يردد أغلب التونسيين في أحاديثهم العلنية والسرية أن لوبيات الفساد تتحكم في عديد القطاعات الاقتصادية وأن قدرة بارونات التهريب على تحدي سلطة الدولة في عديد المناطق كبيرة، وأن تونس بصدد التحول من دولة فيها فساد إلى دولة يتحكم فيها الفساد. ويتأكد ذلك في التصريحات التي أدلى بها جل النواب خلال جلسة سحب الثقة من الحكومة السابقة، وفي تحول موضوع الفساد لأحد أكثر المواضيع تداولاً على أعمدة الصحف التونسية. ورغم التنديد الجماعي بسيطرة الفساد الذي تحول إلى كائن أسطوري إلا أن عجز الدولة على التحكم فيه لم يعد خافيا. لكن ما الذي يجعل آفة كالفساد تأخذ هذا الحجم؟ وما الذي حولها على هذا النحو إلى وحش كاسر؟ ولماذا تبدو المعركة ضد الفساد غير متوازنة القوى وملامح الهزيمة بصدد التشكل بكل وضوح؟
1- صراع غير متوازن في الحرب على الفساد
يتصارع في المعركة على الفساد طرفان، كلاهما يعتمد أسلحة وعتاداً خاصة بهما. فالذي اختار شقّ مكافحة الفساد يعتمد وسائل تبدو محدودة وضعيفة أمام حجم الفساد كتنظيم الندوات واللقاءات وإلقاء الخطب. ومن حين إلى آخر، تتخذ بعض القرارات المعزولة من دون أيّ أثر فعلي. بالمقابل، يلجأ الداعمون لبقاء بيئة داعمة للفساد إلى آليات أكثر تطورا، في سعيهم للتحكم في كواليس الحكم بالوسائل المؤثرة في اتخاذ القرارات، سواء بإفراغ أيّ تحرك لمكافحة الفساد من محتواه وإدخاله في دوامة مفرغة من التعطيل، أو باعتماد آليات التحكم السلطوي للسيطرة وبسط النفوذ والتي تراوح بين التحكم الناعم والتحكم العنيف من خلال الترغيب والمكافأة أو استعمال العنف والتهديد. فمن يصمت ويقبل أن يكون جزءا من دورة الفساد يغنم المغانم من مناصب ومال وجاه، ومن يواجه ويتحدى ويندّد، فمصيره العزل والتشويه والهرسلة.
والغاية هي الإبقاء على منظومة الفساد ونشر ثقافة تطبّع معها باعتماد أساليب متسلطة لترويض الجماهير وجعلها تقبل الفساد كمعطى لا يثير الاعتراض والعمل على تمجيده ليصبح الفاسدون محل إعجاب ومثالا يحتذى على أساس نجاحهم الاجتماعي وقدرتهم على كسب ثروات طائلة من دون الإهتمام بمصدرها. تتم عملية “الترويض” وهو مصطلح مستعمل في أدبيات علم النفس السلوكي من خلال التحكم في تحديد نتائج السلوك، أي في تحديد ما يستدعيه من مكافأة أو عقاب. وهي آلية تستعملها أنظمة الحكم المتسلطة لبسط نفوذها. وتعتمد هذه الآلية لفرض الفساد كواقع على “ترويض” وتعويد العموم على أنه لا فائدة من مكافحة الفساد وأن كل المحاولات للتصدي له مصيرها الفشل ويمكن أن تعود بالوبال على أصحابها. فلم تؤدّ القضايا المرفوعة ضد جرائم الفساد في أغلبها إلى نتيجة وخرج أغلب المتهمين فيها بأخف الأضرار ولم تصدر أحكام إلا على شريحة صغيرة من الفاسدين مرتبطة مباشرة بالرئيس السابق في حين أفلت الباقون من المحاسبة. ورغم أن الأسباب وراء ذلك كثيرة ومعقدة، أهمها مدى القدرة والرغبة في إعداد ملفات اتهام قوية وكاملة، إلا أن النتيجة واحدة. كما لم يستكمل الفرع الثاني من المرسوم عدد 13 المتعلق بمصادرة أملاك كل من تحصل على منفعة جراء علاقته بـ 114 شخصا الواردة أسماؤهم في قائمة المصادرة. وفي مثال آخر كان ملف إعادة رسملة البنوك العمومية دليلا قاطعا على تواصل حالة الإفلات من العقاب. فهذه البنوك التي شارفت على الإفلاس بسبب حجم الديون غير المستخلصة والتي أسند أغلبها بطرق فاسدة أعيد تمويلها من جيب دافع الضرائب التونسي بمئات الملايين من الدولارات دون أن يحاسب من كان وراء إسناد هذه القروض ومن انتفع بها. وحتى تقارير التدقيق في هذه البنوك التي تم الوعد بنشرها أمام مجلس نواب الشعب لم تنشر بتاتا.
