“
بادرت السلطة السياسية التونسية في منتصف ثمانينات القرن العشرين لإطلاق فكرة المعاهد النموذجية. وتتمثل هذه المعاهد في مؤسسات تعليم عمومي تخصص لتدريس المتفوقين في مناظرة ختم الدروس الابتدائية “السيزيام” كما يصطلح عليها محليا. أدى تطور التجربة لأن بات اليوم بكل ولاية من ولايات تونس مدرسة إعدادية نموذجية ومعهد ثانوي نموذجي، ولأن تحول تفوق الأبناء في المناظرات الوطنية المدرسية والتحاقهم بتلك المؤسسات من مصادر فخر الأسر التونسية.
انقسم في ذات الحين الشارع التونسي في تقييمه لتلك المعاهد بين مشكك في جدواها متمسك بكونها أداة تمييز بين التلاميذ في جودة الخدمات التعليمية ومن يقدّر أنها صاحبة الفضل في محافظة المدرسة العمومية على جاذبيتها في مواجهة مؤسسات التعليم الخاص. قد يكون من المهم وقد تحولت هذه المؤسسات إلى موضوع جدل اجتماعي وسياسي منح فرصة لتلاميذ تلك المعاهد لكي يبدوا ما لهم من رأي.
تكفلت بهذا الجهد التلميذة بالسنة ثالثة ثانوي بالمعهد النموذجي بحمام الأنف سناء السلايمي بطرح الفكرة. وقد أكدت أن ما يعنيها في النقاش عن المعاهد النموذجية هو تحديد المقصود بالتعليم النموذجي. ويهم المفكرة نشر هذا المقال بروحه التلميذية ودون كبير تدخل من فريقها التحريري (المحرر).
يقسم التعليم التونسي إلى تعليم عمومي مجاني وتعليم خاص. وينقسم التعليم العمومي في مرحلته الإعدادية ومرحلته الثانوية إلى معاهد عمومية ومعاهد نموذجية. يلتحق سنويا قرابة 3000 تلميذ بالمدارس الإعدادية النموذجية وعدد مثلهم بالمعاهد النموذجية من بين من يتحصلون على أفضل المعدلات في المناظرات الوطنية للسنة السادسة ابتدائي والسنة التاسعة أساسي (إعدادي). يتمثل دور المعاهد والإعداديات النموذجية في توفير تدريس جيد للمتفوقين بهدف إنشاء نخبة تتمتع بأعلى المستويات في ميادين العلوم و التكنولوجيا والآداب والفنون والرياضة.
تعتبر المدارس والمعاهد النموذجية في تونس طريق النجاح المحقق فهي الوسيلة الأنجع لتحقيق أحلامنا ومطامحنا في هذه الحياة بكل ما تقدمه من إضافات وتجارب للتلاميذ دافعة إياهم نحو مستقبل باهر. إذ حظت هذه المؤسسات باهتمام الجميع وخصّصت لها مناطق شاسعة موفرةً المجال للبناء المناسب لاحتياجات التّلميذ المتفوّق. وقد طابقت ظروف التدريس الجديدة تميّز تلامذتها فلم يتجاوز عددهم الثلاثين في كل قسم وأضيفت لبرامج التدريس ساعات تدريس للعلوم والرياضيات طبق مناهج أكثر تفصيلا وتعمقا من التعليم العمومي العادي. تعدّ هذه المعاهد والمدارس جيل المستقبل بتوفير ظروف مناسبة للانغماس في دراسة العلوم. فترسم صورة لمحيط دراسي مؤهل لتأطير تلامذته بشكل مثالي يوفر لهم كل فرص النجاح والتألق.التي تؤهلهم ليكونوا أفرادا متميزين وفاعلين في المجتمع.
فكم طابقت هذه الوعود الواقع؟
معاهد خصصت لتأطير التلامذة المتميزة تأطيرا خاصا، أنشئت لتوفير المحيط الأنسب لهم، جعلت ليخرجوا منها متميزين في كل الميادين العلمية أو الفنية أو الأدبية أو غيرها. لكنها كانت في واقع الأمر مؤسسات تهتم بتمكين تلاميذها من تعليم مركز للعلوم والرياضيات من دون أن توفر لهم فرصا حقيقية لتمتين معارفهم الاجتماعية والثقافية.
