة للدراسات القضائية قامت بمهمتها بكل نشاط واخلاص وانتهت الى رفع مذكرة الى رئيس الدولة تتضمن خلاصة دراساتها وما تقترحه من وسائل لتأمين عدالة سريعة فعالة ذات وجه انساني، ولتمكين القضاء من اداء رسالته على أفضل وجه. هذه المذكرة تعتبر حدثا هاما في تاريخ القضاء، وأهميتها هي في صدورها عن قضاة يعلنون بصراحة مساوئ أنظمة لا تمكنهم من أداء رسالتهم ويتحملون هم وزر ما خلقته، أو ما خلقه سوء تطبيقها، من شعور لدى المتقاضين بأن “الحق لا ينال عفوا بل يشترى ويستجدى“. واذ ننشر هذه المذكرة التي تحمل في طياتها ثورة على أنظمة بالية وانتفاضة كرامة، نقول أن الصوت الذي رفعه القضاة وهو صوت الحقيقة: الحقيقة التي يعرفها الجميع ولا يعلنها بشجاعة وصراحة الا أقوياء النفوس”.
نص المذكرة 1971
حضرة القاضي الاول صاحب الفخامة رئيس الجمهورية
ان حلقة الدراسات القضائية- اسهاما منها في الجهد الذي تبذله الدولة، بتوجيه فخامتكم في سبيل تطوير وتحديث مؤسسات الحكم، لتصبح قادرة على مواجهة تحديات العصر وحاجات الحياة المتزايدة التعقيد- تضع امام فخامتكم حصيلة ما انتهت اليه ابحاثها المنصبة منذ اكثر من سنتين على شؤون القضاء.
وهي، اذ تفعل، لا تدعي انها تزيدكم علما باهمية الدور الذي يمكن ان يؤديه القضاء في بناء وطن كلبنان مبررات وجوده كونه وطن حرية وطمأنينة وعدل.
الا انها تود لفت نظر فخامتكم الى مدى تحسسها بحاجة المواطنين الى العدل والى ما تتمنى على الدولة ان تصرفه من جهد، اية كانت الوسائل ومهما غلت التضحية في سبيل تأمين سداد هذه الحاجة، معتبرة ان الملحّ تحقيق غايتين:
الاولى:تأمين عدالة سريعة وفعالة وذات وجه انساني.
الثانية:تمكين القضاء من اداء رسالته.
الغاية الاولى: تأمين عدالة سريعة وفعالة وذات وجه انساني
أ- عدالة سريعة: ان أكثر ما يشكو منه المتقاضون في بطء المحاكمات والتنفيذ. فالبطء مرض العدالة المزمن في كل زمان ومكان. غير ان هذا العصر لم يعد يحتمل سلحفائية العدالة فلا بد من صرف جهد كبير لايجاد الوسائل الكفيلة بإيصال الحق الى صاحبه قبل ان ينقصه الزمن او يفوت نفعه.
اسباب البطء الرئيسية عديدة لعل اهمها:
1. النقص في عدد القضاة تجاه التضخم الهائل في عدد الدعاوى نسبة لزيادة السكان وتشابك مجالات التعامل بينهم، فلا بد من زيادة عدد القضاة ليصبحوا قادرين على تلبية الحاجات على وجه افضل، كمية ونوعا.
2. سوء توزيع المحاكم على المناطق، وسوء توزيع الاعمال على قضاة المنطقة الواحدة، فمن الضروري اعادة النظر في هذين التوزيعين بالاستناد الى معطيات احصائية صحيحة وذكية. كما ان من المفيد جعل التوزيع الاول طيعا لا يحتاج الى قانون بل الى قرار من مجلس القضاء الاعلى.
3. اجراءات المحاكمة والتنفيذ المعقدة والبالية، التي وضعت اسسها منذ اكثر من قرن ونصف في بلد ادرك قدمها فعدلها. ان اعادة نظر جدية في اصول المحاكمات المدنية والجزائية لجعلها ملائمة لروح العصر وطابعه اصبحت اليوم ضرورة ملحة لا يجوز ارجاء المباشرة بها.
