المفكرة القانونية تجيب على أسئلتكم: كيف نفهم تعيين قاضٍ ثانٍ للتحقيق في قضية المرفأ؟


2022-09-12    |   

المفكرة القانونية تجيب على أسئلتكم: كيف نفهم تعيين قاضٍ ثانٍ للتحقيق في قضية المرفأ؟

توافق وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري خوري ومجلس القضاء الأعلى بتاريخ 6 أيلول 2022 على مبدأ تعيين محقق عدلي ثانٍ في قضية تفجير المرفأ لمعالجة الأمور الضرورية والملحّة إلى حين زوال المانع الذي يحول دون ممارسة المحقق العدلي الحالي طارق بيطار مهامه. وقد لقي هذا التوافق اعتراضات كثيرة من داخل أوساط القضاء والمحامين حول عدم قانونيته وعدم ملاءمته. وقد ذهب نادي قضاة لبنان في بيانه الصادر بتاريخ 9 أيلول 2022 إلى دعوة مجلس القضاء الأعلى إلى الرجوع عن الخطيئة وتحشيد القوى في مواجهة الجهات التي تعطل التحقيق بدل العمل على تحقيق أمنياتها. نحاول هنا الإجابة على بعض الأسئلة التي طرحتها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي حول مدى قانونية أو ملاءمة تعيين محقّق عدليّ ثانٍ في قضية انفجار المرفأ بهدف تعزيز المعرفة والوضوح بشأنها.

فهرس الأسئلة (بإمكانك التوجه إلى أي إجابة من خلال الضغط على السؤال):

1- هل يجوز قانوناً تعيين محقّق عدلي ثانٍ في قضية المرفأ؟
2- ما هي صلاحية المحقق العدلي المنوي تعيينه؟
3- أي خطر لتعيين محقّق عدلي ثانٍ على ملف التحقيق؟
4- لماذا يتعذر قيام المحقق العدلي الأصيل بعمله؟
5- هل يشكل تعيين محقق عدلي ثانٍ حلّا ضروريا أو ممكناً لمعالجة الآثار الخطيرة الناجمة عن تعطيل التحقيق، وأهمها فقدان الموقوفين إمكانية تقديم طلبات إخلاء سبيل؟
6- ماذا عن الحلول المتمثلة في حلحلة العوائق أمام صدور التشكيلات القضائية؟

1- هل يجوز قانونا تعيين محقّق عدلي ثانٍ في قضية المرفأ؟

لا. لأن قانون أصول المحاكمات الجزائية نصّ على تعيين محقّق عدلي واحد ولأنه يؤدّي إلى نزع ملفّ من قاضٍ خلافا لإرادته وخارج الحالات التي ينص عليها القانون (مثلا: حالات رفع يد القاضي تبعا لدعاوى النقل أو دعاوى الرد). وهذا الأمر يشكل مسّاً خطيراً بمعايير استقلالية القضاء ومن أهمها عدم جواز نقل القاضي أو تجريده من الملفات التي تدخل ضمن صلاحياته إلا برضاه. هذا فضلاً عن تعارضه مع القاعدة التي تمنع تعيين بديل في حال وجود أصيل، مما قد يؤدي إلى تجزئة الملف.

وهذا ما أكّده بيان نادي قضاة لبنان الصادر في 9 أيلول 2022، وعدد من القضاة السابقين، في مقدمتهم جوزف سماحة ورالف رياشي (وكلاهما رأس غرف جزائية في محكمة التمييز) وجهاد الوادي (رأس محكمة استئناف بيروت) وحاتم ماضي (نائب عام تمييزي سابق). وهذا أيضا ما أكده مجلس نقابة المحامين في بيروت في بيانه الصادر بتاريخ 10 أيلول 2022.