فنلاحظ غيابا لأغلب وسائل الترفيه واختفاء لمعظم معالم التنشيط من نوادي الموسيقى أو المسرح. أضف إلى ذلك محدودية التظاهرات الجماعية الثقافية رغم أهميتها من حيث تدريب التلميذ على التفاعل الإيجابي مع أحداث مجتمعه وبالتالي تكوين جيل معتز بهويته وانتمائه. كما نجد إشكالا آخر له علاقة مباشرة بأحد الفضاءات المدرسية الأساسية وهو المكتبة التي انقلب دورها من فضاء يجلب التلميذ إليه بما تزخر به من كتب ومجلدات وقصص ينهل عليها التلميذ بشراهة ومحبة إلى فضاء ينفر منه التلميذ ويتجنب البقاء فيه. فهي فضاء جامد وفارغ لا كتب فيها ولا جمال تنسيق لفضائها.
الحديث عن اهمال التكوين الثقافي في المعاهد النموذجية يدعونا الى النظر في هندسة بناء مقراتها التي هي في أغلبها بناءات جديدة ومعاصرة لكنّها فقيرة لا تبحث عن الجمال أو الفنّ. فتخفى منها الفضاءات الفنيّة الترفيهيّة من مسارح وقاعات للموسيقى وغيرها التّي تمثّل دورا هاما في تنمية فكر التلميذ وتطويره خارج المجالات العلميّة. وتختفي بالإضافة إلى هذا الفضاءات الخضراء وينعدم حسّ العناية بالبيئة والاهتمام به خارج الدروس النظريّة التي تتكرّر كلّ سنة في مختلف المواد دون العمل على تطبيقها في المحيط من حول التلميذ إذ تفتقر هذه المؤسسات النموذجيّة إلى أبسط سبل تطبيق ما يدرّس داخل قاعاتها تطبيقا ينمّي وعي المتعلّم وافتخاره بانتمائه.
يحوّل اختفاء مثل هذه الفضاءات وانعدام جميع الأنشطة التربوية التثقيفية التلميذ إلى آلة معرفية وعلمية وفي ذلك تعدٍ صارخ وظالم بحق هذه الفئة الممتازة والقادرة على العطاء الشامل فهي فئة تحتاج منا الرعاية والاهتمام المادي والمعنوي, العلمي والنفسي حتى تقدم لنا أفضل ما لديها من قيم ومعارف وممارسات حضارية. يحتاج المتعلم في المؤسسة النموذجية إلى المزيد من التفهم والدعم والدفع حتى يبرز طاقاته الإبداعية والمعرفية وحتى يشعَّ في جميع أبعاده.
فكيف تضمن هذه المعاهد النموذجية مستقبل وآفاق تلامذة اجتهدوا وسهروا الليالي ليحققوا حلم الالتحاق بصفوفها وهي لا توفر لهم ما يطور قدراتهم في غير العلوم النظرية والتجريبية؟ وكيف نأمل في تكوين نخبة نموذجية من دون توفير المحيط النموذجي الذي سيحتضنها؟
نحتاج معاهد نموذجية في مخابرها ومدرّسيها وبرامجها، نعم. ولكن نحتاج أن يكون التعليم النموذجي تعليما يصنع الإنسان وينمي الانتماء وهذا ينقصنا ويجب أن يتطور وأن ننشط في المسرح المدرسي وأن تكون لنا قاعة موسيقى. نحتاج أن نكون في معاهد نموذجية في الثقافة والعلم.
وهذا لن يتحقق ما لم يتم التفكير عند بناء هذه المعاهد في الفضاءات الخضراء التي يكون من ضمن الدروس تعلم كيفية العناية بها وتخصص خضرواتها لتموين مطعم المعهد. وأذكر هنا أن المدارس سابقا كانت تضم هذا النشاط وغيره من الأنشطة الحرفية و كان من الخطأ حذفها من برامج التدريس و يجب أن تعود لتدرس وتكون المعاهد النموذجية أول من يستعيدهاز
كما أنه لن يتحقق ما لم يتم التفكير عند بناء تلك المعاهد وتأثيثها في بناء قاعات مخصصة للمسرح وأخرى للموسيقى وتوفير ما يلزمها من معدات وآلات بما يبرز العناية بالثقافة ويوفر أفضل ظروف لتعليم موادها.
“