ساهمت هذه الأمثلة والكثير غيرها في تشكل موقف جمعي يرى أن لا جزاء للفاسدين وبالتالي لا فائدة من التظلم وتقديم الشكاوى والتشهير لأن النتيجة ستكون واحدة وهي الإفلات من العقاب. ويساهم هذا الأمر في إيقاف زخم الكشف عن الفساد والتبليغ عنه ورفضه والتنديد به. ومع تواتر حالات الإفلات من العقاب يتم التحكم في الرأي العام ودفعه إلى الاستقالة من التصدي لمكافحة الفساد.
كما أن كثرة تصريحات السلط بعزمها على مكافحة الفساد دون فعل حقيقي يحقق أثراً يفقدها المصداقية في مكافحة الفساد. فتصريحات رؤساء الحكومات المتعاقبة بأن كل الوزراء سيقدمون كشفا حول ممتلكاتهم دون أن نرى احتراما لهذا التعهد يفقد المواطنين الثقة في عزم الحكومة ويحد من إيمانهم في عزمها على شن الحرب على الفساد. كما أن تواتر التصريحات الرسمية في أعلى المستويات بالعجز أمام هذه الظاهرة والتسليم بصعوبة مجابهتها يكرس فكرة الهزيمة قبل بدء الحرب.
ومن جهة أخرى، أصبح هنالك صدى لأصوات تبرر الفساد. وهي مبررات سبق أن قُدّمت في ستينيات القرن الماضي عندما نظّرت بعض الدراسات لإيجابيات الفساد على اقتصاديات الدول النامية باعتبار أنه وسيلة ناجعة لدفع الإستثمار أمام آلة بيروقراطية مكبلة ومعطلة. واليوم، عادت نفس تلك المسوغات لقبول الفساد ضماناً لعدم هروب المستثمرين والحفاظ على السلم الاجتماعية واستقرار الساحة السياسية وعدم إغضاب الفاسدين لتلافي قدرتهم على التشويش وإحداث الفوضى.
2- الإرادة السياسية مفتاح الحرب، لكن أي إرادة؟
يبقى مفتاح الحرب على الفساد بيد السلطة. فكل النجاحات في دحر هذه الآفة على مستوى دولي ارتبطت بعزم الساسة على مكافحة الفساد وقدرتهم على خوض هذا الصراع بكل قوة وفاعلية وديمومة. ورغم أن كل الحكومات المتعاقبة ما بعد الثورة أعلنت في خطابات البداية وتصريحات منح الثقة أمام البرلمان الحرب على الفساد واستعدادها لمكافحته وأعربت عن جديتها في اتخاذ بعض الإجراءات. إلا أن إعلانات النوايا سرعان ما تصطدم بواقع يبرز تغلغل الفساد وسطحية التعامل مع هذا الوضع. وهي سطحية لا يعرف إن كانت مرتبطة بسوء نية أم هي ناتجة عن عدم قدرة حقيقية على خوض الصراع، وفي كل الحالات فإن النتيجة واحدة: فشل متواصل في التحكم في الفساد.