ولا يردّ على ذلك بوجود سابقة تعيين قاضٍ ثانٍ في 2006 في سياق قضية التحقيق في مقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، طالما أن التعيين المُدلى به يُحتمل أنه تمّ برضى المحقق العدلي الأصيل (الياس عيد) وأثناء فترة تغيبه في إجازة خارج لبنان، في حين أنه يحصل هنا من دون رضى المحقق العدلي بيطار ورغم تواجده على الأراضي اللبنانية، وإن كان ممنوعاً عن العمل للأسباب التي نبينها أدناه. هذا فضلاً عن أنّ القاضي جهاد الوادي أفاد أن القرار “السابقة” الذي يفترض أنه عُيّن بموجبه محققاً ثانياً لم يبلّغ إليه ولم يوضع قط موضع التنفيذ، وأنّ التعيين المذكور حصل أصلاً في ظروف غامضة ترافقت مع تقديم دعاوى ردّ ونقل عدة ضدّ المحقق العدلي عيد على خلفية تهيئه للإفراج عن الضباط الأربعة. لكل هذه الأسباب، لا يمكن اعتبار القرار المذكور سابقة يحتذى بها في قضية التحقيق في تفجير المرفأ.

2- ما هي صلاحية المحقق العدلي المنوي تعيينه؟

وفق الكتاب الذي وجهه وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري خوري إلى مجلس القضاء الأعلى بتاريخ 5 أيلول 2022، ورد أنّ صلاحية المحقق العدلي المنوي تعيينه هي وفق ما ورد في عنوانه “البتّ في الأمور الضرورية والملحة في ملف انفجار مرفأ بيروت”. وقد وردت تفاصيل أكثر حول مهمة المحقق العدلي المنوي تعيينه في خاتمة الكتاب حيث جاء أنها تشمل “معالجة الأمور الضرورية والملحة طيلة فترة تعذر قيام المحقق العدلي الأصيل بمهامه كطلبات إخلاء السبيل والدفوع الشكلية على سبيل المثال وذلك إلى حين زوال المانع الذي يحول دون ممارسة الأخير مهامه لحسن سير العمل القضائي وإحقاقًا للحق”. وقد نقل ذوو لضحايا عن رئيس مجلس القضاء الأعلى أن الصلاحية ستقتصر على النظر في طلبات إخلاء السبيل عملاً بحقوق الموقوفين.

وعليه، يظهر بوضوح أنّه بخلاف ما يكرّره أشخاص كثيرون نقلاً عن وزير العدل أو رئيس مجلس القضاء الأعلى، فإن الصلاحية المراد منحها للمحقق العدلي الثاني تتجاوز بكثير النظر في طلبات إخلاء السبيل وتتجاوز تالياً معالجة القضايا الإنسانية.

فهي تشمل علاوة على ذلك وفق صريح كتاب وزير العدل الدفوع الشكلية أي الدفوع التي من شأنها “إعلان عدم قانونية المحاكمة أو سقوطها أو وقف سيرها”، ومنها الدفع بعدم صلاحية المحقق العدلي. وعليه، بإمكان أيّ مدعى عليه (سواء كان موقوفاً أو غير موقوف) أن يقدّم هذه الدفوع والتي من شأنها أن تسقط الدعوى ضدّه تماماً. وعليه، ينتظر أن يستفيد من هذه الصلاحية الوزراء المدعى عليهم الذين ما فتئوا يدّعون أن القضاء العدلي ليس صالحا لمحاسبتهم، وأن محاسبتهم تتمّ حصرًا أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء وهو مجلس وهميّ لم ينعقد يوماً. وتاليا، من شأن تعيين هذا المحقّق أن يؤدّي إلى إخراج الوزراء الخمسة وربّما سواهم من المدعى عليهم من المحاكمة وضمان إفلاتهم من المحاسبة. 

كما نفهم من صريح الكتاب أن صلاحيتيْ النظر في طلبات إخلاء السبيل والدفوع الشكلية وردتا على سبيل المثال وليس الحصر، طالما سيكون للمحقق العدلي المراد تعيينه النظر علاوة على ذلك في أي أمر قد يراه ضرورياً وملحاً. وهذا ما يؤدي إلى توسيع الصلاحية إلى حدود يصعب حصرها.

