منذ سنتين يُماطل مجلس النواب في تطبيق الكابيتال كونترول، تاركاً المجال أمام المصارف لتهريب أموال كبار المودعين والنافذين. المجلس الذي يدّعي أنه في وسط ورشة تشريعية إصلاحية، لم يبالِ بتداعيات ذلك على الاقتصاد والنقد. همّه كان في مكان آخر. الأولوية دائماً لحماية مصالح الطبقة السياسية المصرفية على حساب الناس، الذين تركوا لمصيرهم خلال سنتين من الانهيار والتضخّم المفرط.
في تشرين الثاني 2019، رفض الرئيس نبيه برّي إقرار أي قانون يحدّ من التحويلات والسحوبات بحجة حماية الملكية الفردية وحرية نقل الأموال. وحتى عندما وافق على عرض الاقتراح على مجلس النواب في 28/5/2020، سرعان ما أعاده إلى اللجان بحجة ورود ملاحظات من صندوق النقد ومصرف لبنان.
سنة كاملة بقي في لجنة المال، وبعدها انتقل إلى لجنة الإدارة والعدل لنحو شهر، قبل أن يخرج منها في 29/7/2021. منذ ذلك التاريخ نام في الأمانة العامة لمجلس النواب حتى الجلسة التشريعية الأخيرة التي عُقدت في 28/10/2021، فكان مصيره مجدداً العودة إلى اللجان مع مهلة أسبوعين لتوحيد النصّين الصادرين عن لجنتي المال والإدارة.
كانت كل المؤشرات تؤكد أن الهدف لا يزال تطيير الاقتراح لأن المصارف لا تريد تقييد عملياتها، ولأن المصرف المركزي يريد أن يبقى متحكماً بالسحوبات والاستثناءات من خلال تعاميم تطال كل نواحي حياة الناس. لكن ما حدث بعد الجلسة التشريعية قلب كل المواقف. ففي 11 تشرين الثاني، انتهت جلسات المحكمة العليا البريطانية، التي تنظر في القضية المرفوعة من المودع بلال خليفة ضد مصرف لبنان والمهجر (Blom Bank)، والتي يطالب فيها باسترداد وديعته المقدرة قيمتها ب1.4 مليون دولار. الجلسات الحضورية كانت بدأت في 3 تشرين الأول واستمرت لسبعة أيام متتالية، كوّنت المحكمة خلالها تصوراً واضحاً عن مآل الدعوى. وأعلنت، بالنتيجة، أنها ستصدر حكمها قبل 21 كانون الأول الحالي.
حينها كانت نقطة التحوّل. صار بري وميقاتي، ومن خلفهما مصرف لبنان وجمعية المصارف من أشد المستعجلين لإقرار القانون. المطلوب استباق الحكم، بقانون يعطّل نتيجته، ويجعل القضاء في الخارج كما في الداخل غير صالح للبتّ بدعاوى المودعين. ولأنّ اقتراحيْ لجنتيْ المال والموازنة والإدارة والعدل المعروضيْن لا يفيا بالغرض تماماً، نزل اقتراح ثالث بالمظلة على جلسة اللجان المشتركة التي عقدت الخميس في الأول من كانون الأول الحالي. الاقتراح مفصّل على قياس مصرف لبنان والمصارف، وأخطر ما فيه كان المادة الثامنة التي أريد لها أن تكون غير قابلة للتأويل: “إنّ أحكام هذا القانون تُطبّق فوراً على الدعاوى والمنازعات في الداخل والخارج التي لم يصدر فيها حكم مبرم وغير قابل لأي طريق من طرق المراجعة”.
رد فعل برّي وميقاتي واستعجالهما إقرار القانون لم يكن سوى تعبير عن مسار الدعوى الذي يشي أن المصرف سيخسرها، بالرغم من توكيله أحد أشهر مكاتب المحاماة في العالم، أي مكتب ديكارت Dechert، الذي يتولى الوزير السابق كميل أبو سليمان منصباً رفيعاً فيه. وقد ظهر دوره واضحا بعد حضوره كل جلسات المحكمة البريطانية في تشرين الثاني مع فريق الدفاع عن البنك. علماً أنه كان لافتاً أن فرع البنك الذي يعمل في لندن باسم Blom Bank France غيّر اسمه مؤخراً ليصبح Banorient، من دون أن يُعرف ما إذا كان لهذه الخطوة علاقة بمسار الدعوى، التي ربما تؤدي إلى الحجز على ممتلكاته.
تجدر الإشارة هنا إلى أن المسار القضائي في بريطانيا كان قد بدأ في أيلول 2020، حين حكمتْ المحكمة العليا، للمرة الأولى، بصلاحية المحاكم الانكليزيّة بالنظر بالدعوى التي رفعها خليفة ضد “بلوم بنك”. وقد بنيَ الحكم على اعتبار أن خليفة مقيم في بريطانيا وعلى أن المصرف نفسه يدير نشاطات تجارية في بريطانيا والاتحاد الأوروبي.
رد فعل المصرف كان إقفال حساب خليفة في كانون الثاني 2021، وإيداعه وديعته البالغة قيمتها 1.4 مليون دولار لدى كاتب العدل. بحسب خليفة، الذي اتصل به نائب الرئيس التنفيذي للمصرف شارل حداد ليبلغه بإقفال الحساب، عرض عليه سحب الدعوى مقابل إعادة فتح الحساب. كما هدّده بمقاضاته أمام المحاكم اللبنانية، على اعتبار أن رفض استلام الشيك هو جريمة يعاقب عليها القانون اللبناني. لكن بنتيجة المرافعات التي انطلقت في بريطانيا، اضطر البنك على تقديم 8 تعهدات بعدم رفع دعوى ضدّ خليفة. وبالتوازي لم يستأنف قرار المحكمة البريطانية، لتنطلق مرحلة النظر في أصل الدعوى.
خلال الأيام السبعة للمحاكمة، أرادت المحكمة البريطانية الاستماع إلى متخصّصيْن محايديْن في القانون اللبناني. فقدمت المحامية نايلة عبيد شهادتها، بطلب من الجهة المدّعية، والمحامي فادي مغيزل شهادته، بطلب من المدعى عليه (استمرت كل شهادة أكثر من خمس ساعات). ولدى سؤال الأخير عن الدعاوى التي حكم بها قضاة لبنانيون لصالح المودعين، اعتبر أن هؤلاء تصرفوا من منطلق عاطفي ولم يطبقوا القانون. كما كان لافتاً افتراضه أن محكمة التمييز ستعود وترفض كل القرارات الصادرة. في المقابل، اعتبرت عبيد، رداً على السؤال نفسه، أن القرار يعود إلى القاضي.
ورداً على إشارة مغيزل إلى أن محكمة التمييز قد تحتاج إلى سنتين لتصدر قرارها، أكد القاضي الإنكليزي أنه لن ينتظر، وسيصدر قراره بالنظر إلى القانون اللبناني قبل 21 كانون الثاني.
دعوى خليفة ليست الوحيدة التي تنظر فيها المحاكم البريطانية، كذلك هي تنظر في الدعوى المقدّمة من فاروج مانيكيان ضد مصرفيْ “سوسييتيه جنرال” (SGBL) و”عودة”، وفي الدعوى المقدّمة من جورج بيطار ضد البنك اللبناني الفرنسي (BLF). في الدعوى الأولى، يطلب مانيكيان استعادة ودائعه التي يبلغ مجموعها 4 مليون دولار. وقد صدر القرار بقبول الدعوى من المحكمة البريطانية في كانون الثاني 2021، وبدأت إجراءات المحاكمة التي يتوقع أن يصدر القرار بشأنها في شباط. أما جلسات المحاكمة الخاصة ببيطار فيفترض أن تبدأ في أيار، علماً أنّ قرار المحكمة البريطانية بصلاحيتها النظر بقضيته قد صدر في أيلول الماضي.
أمام هذا الواقع، فإن جلسة اللجان المشتركة اليوم ستكون مصيرية. هي ستحدّد، قُبيل الانتخابات النيابية، أيّا من الكتل تريد حماية المصارف والقلة الحاكمة وأيّا منها صادقة في حرصها على المودعين وأموالهم. حتى اليوم، لم تعلنْ أيّ من الكتل موقفها سوى التيار الوطني الحر، الذي أكد مجلسه السياسي أن الصيغة الأخيرة، إضافة إلى كونها تعطي صلاحيات استثنائية للمصرف المركزي، فهي تشكل عملية استباق للقرارات القضائية الممكن صدورها لصالح المودعين.
كذلك أعلن نادي القضاة ونقابة المحامين رفضهما للصيغة المطروحة. واعتبر النادي أن هذا الاقتراح يشكل شذوذاً قانونياً عن كل ما هو مألوف من مبادئ دستورية وقانونية وأعراف سائدة. كما أهاب نقيب المحامين ناضر كسبار بالنواب عدم التصويت على تمرير أيّ قانون قد يضرّ بمصلحة المودعين أو يعطي صك براءة لأي مسؤول عن جريمة تفليس وطن وإفقار”.
كذلك ركزت مراجع حقوقية عدة، منها نادي قضاة لبنان والمفكرة القانونية على مخالفته للدستور. ومن أبرز المخالفات للدستور أن المقترح يخالف أسسا ومبادئ دستورية عدة أهمها مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة أمام القانون ووجوب مراعاة مبدأي التناسب والضرورة في أي تقييد للحقوق والحريات المضمونة دستوريا (الملكية) فضلا عن مبدأي الفصل بين السلطات واستقلال القضاء وحق كل فرد باللجوء إلى محكمة محايدة ومستقلة. وقد ذكر كلا من هاتين الهيئتين أن عدم استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى في تعديل النظام القضائي يشكّل مخالفة دستورية كونه يشكّل صيغة جوهرية تكريسًا للضمانة القضائية ولمبدأ استقلال السلطات الدستورية وتعاونها.
اللافت أن ثبات عدم دستورية القانون، في حال إقراره، يمكن أن يعفي المحاكم البريطانية من الالتزام به. فهي تعتمد في المحاكمة النصوص القانونية اللبنانية، وأسماها الدستور. لذلك، على النواب أن يدركوا أن لهاثهم خلف تأمين مصلحة المصارف قد لا يؤتي ثماره.