إن الإرادة السياسية لا يمكن أن تنشأ من فراغ بل هي وليدة مجموعة من المعطيات المعقدة والمترابطة من بينها وعي القيادة السياسية وتطلعاتها وقدرتها على حشد الدعم الداخلي والخارجي ومدى رغبة المجتمع في دحر الفساد. وكذلك مدى قدرة القوى التي ستتضرر مصالحها نتيجة الحرب على الفساد واستعدادها للمواجهة باستعمال كل الطرق الممكنة والضغط بكل الوسائل والسعي الدؤوب لإفراغ الإصلاحات من محتواها وقوامها في ذلك مال وقوة وتأثير إعلامي.
ويزداد الوضع تعقيدا مع وجود قصور وعدم ثبات في فهم دور السلطة في مكافحة الفساد. فهل أن دورها يقتصر على توفير أرضية قانونية في مواجهة الفساد في حين أن أغلب القوانين في هذا الإطار إما معطل أمام مجلس نواب الشعب كقانون حماية المبلغين أو ما زال يتأرجح بين اللجان داخل الإدارة كقانون إحداث الهيئة الدستورية لمكافحة الفساد، أم أن دورها يشمل فقط إنشاء مؤسسات لمكافحة الفساد كهيئة مكافحة الفساد وتكليفها بصفة حصرية بهذا الملف كخطوة تبدو نوعا من الاستقالة ورمي حمل مكافحة الفساد على هذه الهيئة أكثر منه دعما لاستقلاليتها. وفي المقابل يبقى خوض حرب حقيقية وفق استراتيجية مضبوطة ومتكاملة مفقودا لحد الآن.
ومن ناحية أخرى، يقتصر الباحثون عند تحليل أسباب الفساد على تقديم حجة غياب الإرادة السياسية كسبب لاستشراء الفساد دون قدرة على مزيد التعمق في تحليل هذا المفهوم الذي يبدو حجة سهلة العرض لتلافي عدم بذل مجهود وتقديم قراءة أكثر عمقا لمكافحة الفساد وتفصيل مكامن التقصير أو العجز والتهاون للتمكّن من مساءلة حقيقية للقائمين على السلطة. فالتقديم الدائم لفقدان الإرادة السياسية كسبب لفشل مكافحة الفساد في تونس يتطلب تقييما علميا وموضوعيا لمدى توفر الإرادة السياسية وتفكيك هذا الدور وإبراز مكامن القصور لأن الإرادة السياسية في مكافحة الفساد لا تقاس بحجم التصريحات بقدر قياسها بجدية الأفعال التي يلخص أهمها في المحاور التالية:
- فهم الفساد وأسبابه العميقة وتسليط الضوء عليها للتمكن من معالجتها.
- وضع استراتيجية متكاملة يشترك الجميع في إعدادها وتنفيذها وتقييمها ودون احتكارها من طرف وحيد.
- قدرة القادة السياسيين أن يكونوا مثالا يحتذى في النزاهة أو ما يعبر عنه “بالقيادة بالقدوة” وهذا يتطلب منهم أن يبرهنوا عن التزامهم في ضبط ومعاقبة المسؤولين الفاسدين دون اعتبارات تتعلق بالانتماء الحزبي.
- تخصيص موارد كافية لتفعيل الإجراءات اللازمة لمكافحة الفساد.
- توفير حوافز لنبذ الفساد ووضع حد للإفلات من العقاب بتطبيق حازم للعقوبات.
- التشجيع على المشاركة الفعالة للمواطنين في الإصلاحات لمكافحة الفساد.
- تقييم دائم ورصد نتائج الإصلاحات المضبوطة في الإستراتيجية.