فألا يشكل جمع المعلومات أو حفظ الأدلة أمراً ضرورياً وملحاً؟

وألا يشكل الكشف عن أسباب التفجير وإعطاء إفادة بشأنها أو التسليم بالتقارير الأمنية أمراً ضرورياً وملحاً وذلك درءاً لذرائع شركات التأمين في تأخير دفع التعويضات المتوجبة عملاً بعقود التأمين، وفق ما كان وزير الاقتصاد في حكومة حسن دياب راوول نعمة صرّح به أو ما كان أمين عام حزب الله حسن نصرالله طالب به؟   

أكثر من ذلك، ألا يشكل إنجاز التحقيق في أبشع الجرائم الحاصلة في لبنان أمراً ضرورياً وملحاً؟

بل وفي حال استمرار منع بيطار من العمل، ألا يصبح إصدار قرار ظنّي بهذه القضية أمراً ملحاً وضرورياً؟ وألا يكون سيناريو تعيين محقق عدل ثانٍ مرادفاً لسيناريو تعيين محقق عدلي يتولى ختم التحقيق بأكمله وإحالة ألملفّ إلى المحكمة من دون أن يعزل المحقق الأول ومن دون أن يسمح له بأي إجراء إضافي في الملف؟  

وما يؤكد ذلك أنه ليس أصلاً لوزير العدل أن يحدّ في قرار تعيين محقق عدلي صلاحياته، إذ أن هذه الصلاحيات المحددة في القانون لا يحدّها إلا القانون. بمعنى أن بإمكان أي محقق عدلي معين أن يدعي أن صلاحياته شاملة وأن يفسر قرار تعيينه على هذا الوجه. هذا مع العلم أنه ليس لمجلس القضاء الأعلى أن يشرط موافقته بتحديد هذه الصلاحيات، طالما أن القرار النهائي بتعيين محقق عدلي يصدر عن الوزير بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى على هويته وليس على صلاحيته (مادة 360 من قانون أصول المحاكمات الجزائية)، وأن أي شرط غير قانوني يعتبر بحكم الساقط.   

3- أي خطر لتعيين محقّق عدلي ثانٍ على ملف التحقيق؟

يترتّب على تعيين محقق عدلي ثانٍ في الظروف السياسية الضاغطة مخاطر عدة:

  • تشي ظروف التعيين بتوجّه إلى تعيين قاضٍ غير مستقلّ سيكون بمثابة قاضي تعليمات أو مهمة يتولى تنفيذ تعليمات القوى السياسية التي أسهمت في تعيينه أكثر مما هو محقق عدلي. وما يعزز هذه المخاوف هو حصول هذا المسعى تحت ضغط سياسي يستشفّ منه إرادة ليس في ضمان معالجة قضائية لأمور ضرورية وملحة، إنما قبل كل شيء في ضمان نتيجة بعينها. ومن المؤشرات المقلقة إلى ذلك هو ما ورد في المؤتمر الصحافي لرئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في 6 أيلول أي غداة كتاب وزير العدل. وقد جاء فيه أن ثمة توقيفًا ظالماً واعتباطيًا لموظفين مظلومين خُطفوا “وقد تحولوا الآن إلى أسرى ومعتقلين في السجون اللبنانية، ما من قاضٍ يستمع لهم، وهذا أمر لا يمكن أن نقبل باستمراره. نحن سنقوم بتحريرهم بأيّ وسيلة ممكنة، مهما تطلّب الأمر سنحرّرهم من سجونهم، نتمنى أن يتم ذلك بالوسائل القضائية اللازمة”. يستشف من ذلك أن الإفراج عن بعض الموقوفين (الأسرى) تحوّل بالنسبة إلى باسيل إلى نقطة شرف سياسية وأن هوية المحقق الثاني ستحدّد تالياً على ضوء مدى التزامه بتحريرهم. وهذا أيضاً ما يتأكد من انخراط عدد كبير من نواب التيار الوطني الحر في تحركات لا تخفي وجود غاية واضحة في إخلاء سبيل موقوف بعينه هو المدير العام للجمارك بدري ضاهر.
  • من شأن تعيين قاضي مهمة أو قاضي تعليمات، أن يؤدي إلى المخاطر الآتية: (1) تعريض سرية التحقيق للخطر بفعل تسليمه ملف التحقيقات كاملاً، (2) تهريب المدعى عليهم من الملاحقة نهائياً بعد قبول دفوعهم الشكلية، أو قبول طلبات إخلاء سبيل في حالات قد تضرّ بالتحقيق وتسمح بتهريب موقوفين من قبضة العدالة، كل ذلك مقابل إبقاء الضحايا وذويهم والمتضررين في حالة انتظار لعدالة مجمدة، (3) وأخيراً، التلاعب في الأدلة والمسؤوليات وصولاً إلى وضع قرار إتهامي ضمن الخطوط الحمراء المرسومة من القوى السياسية الحاكمة.   
  • أنه يشكّل سابقة من الممكن تطبيقها في أي ملف قضائي، على نحو يؤدّي إلى إقصاء أيّ قاضٍ يتصرّف خلافاً لمصالح قوى نافذة أو لا ينفذ تعليماتها. يكفي من أجل ذلك تقديم دعاوى رد أو/و مخاصمة تعسفية ضد هذا القاضي على نحو يؤدّي إلى كفّ يده، فإذا تمّ ذلك، يتم تعيين قاضٍ آخر طوال فترة تعذر قيام الأول بمهامه. ومن شأن ذلك أن يسمح بالتلاعب في كمّ كبير من الملفات القضائية وأن يشكل انقلابا بالغ الخطورة على استقلالية القضاء.