4. ضعف تجهيز المحاكم تجهيزا اداريا حديثا. فلقد اصبح من المحتوم ان تلحق الدوائر القضائية بركب التقنية المعاصرة لتصبح قادرة على تلبية الحاجات المتزايدة، فتزود بالعناصر البشرية الكافية المدربة والمتخصصة وتجهز بعدة العمل الصالحة والحديثة وبوسائر التنظيم التي اثبتت فعاليتها في القطاعين العام والخاص.
وتجدر الملاحظة بهذا الصدد ان وزارة العدل كانت ولا تزال تعتبر النسبية الفقيرة بين الوزارات، وان موازنتها في تقهقر مستمر بالنسبة للموازنة العامة. ففي سنة 1960 كانت موازنتها تمثل نسبة قدرها 3,8 بالمئة من الموازنة العامة. وقد اصبحت الموازنة العامة 736,625 مليونا في سنة 1970 ولم تتجاوز فيها موازنة وزارة العدل مبلغ 13,12 مليونا اي ما يعادل 1,8 بالمئة فقط.
5. الخلل في علاقات القضاء بالسلطة الاجرائية وخاصة بقوى الامن. فالكثير من المذكرات والاحكام يبقى دون تنفيذ او يتأخر تنفيذه. وعليه ترى الحلقة ضرورة ربط الضابطة العدلية بالسلطة القضائية ربطا مباشرا، بحيث تعمل هذه الضابطة بتوجيه واشراف القضاء ويكون للسلطة القضائية رأي فاصل في نقل وترقية وتأديب افرادها فتصبح بيد القضاء اداة تنفيذ فعالة.
ب- عدالة ذات وجه انساني:هذا الوجه يكون بهيا بقدر ما يحترم القضاء ويرعى كرامة الانسان ولو مجرما وبقدر ما يشعر الداخل حرم القضاء انه ليس فيه غريبا ولا ضعيفا ولا منبوذا.
ان اهم ما تلاحظه الحلقة في مجال اعطاء العدالة الوجه الانساني:
1. ضرورة تخفيض تكاليفها، فحل التقاضي يكاد يصبح وقفا على الاغنياء من شدة وطأة الرسوم القضائية والنفقات. والمعونة القضائية لا تفي بالغرض ففيها مذلة وتعقيد.
2. ان الكثير من الاعتباط يسود نظام التوقيف الاحتياطي، فيجب ضبط قواعد هذا التوقيف كي لا يساء استعماله.
3. اصول التحقيق الجزائي تتعامى عن الانسان في كل متهم.
فمن الضروري ان يفرض القانون اجراء تحقيق عن شخصية المدعى عليه وبيئته وعاداته واخلاقه وتصرفه.. بالاضافة الى التحقيق عن ظروف الجريمة وملابساتها وكيفية حصولها، والا بقي تحديد العقوبة بين حديها الادنى والاقصى اعتباطيا ومزاجيا، كما هو الحال.
4. من الملحّ جدا ان تنتهي مأساة السجون في لبنان. فلكي تؤدي العقوبة غايتها الاولى لا يجوز في اي حال ان تبقى السجون مدارس للرذيلة والجريمة والخمول تحطم الشخصية الانسانية وتذلها بدلا من ان تعيد بناءها وتصلحها.
ان بناء السجون الحديثة لا يكفين اذا لم تجهز هذه السجون ماديا وبشريا تجهيزا صالحا، واذا لم تبدل اساليبها تبديلا جذريا.
5. من الضروري اعادة النظر في تكوين محاكم الاحداث وفي التدابير الاصلاحية التي لا تزال في القانون حبرا على ورق، وان تنشأ مؤسسات عناية ورقابة واصلاح تفي بالحاجة وتكون على مستوى لائق.
الغاية الثانية: تمكين القضاء من اداء رسالته
ان غاية ما يصبوا اليه كل اصلاح قضائي هو تدعيم ثقة المواطنين في القضاء، فالعدل شعور باطني بالرضى واطمئنان الى ان كلمة القضاء كلمة الحق. هو قبل كل شيء ثقة: ثقة بالقضاء وبشخص القاضي.
وتلاحظ الحلقة بأسى ان اللبناني لا يثق كل الثقة بقضائه وان في مجتمعنا ذهنية متوارثة تعتقد ان الحق لا ينال عفوا بل يشترى او يستجدى. والقضاء يعانون من انتشار هذا الشعور ومن استغلاله ويؤلمهم ان هذا الانهيار المطرد في ثقة اللبناني بقضائه لم يلاق حتى اليوم عزيمة صادقة من الدولة لمعالجته واستئصال اسبابه.
ومع ادراكنا ان واجب تدعيم الثقة بالقضاء يقع في الدرجة الاولى على القضاة انفسهم وان الضمانة الكبرى لعدل صحيح هي استقلال القاضي الشخصي وما يفرضه من مناقبية وصلابة وروح رسولية عملا بالآية القائلة: “ما لم يبن رب البيت فعبثا يتعب البناؤون”. نعتقد ان بإمكان الدولة عمل الكثير في هذا المجال، ولعل اهم ما بوسعها عمله:
أ- حسن اختيار القضاة وتدريبهم حسن اختيار القضاة حجر الاساس في بناء قضاء سليم
ولذا يجب وضع قواعد للاختيار صارمة تطبق بحزم وقة، على ان يسبق كل تعيين تحقيق دقيق وشامل حول تمتع المرشحين بمواصفات محدودة سواء لجهة ثقافتهم ام خلقهم ام سلامة وسطهم ثم مباراة لا تمتحن فيها معلوماتهم الحقوقية فحسب بل ثقافتهم العامة وانفتاحهم الذهني وسلامة تفكيرهم ومنطقهم ونضج شخصيتهم ايضا.
ثم لا بد من تدريب المقبولين منهم، لا على الممارسة القضائية التي تعوزهم فحسب، بل وعلى الدربة العلمية التي لم تتوضح بعد معالمها تماما والمدعوة في مستقبل قريب الى احتلال مكانة لا تقل عن مكانة علم الاجتماع وعلم النفس وعلم القانون وعلم الادارة، عنينا بها علم القضاء.
لقد اصبح من المعروف والمسلم به ان قاضي هذا العصر، وبوجه اولى قاضي الغد، لا ولن تكفيه معرفته بالقانون. فالعوامل التي تدخل في كل قرار قضائي- وفي كل قرار جزائي بنوع خاص- اكثر واعمق من ان تحددها القاعدة القانونية وحدها.
هذه العوامل يجب ان يتهيأ القاضي لمعرفتها وتقبلها والمفاضلة بينها. وهذا العمل الدقيق يزداد مشقة في زمننا هذا، زمن الرفض، زمن التحول العجيب، حيث يكاد يكون من المستحيل ان يبقى القاضي محافظا على القدر الكافي من التوازن بين ضميره وضمير مجتمعه الذي باسمه وبالنيابة عنه يحكم.
ان تدريب قضاة الغد لا يجوز ان ينطلق من معطيات الامس بل من معطيات الغد نفسه، لذا يجب ان يظل التدريب متواصلا عن طريق دورات تأهيلية يشترك فيها حتى القدامى من القضاة، ليبقى القاضي ابن زمانه، ممثلا حضارة عصره منفتحا على تطور مفاهيم هذه الحضارة المذهل السرعة، والا يأتي يوم يتخطى فيه التطور الحضاري تطور القضاء ذهنية ووسائل، فتقع القطيعة بين المجتمع وقضائه ويفقد القضاء صفة الوكالة التي بها ينطق.
ولا بد من ايلاء التخصص اهمية اكبر نظرا الى تنوع علاقات الناس وتشعبها وضرورة معرفة القاضي بالوسط الذي يدعى على حل مشكلاته. لقد كشفت القضايا التي اثارها توقف عدد من المصارف عن الحاجة الملحة لتخصص القضاة بالشؤون المالية والتجارية والمصرفية تخصصا علميا يجعلهم بمستوى القضايا التي تطرح عليهم. وغدا عندما تصل الى المحاكم قضايا الضمان الاجتماعي وغيرها ستشتد الحاجة الى قضاة اعدوا سلفا لمواجهتها.
ب- الرقابة على العمل القضائي:
لا بد الى جانب حسن الاختيار والتدريب من ان يشعر القاضي بانه محاسب- ليس على ما يقتنع به ويقضي- بل على نشاطه في عمله وسلامة مسلكه.
ولا يكفي في المرحلة الزمنية الحاضرة ان يؤدي القاضي الحساب عن ذلك امام ضميره فقط، بل وامام هيئة قضائية مسؤولة.
ويجب ايضا ان يشعر ان ميزان الثواب والعقاب الذي يزن به للغير يوزن له به.
ان الرقابة المطلوبة التي تأخذ المبادرة في اكتشاف المحسن فتجزيه والمقصر فتجازيه هي ابعد من التفتيش كما هو معروف، انها سبيل الى اظهار معالم مناقبية قضائية يلزم القاضي بها وعلى ضوئها يقيم تصرفه.
ج- توفير ظروف ملائمة لممارسة العمل القضائي:
الصفاء الذهني والتحرر من القلق شرطان لازمان لكل عمل علمي صحيح ومفيد. وعمل القاضي مرهق فلا بد من ان يهيأ له مناخ من الطمأنينة.
فالى جانب المستوى المعيشي اللائق المفروض تأمينه للقضاة ليتمكنوا من الانصراف كليا الى عملهم الشاق، لا بد من تأمين ضمانات كافية تشجعهم على الصمود وتحفزهم على المزيد من الجهد. وفي مقدمة هذه الضمانات وضع قواعد مبدئية ثابتة وسليمة تلتزم السلطة المختصة اية كانت بمراعاتها عند نقل القضاة واسناد الوظائف والمهام اليهم.
لقد عشتم شخصيا يا فخامة الرئيس، حين كنتم وزيرا للعدل بعض مآسي ما يسمى بالتشكيلات القضائية. وكلنا امل بان التجربة المريرة التي عبرت عنها رسالتكم المفتوحة الى رئيس الجمهورية بتاريخ 4/11/1968 وتصريحاتكم التي نشرتها جريدة لسان الحال في عددها الصادر بتاريخ 22/11/1967 سيفيد منها القضاء، بعد ان توليتم منصب القاضي الاول في الجمهورية، فاصبحتم انتم ملاذ الشاكين.
ولذا لن يستعيد هنا فصول تلك المآسي ولا نجد انفسنا بحاجة الى تذكيركم بكل ما في الاخذ والرد والمزايدات والمساومات والتدخل من كل صوب في كل تشكيلات قضائية من مهانة للقضاء ومن هدر لكرامة القضاة… وبالتالي لكرامة البلاد وسمعة الحكم.
الا اننا لا نرى بدا من لفت النظر الى بعض القواعد الاولية الاساسية التي طالما ادى التغافل عنها الى الشكوى. من هذه القواعد:
1. ابعاد الاعتبارات السياسية كليا عن التشكيلات.
2. عدم الاسراف في اجراء التشكيلات العامة، فهي تشل اعمال المحاكم وتؤخر الفصل في الدعاوى وتخلق قبل وبعد اجرائها جرا من الاضطراب والقلق لا يلائم العمل القضائي الرصين، فالتشكيلات يجب ان تمليها الحاجة فقط … وان يكون رائدها اصلاح الخلل وازالة اسباب الشكوى.
3. اجراء التشكيلات خلال النصف الاول من العطلة الصيفية فقط على ان يبدأ العمل بها في مطلع السنة القضائية. ففي ذلك ما يساعد على استمرار العمل وما يهيء للقاضي فرصة تدبير شؤونه…
4. الاستئناس برأي القاضي حول اختياراته،
5. تأمين المساواة بين القضاة الجدد لجهة الالحاق بالمحاكم النائية،
6. والاهم من كل ذلك ان يكون الهدف لكل تعيين او ترفيع او نقل وضع القاضي المناسب في المنصب المناسب دون اي اعتبار سوى الكفاءة والنشاط والقدر الكافي من ثقة الناس واطمئنانهم وبصرف النظر عن الانتماء الطائفي.
لقد استشرت الطائفية في القضاء وتأصلت ومدت جذورها في كل مجال حتى باتت كل وظيفة قضائية وقفا على طائفة معينة.
لقد قيل في مساوئ الطائفية الشيء الكثير: انها تحد من الطموح وتفت في عضد الاكفاء وتحاول ان تشد الموظف بولاء لغير القانون والمصلحة العامة ونواميس الشرف والضمير. الا ان كل ما قيل قليل بالنسبة الى مساوئها في القضاء حيث لا ولاء الا للحق ايا كان صاحبه وحيث لا يمكن تصور منفعة من قاض تجتنيها طائفة دون اخرى. فالقضاة لا يمكن ان يكونوا سوى طائفتين طائفة الصالحين التي يعم نفعها جميع الناس على السواء وطائفة غير الصالحين الذين لا يجوز في اي حال ان يولوا القضاء بين عباد الله الى اي دين انتسبوا.
ان حلقتنا تعتقد مخلصة انه اذا كان لا بد من ان يبدأ العمل على محو آثار الطائفية فليكن القضاء نقطة الانطلاق. وليكن المبتدأ التشكيلات القضائية اذا استحال الشمول.
د- ايلاء شؤون القضاء للقضاة:
وتؤمن حلقة الدراسات القضائية ان كل ما سبق عرضه لا يتحقق ما لم تتبدل نظرة الحكم الى القضاء. فالقضاة ليسوا موظفين، والقضاء الذي اقامه الدستور سلطة ثالثة يحمي الحريات والكرامة والحياة والرزق لا يمكن ان يؤدي دوره ان لم يعطّ القدرة على الوقوف بوجه كل تعسف ايا كان مصدره.
لا يمكن تصور عدالة سليمة على يد قضاء غير مستقل. واذا كان استقلال القاضي رهنا بمناعته الشخصية، الا ان هذه المناعة يجب ان تصان بالحد من الظروف التي تفرض عليه او تسهل له التبعية.
وفي مقدمة هذه الظروف ارتباط شؤون كثيرة وهامة في حياته المهنية بتقرير السلطة السياسية.
استقلال السلطة القضائية كرسه الدستور الا انه يبقى كلاما لا فعلا ان لم تصبح جميع شؤون القضاة المهنية بيد مجلس اعلى للقضاء يجعل منه القانون رأس الهرم القضائي الوحيد ويوليه صلاحيات كاملة اهمها:
1. اختيار المرشحين للقضاء وتدريبهم واقتراح تعيينهم،
2. نقل القضاة واسناد الوظائف القضائية وغير القضائية اليهم (التشكيلات القضائية)
3. الرقابة على القضاة من حيث ادائهم واجباتهم ومن حيث محافظتهم على شرف الرسالة وكرامتها.
4. اختيار واقتراح تعيين المساعدين القضائيين وتوزيعهم على الدوائر القضائية ونقلهم ومحاسبتهم.
5. اقتراح مشاريع القوانين والانظمة المتعلقة بالتنظيم القضائي ونظام القضاة العدليين والمساعدين.
6. نقل المحاكم من منطقة الى اخرى وفقا للحاجة وتوزيع الاعمال بين محاكم المنطقة الواحدة.
7. تعيين الخبراء ووكلاء التفليسة والاطباء الشرعيين والرقابة على اعمالهم ومسلكهم وتأمين انضباطهم.
8. اتخاذ واقتراح جميع الاجراءات التي يقتضيها الدفاع عن كرامة القضاء وسمعته والتي يقتضيها حسن سير العدالة.
على ان يعطى مجلس القضاء الوسائل المادية الكفيلة بتأمين قيامه بمهامه كجهاز اداري- مالي- احصائي كامل، وامكانات مالية تلحظ في الموازنة بناء على طلبه وتنفق على يد رئيسه وتغطي حاجات المحاكم الى التجهيز العلمي والتقني الحديث.
ولا بد من التأكيد على ان هذه الصلاحيات والامكانات لا تؤمن الغاية المنشودة ان لم يمارسها مجلس قضاء يعاد النظر في النصوص التي ترعى تكوينه بحيث يكون بالفعل ممثلا الجسم القضائي معبرا عن ضميره وقادرا على تأمين حصانته واستقلاله.
هذا يا صاحب الفخامة بعض ما انتهت اليه حلقة الدراسات القضائية من خلاصات لابحاثها تعرضه لا كحلول نهائية كاملة بل كخطوط عريضة تصلح مادة تأمل.
والحلقة التي تعبر قدر المستطاع عما يختلج في ضمير القضاة حيال قضية العدل في لبنان كما يطرحها الحريصون على بقاء هذا الوطن موئل حرية وحق وكرامة وجود تضع بتصرفكم كل ما لديها من امكانات ومن دراسات تفصيلية ومشاريع قوانين وهمها الاول والاخير خدمة المواطن بتلبية اولى حاجاته الحياتية الاساسية على الوجه الاكمل: حاجته الى العدل.
بيروت في 30 حزيران 1971