3- مكافحة الفساد ليست فقط موضوعا تقنيا أو قائمة إجراءات للتنفيذ
لا يمكن التعامل مع مكافحة الفساد طبقا لوصفات جاهزة مثل وصفات الطبخ التي تطبق بنفس الطريقة في كل مكان وزمان. ولا يمكن معالجة الفساد من خلال حلول تقنية بوصفات دولية جاهزة أو حلول قانونية أنشأها خبراء أجانب بمعزل عن تناول الموضوع في إطاره الاجتماعي والسياسي والمؤسساتي والتاريخي. فتاريخ الفساد في تونس ضارب في القدم ومرتبط بمعاناة الشعب التونسي عبر العصور من الإحتلال الأجنبي والإستغلال الفاحش لموارده منذ الغزو الروماني إلى فترة حكم الباياتوما بعدها. وهو ما جعل علاقته بالدولة متوترة، واقتصرت على إجباره على دفع الضرائب من دون أن تقدم الدولة خدمات في المقابل، والرشوة باعتبارها نوعا من “المراوغة والتحايل من أجل امتلاك ما لا يجوز امتلاكه قانونيا واجتماعيا كرد فعل على اغتصاب الحقوق”. وهذا ما بيّنه الباحث التونسي المنصف وناس في كتابه “الشخصية التونسية: محاولة لفهم الشخصية العربية” مسجلاً أن هذه الشخصية تعبر عن أزمة المشروعية في كثير من الأحيان. فالشعور بمحدودية الموارد وعدم العدالة في توزيعها يهيئان البيئة الاجتماعية لانتشار السلوك الإرتشائي.”
كما أن مؤسسات الدولة بوضعها الحالي وتنظيمها الإداري المعتمد قاصرة عن محاربة الفساد. أما الوضع السياسي بما أنتجه من طبقة سياسية ونظام سياسي، فقد أوجد فرصا وأشكالاً جديدة من الفساد. في حين اقتصرت مقاربات الإصلاح إما على تلميع صورة أشخاص أو تصفية حسابات أو إرضاء بعض المانحين الذين يتعاملون مع مكافحة الفساد على أساس قائمة من الإجراءات للتنفيذ “checklist ” دون خطط ورؤية وعزم حقيقي على التنفيذ. وتتطلب مواجهة هذه الآفة العكوف على فهم الظاهرة من جميع نواحيها الإقتصادية والاجتماعية والتاريخية وتفكيك دوافعها وأسبابها العميقة وتقديم حلول مرتبطة بالبيئة التي نشأ فيها الفساد وتغطية جميع أوجهه النفسية، الإقتصادية، الاجتماعية والإدارية وفقا لرؤية متكاملة وأهداف واقعية مضبوطة. خاصة أن أغلب الإصلاحات المطروحة حاليا بقيت إصلاحات سطحية واكتفت بمعالجة العوارض دون الأسباب، وآخرها الحملة التي أقيمت مؤخرا لمراقبة حضور الموظفين.
4- الفضاء العام مكانا للحرب الحقيقية على الفساد:
يبقى استعداد المواطنين لمكافحة الفساد إحدى الركائز الأساسية للفوز بالمعركة على الفساد. إلا أن مدى عزمهم كما أثبتته العديد من الدراسات غير ثابت. فمن جهة هم يدينونه، ومن جهة أخرى إذا فرضت الظروف دفع رشوة لقضاء حاجة فهم لا يتورعون عن القيام بذلك. ورغم الاجماع على إدانة الفساد، فإن حماس المواطنين في مكافحته بقي ضعيفا واقتصر على بعض التحركات الاحتجاجية التي لم تنجح في تعبئة جماهرية هامة وأقربها زمنا هو التحرك ضد قانون المصالحة الاقتصادية. وتبقى القدرة على التعبئة الشعبية وتحويل الفضاء العام إلى مكان لفرض إصلاحات حقيقية لمجابهة الفساد أحد أهم التحديات في هذه الحرب على الفساد. ويمثل المجتمع المدني أحد المعاقل الأخيرة للصمود أمام الفساد وأكثرها قدرة على التعبئة وممارسة ضغط حقيقي في سبيل اتخاذ الإجراءات الفاعلة وتقييمها موضوعيا. كما قد تشكل الإنتخابات القادمة إحدى آخر حلبات الصراع. فالمتوقع أن يكون محور الفساد فيها أحد أهم محاور التنافس السياسي، وستكون القدرة على الإقناع بجدية العزم في الفوز بهذه المعركة مفتاح النجاح في الإنتخابات أو الفشل فيها.
نشر هذا المقال في العدد 6 من مجلة المفكرة القانونية في تونس