4- لماذا يتعذر قيام المحقق العدلي الأصيل بعمله؟

تعرّض المحقق العدلي الأصيل طرق بيطار تبعًا لاستدعائه عدداً من الوزراء وإصداره مجموعة من طلبات إذن بملاحقة نوّاب وكبار الموظفين ومحامين لاعتداءات بلغت أرقاماً ومستويات قياسية. كما تمّ تقديم عشرات دعاوى الردّ والنقل بحقه بهدف تعطيل التحقيق. وقد صرّح الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله بمناسبة الذكرى الثانية لتفجير مرفأ بيروت بأن التحقيق في هذه القضية سيبقى متوقّفاً إلى حين تنحّي بيطار عن وظيفته كمحقق عدلي فيها. وقد فصّلت “المفكرة القانونية” في ورقة بحثية نشرتها أخيرا تحت عنوان: “ع مرفأ العدالة: جدار الإفلات من العقاب وما بعده” جلّ ما شاب هذه القضية من تدخلات واعتداءات ومساعٍ لتعطيل التحقيق وصولاً إلى كفّ يد بيطار عن النظر فيها. ومن المهمّ التذكير بأنّ تجميد التحقيق حاصل حالياً منذ قرابة 9 أشهر بفعل اجتماع ثلاثة عوامل:

  • إن القانون اللبناني الحالي يأمر بكفّ يد القاضي عن النظر في أي قضية في حال تقديم دعوى ردّ ضده فور تبلغه إياها وبمعزل عن مدى جديتها وإلى حين البت بها. وما أن حسمت الهيئة العامة لمحكمة التمييز الجدل بشأن المحكمة المختصة للنظر في طلبات الرد ضد المحقق العدلي، سارع عدد من المدعّى عليهم إلى تقديم دعاوى ردّ ضده أمام المرجع الذي أعلن اختصاصه وهي محكمة التمييز. وقد توقّف بيطار عن إجراءات التحقيق فور إبلاغه بطلب تقدم به الوزيران السابقان والنائبان الحاليان علي حسن خليل وغازي زعيتر لردّه أمام هذه المحكمة، وذلك بتاريخ 23/12/2021،
  • لم يكتفِ خليل وزعيتر بتعليق التحقيق بفعل طلب الردّ، إنما سارعا إلى تعليق النظر فيه من خلال تقديم دعوى أخرى أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز وهي دعوى مخاصمة ضد الدولة على خلفية قرار إداري أصدره رئيس الغرفة الأولى لمحكمة التمييز ناجي عيد بصفته هذه. وهنا أيضا تعيّن على هذه الغرفة أن تتوقف عن النظر في دعوى الردّ إلى حين البتّ بجدية دعوى المخاصمة وفق قانون اصول المحاكمات المدنية،   
  • تحوّل تعليق التحقيق إلى تجميد تامّ بفعل فقدان الهيئة العامة لمحكمة التمييز المختصة بالنظر في دعوى المخاصمة نصابها تبعاً لتقاعد غالبية رؤساء غرف محكمة التمييز. ورغم أن مجلس القضاء الأعلى أعدّ مشروع تشكيلات لملء المراكز الشاغرة في رئاسات هذه المحكمة بعد مساومات كثيرة حول أسماء القضاة، فإن هذا المشروع لم يصبح نافذاً بفعل رفض وزير المالية يوسف الخليل عن التوقيع على مرسوم إصداره لحصول خلل في التوازن الطائفي. وهذا ما علّقنا عليه في مقال منفصل تحت عنوان: “فيتو وزير المالية يعطّل محكمة التمييز: ضمانة جديدة لنظام الإفلات من العقاب“. وقد أوضحنا في هذا المقال أن عدم توقيع وزير المالية على مرسوم التشكيلات القضائية هو غير قانوني طالما أن قانون تنظيم القضاء العدلي كان اعتبر صراحة أن مشاريع التشكيلات التي يضعها مجلس القضاء الأعلى تكون ملزمة ونهائية (مادة 5)، بمعنى أن صلاحية التوقيع على مرسوم إصدارها تكون في هذه الحالة مقيّدة وأنه بأيّة حال ليس لوزير المالية أي صلاحية في التوقيع على هذا المرسوم الذي يخرج تماماً عن صلاحية وزارته طالما أنه لا يرتب أي مفاعيل مالية. وقد أقرّ رئيس مجلس النواب نبيه بري ضمنا في سياق الجلسة التشريعية المنعقدة في 26 تموز 2022 بأنه هو الذي أوعز لوزير المالية بعدم توقيعه وأن ثمة مساع لتصحيحه وتوقيعه. وإذ ألمح أحد النواب بوجود تأخير غير مقبول، أجابه بري أن لا مشكلة في انتظار سنوات إذا احتاج الأمر.

وعليه، من المهم أن نعرف أن التجميد ما كان ليحصل على هذا النحو لولا اجتماع هذه العوامل الثلاثة، وأن العامل الأكثر تأثيرا هو العامل السياسي الذي حوّل التعليق إلى تجميد تامّ. فلو تمّ تقديم دعوى ردّ من دون دعوى مخاصمة الدولة، لكانت محكمة التمييز حسمت مدى جديتها (وهي فعلت ذلك في عدد من الدعاوى الأخرى حيث تبين أنها غير جدية) وانتهى الأمر. ولو كانت الهيئة العامة لمحكمة التمييز قادرة على الانعقاد لتوفر نصابها بعد صدور مرسوم التشكيلات، لنظرت في مدى جديّة دعوى مخاصمة الدولة، لتأذن لمحكمة التمييز ببتّ دعوى الردّ، لينبني على الأمر مقتضاه.

انطلاقا من ذلك، جرتْ مساعٍ تشريعية وسياسية لإزالة هذه العوائق أو أحدها على الأقل. وهذا ما سنناقشه أدناه في إطار مناقشة الحلول المقترحة.        

5- هل يشكل تعيين محقق عدلي ثانٍ حلّا ضروريا أو ممكناً لمعالجة الآثار الخطيرة الناجمة عن تعطيل التحقيق، وأهمها فقدان الموقوفين إمكانية تقديم طلبات إخلاء سبيل؟

بداية تعيين قاض ثان في ملف المرفأ غير قانوني. وهو ليس لا ناجعاً ولا ضرورياً.

