قدّمت المفكرة القانونية إلى وزارة العدل في تاريخ 26 حزيران 2023 طلبا بالرجوع عن التعميميْن الصادريْن في نيسان 2023 في تقييد حرية القضاة. وكان التعميم الأول رقم 352 نصّ على وجوب امتناع القضاة عن الظهور الإعلامي بجميع أشكاله وعن اتخاذ أي موقف علنيّ على أيّ منصّة إعلامية أو إلكترونية أو غيرها من دون الحصول على إذن مسبق من المرجع المختص. أما التعميم الثاني رقم 348 فقد منع القضاة من التواصل المباشر وغير المباشر مع أي سفارة أو منظمة حكومية وغير حكومية أو أي جمعية بهدف المشاركة في ندوات أو ورش عمل في الداخل أو الخارج أو أي سبب آخر قبل تقديم طلبات بذلك من الجهة الداعية إلى وزير العدل وفقًا للأصول القانونية. كما فرض التعميم نفسه على القضاة الاستحصال على إذن مسبق بالسفر قبل عشرة أيام على الأقل من الوزير.
وقد أسندت المفكرة القانونية طلبها للحجج الآتية:
1-في كون التعميمان يمسّان حرية التعبير عملا بالمادتين /13/ و/7/ من الدستور والمادتين /19/ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومن العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية:
يضمن الدستور اللبناني حرية التعبير بموجب المادة /13/ منه، وأيضا بموجب المواثيق الدولية ومنها المادتين 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية وللحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عملا بالفقرة ب من مقدمة الدستور. ومن البيّن أن القضاة يتمتعون بهذه الحرية أسوة بجميع المواطنين عملا بمبدأ المساواة المنصوص عليه في المادة 7 من الدستور.
هذا مع العلم أن حرية التعبير المكفولة للقضاة كما لسائر الأفراد تشمل ليس فقط التعبير عن الرأي ولكن أيضا المشاركة في النقاش والوصول إلى المعلومة بأي طريقة، بما فيها المشاركة في المؤتمرات والندوات واللقاءات,
ولا يرد على ذلك أن من شأن مقتضيات العمل القضائي تبرير تقييد هذه الحرية لأسباب عدة: (1) عدم جواز تقييد الحرية إلا بقانون وأبدا بتعميم، (2) عدم جواز المسّ بجوهر الحرية تحت غطاء تنظيمها. إذ من البيّن أن التعميميْن يمسّان بجوهر حريّة التعبير، التي تصبح رهن إرادة المرجع الصالح بإعطاء الإذن المسبق، الذي بإمكانه السماح بها أو حجبها بصورة كاملة، بمعزل عن أيّ ضوابط أو معايير أو أصول محدّدة لطلب الإذن أو تلقيه أو أي طريقة للطعن بالقرار الصادر بالامتناع عن إعطاء الإذن أو رفض إعطائه. ومن شأن ذلك أن يحوّل حرية القاضي من حقّ ملازم له بصفته إنساناً إلى حقّ يمنح له أو يحجب عنه بإرادة شخص آخر، و(3) عدم جواز تقييد الحرية إلا ضمن مبادئ التناسب والضرورة. إذ أن التعميم صدر من دون أي أسباب موحبة كأنما بإمكان الوزارة أن تقيد حريات القضاة من دون أن تشرح توفر أيّ من حالات الضرورة هذه. و(4) إن تقييد الحريّة لا يمكن أن يحصل بحجّة خصوصيّة العمل القضائي، لأنّ هذه الخصوصيّة تفرض الحياد في الدعاوى من دون أن تفرض موجب الصمت، بمعنى أن حريّة تعبير القاضي تبقى هي المبدأ ولا يصحّ تقييدها إلّا في حدود ما يفرضه صون قاعدة دستوريّة ذات قيمة موازيّة وهي استقلاليّة القضاء. ويتأكد ذلك من مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية، 1985 حيث جاء حرفيا: “وفقا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يحقّ لأعضاء السلطة القضائية كغيرهم من المواطنين التمتع بحرية التعبير والاعتقاد وتكوين الجمعيات والتجمع، ومع ذلك يشترط أن يسلك القضاة دائما، لدى ممارسة حقوقهم، مسلكا يحفظ هيبة منصبهم ونزاهة واستقلال القضاء”. كما يتأكد في شرعة بنغالور العالمية للأخلاقيات القضائية. “
كما استبعدت المفكرة إمكانية تطبيق لمادة 15 من قانون الموظفين (المرسوم الاشتراعي رقم 59/112)، التي تحظر “على الموظف أن يلقي أو ينشر دون اذن خطي من رئيس إدارته، خطبا أو مقالات او تصريحات او مؤلفات في أي شأن كان”، طالما أن هذه المادة تتعارض مع مبادئ وضمانات استقلالية القضاء المشار إليها أعلاه كما تتعارض مع المادة 44 من قانون القضاء العدلي التي تلحظ بوضوح أنّ القضاة مستقلّون، فلا رئيس مباشر أو غير مباشر للقاضي كي يخضع له أو كي ينفّذ تعليماته أو أوامره. وعليه، يصبح من الضروري استبعاد تطبيقها عملا بالمادة 123 من قانون تنظيم القضاء العدلي التي توجب استبعاد أحكام “نظام الموظفين العامين بكل ما يتناقض مع أحكامه”.
2-في كون التعميمان يمسّان بحريّة الجمعيات والتجمعّ القضاة
فضلا عن ذلك، أشارت المفكرة أن التعميميْن يحدّان من حرية تعبير جميع القضاة من دون استثناء، بما فيهم القضاة ممثلي جمعيات القضاة. وهذا الأمر يشكل ليس فقط مسّا بحرية القضاة بالتعبير إنما أيضا حريتهم بتأسيس جمعيات والتعبير عنها، فضلا عن أن التعميميْن يشكّلان عائقا أمام مشاركة القضاة في أيّ نقاش أو ندوة في لبنان أو الخارج من دون إذن مسبق، في أماكن خاصة أو عامة.
ومن شأن ذلك أن يحدّ من دون مبرر من حرية الجمعيات والتجمع خلافا للمادة 13 من الدستور والمادتين 21 و22 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسيّة للعام 1966، طالما أن القضاة يتمتعون بهذه الحريات مثلهم مثل أي مواطن آخر.
وعليه، يكون التعميمان مخالفين لنفس الأسباب المبينة أعلاه، أيْ لصدورهما عن مرجع غير مختص طالما أن للمشرع وحده تقييد حرية الجمعيات، ولكونها مخالفين لمبدأيْ التناسب والضرورة. وهذا أيضا ما أكدته مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية، 1985 حيث جاء حرفيا في بندها رقم 9: “تكون للقضاة الحرية في تكوين جمعيات للقضاة أو غيرها من المنظمات لتمثيل مصالحهم والنهوض بتدريبهم المهني وحماية استقلالهم القضائي، وفى الانضمام إليها”. كما أكدته شرعة بنغالور العالمية للأخلاقيات القضائية حيث جاء: “للقُضاة الحق في تشكيل أو الانضمام لاتحادات قضاة وأية منظمات أخرى للتعبير عن اتجاهاتهم ولتطوير تدريبهم المهني ولحماية استقلالهم القضائي”.
3- في كون التعميمان يخالفان المبادئ التي ترعى حريّة تنقل القضاة
أخيرا، أشارت “المفكرة” إلى أن التعميمين يدخلان قيودا غير مبررة على حرية التنقل، طالما أنهما يفرضان على القاضي أن يطلب من المرجع المختص إذنا بالسفر قبل عشرة أيام من موعده. ومن شأن التعميم أن يمس بحرية التنقل المضمونة بموجب المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وبخاصة أن شرط الحصول على الإذن المسبق جاء عاما لينطبق على القضاة حتى في فترات العطلة القضائية.
تأمل “المفكرة” أن تعمد وزارة العدل إلى تصحيح هذا الأمر، علما أنها تعدّ ملفا متكاملا تقدمه للمراجع الدولية المعنية بشأن استقلالية القضاة والمحامين، بهدف ترسيخ المبادئ والمعايير الدولية في هذا الشأن.