هو ليس ناجعا، لأن بإمكان الفرقاء في الدعوى (الضحايا) أن يبادروا إلى تقديم دعاوى ردّ ومخاصمة ضدّ المحقق العدلي الثاني على غرار ما حصل مع القاضي بيطار. قد يقوم بذلك موقوف أو مدعى عليه تمّ ردّ طلبه أو أيّ من المدّعين (الضحايا أو المتضررين). فماذا يحصل بعدئذ؟ هل سيتم تعيين قاض ثالث ورابع؟ من البين أن هذا الأمر لا يشكل حلاً فضلاً عن كونه يرشح عن مخاطر كثيرة كما سبق بيانه.

وهو ليس ضرورياً لوجود حلّ آخر أكثر فعالية وأقلّ كلفة:

الحلّ الأفضل وهو تشريعي. وهو يشكل بالواقع ضرورةٌ تفرضها تجربة قضية المرفأ والمنزلقات التي ما برحت تهددها. يقوم هذا الحلّ على تعديل تشريعي ينصّ صراحة على أن دعاوى الرد ودعاوى مخاصمة الدولة على خلفية أعمال القضاء لا توقف الإجراءات القضائية إلا في حال قررت المحكمة المختصّة خلاف ذلك. وهذا الحلّ ضروري لوضع حدّ للتعسف، ولعدم جواز تعطيل الحق العام (أي حقوق المجتمع) بمجرد تشكيك أحد أطراف الدعوى بحياديّة القاضي من دون التأكّد من جديّة أو مشروعيّة هذا التشكيك. وما يسهل اعتماد هذا الحلّ هو تقدم عدد من النواب تكتل “قوى التغيير” ونواب كتلة “الجمهورية القوية” لاقتراحات قانون في هذا الخصوص.

6- ماذا عن الحلول المتمثلة في حلحلة العوائق أمام صدور التشكيلات القضائية؟

هنا نجد توجهين متناقضين:

  • توجّه تشريعي يهدف إلى تحرير التشكيلات القضائية من إلزامية صدور مرسوم رئاسي، بما يضمن نفاذ مشروع تعيين رئاسات غرف محكمة التمييز واكتمال نصاب هيئتها العامة وتالياً قدرتها على البتّ في دعاوى المخاصمة العالقة أمامها مع ما يستتبع ذلك من حلحلة لملف التحقيق. وما يسهل اعتماد هذا الحلّ هو أن اقتراح قانون استقلالية القضاء العدلي كما صدقته لجنة الإدارة والعدل يجعل مشاريع التشكيلات نافذة في حال انقضاء شهر من إيداعها ديوان وزارة العدل من دون صدورها. وهذا ما حصل تماما في هذه القضية. ومن شأن هذا الحلّ أن يجعل التشكيلات نافذة وأن تجرّد وزير المال كما جميع أعضاء السلطة التنفيذية من إمكانية ممارسة فيتو ضدها. وهذه أيضاً ضرورة تفرضها تجربة قضية المرفأ، وسلسلة من التجارب التي طالما عطّلت المؤسسات القضائية حيث تمّ إجهاض 7 من أصل 9 مشاريع تشكيلات قضائية تم إعدادها خلال العشرية الأخيرة.
  • توجه سياسي يهدف على العكس من ذلك تماماً إلى فتح بازار من المساومات السياسية الطائفية بشأن عدد رؤساء غرف التمييز وأسمائهم وطوائفهم، وهو بازار قد لا يكون له نهاية وقد يتّسع ليشمل سلة من المسائل السياسية والإدارية المطروحة. يقود هذا التوجّه حالياً النائب الياس بو صعب وهو يقوم على زيادة غرفة في محكمة التمييز ليصبح مجموع غرفها 11 ويحقق المناصفة بين المسلمين والمسيحيين داخل الهيئة العامة لمحكمة التمييز (رئيس أول لمحكمة التمييز مسيحي زائد 5 رؤساء غرف مسيحيين مقابل 6 رؤساء غرف مسلمين). وقد استند بو صعب في مبادرته على مرسوم صدر في 2004 في هذا الخصوص يحدّد هيكلية محكمة التمييز وملاكها. وإذ اصطدم هذا الطرح برفض غالبية مجلس القضاء الأعلى له بتاريخ 8 أيلول، غرّد بو صعب في 9 أيلول متهما هذا الأخير بتغليب الحسابات السياسية وبالعناد وبمخالفة مرسوم 2004 وتالياً بالتسبب بعرقلة التسوية السياسية بشأن المرفأ وغيره. وكان بو صعب أقرّ عند خروجه من القصر الجمهوري في 6 أيلول أن من شأن رفض مجلس القضاء الأعلى لمبادرته أن يعطل تسوية سياسية تشمل عددا من المراسيم المجمدة وأمورا أخرى رفض الإفصاح عنها. والواقع أن فرض هذه التسوية على مجلس القضاء الأعلى هو في غير محله للأسباب الآتية: (1) أن قانون تنظيم القضاء الأعلى يعتبر مشاريع التشكيلات نهائية وملزمة ويقيد صلاحية الوزراء والرؤساء في سياق توقيعهم على مرسوم إصدارها، وأن أي تسوية معاكسة إنما تؤدي إلى تطبيع مع ممارسات وضع اليد على القضاء واستتباعه، (2) إن مجمل مراسيم التشكيلات القضائية الصادرة بعد 2004 حددت عدد غرف محكمة التمييز ب 10 فقط وتم توقيعها من وزراء من حركة أمل، آخرهم وزير المالية السابق علي حسن خليل (2017). وهذا الأمر إنما يؤكد أن الغاية من زيادة عدد الغرف تدخل ضمن صراعات النفوذ وتحديداً سعي رئيس مجلس النواب إلى تعزيز وزنه داخل الهيئة العامة لمحكمة التمييز تمهيداً لفرض إرادته على القرارات الصادرة عنها وبخاصة في قضية المرفأ، (3) أن ثمة شغورا في ملاك القضاء العدلي يصل اليوم إلى نسبة 40% وهو شغور آخذ بالتزايد على ضوء تواتر استقالات القضاة. وعليه، يصعب في ظلّ هذا الشغور زيادة غرف وملاك محكمة التمييز، وإيجاد أشخاص مناسبين لهذه المراكز، (4) إن القول بزيادة غرفة يرأسها قاضٍ مسلم يدخلنا وفق منطق المبادرة نفسها في مساومة أخرى حول مذهب هذا القاضي واسمه. فهل يكون من المذهب الشيعي بما يعطي أغلبية عددية للشيعة في رئاسات هذه الغرف (3 شيعة مقابل 2 سنة ودرزي واحد) ويهدد بصدور فيتو هذه المرة عن رئيس الحكومة المستقيلة نجيب ميقاتي لأسباب طائفية أيضاً أم المذهب السني بما يهدد باستمرار وزير المالية على موقفه الرافض للتوقيع؟ وعلى فرض حسم هذه المسألة، هل يكون لمجلس القضاء الأعلى تحديد هويته بحرّية أم ندخل في مساومة أخرى حول اسم رئيس الغرفة الجديدة في اتجاه اختيار شخص يوالي السلطة السياسية المعطّلة تحت طائلة استمرارها في رفض توقيع المرسوم؟ لكل هذه الأسباب، أمكن القول بأن مجرد طرح هذه التسوية يعمق من المشكلة بدلاً من حلها، ويزيد من استتباع القضاء وتسييسه وتطييفه والأهم من المساومات حول المراكز الهامة داخله. ولعلّ أخطر ما في هذا الطرح هو التشويش الذي يتسبب به بشأن المسؤولية عن تعطيل التحقيق، في اتجاه تبرئة ذمة الجهات السياسية المعطلة فعلياً للتحقيق مقابل تحميلها لمجلس القضاء الأعلى وللقضاء عموماً، مع ما يستتبع ذلك من تشويش للوعي وضياع للحقيقة.

هذه هي أهم الأجوبة على الأسئلة المطروحة في سياق هذه القضية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، قرارات قضائية ، استقلال القضاء ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني