السير حول ساحة عبد الحميد كرامي في طرابلس، والمشهورة أيضاً باسم ساحة النور، يرافقه تبدّل الروائح الشهية، وتجمّعات الذين بقيَوا برغم المطر. في كل نقطة قصصٌ متشعبة الأحداث تشترك بحبكة واحدة: المطالبة بحقوقنا كمواطنين.
القلق من حبة بنادول!
مع بدء هطول الأمطار، نزلت المأكولات الشتوية على “menu” أكشاك الساحة الشمالية، في مقابل تراجعِ عدد الناس هرباً من البللِ المُباغت. كلّ خطوتَين “أكلةٌ” مختلفة. على الرغم من منافسة عرانيس الذرة المسلوقة والبوشار والشمندر له، يبقى الكعك الطرابلسي الأكثر انتشاراً بين الأكشاك، والأكثر جذباً للمشاركين في الحراك.
من طلعة الرفاعية في الأسواق القديمة لمدينة طرابلس، نقل قاسم الحراش كشكه إلى ساحة النور، ليواكب مكان تمركز زبائنه الجديد. “إذا لم أُعط والدتي 20 ألف ليرة لبنانية كل يوم، لا يمكننا تأمين الطعام”، يُخبرنا قاسم بذلك بعدما تحمّس للحديث وكلّفَ رفيقه الاهتمام بتقطيع الشمندر وبيع الزبائن. “يعتريني القلق إذا ما احتاجت والدتي (68 عاماً) أو والدي (71 عاماً) حبّة بنادول، لذلك أنا لست هنا كبائع فقط بل للمطالبةِ بحقي وحق عائلتي بضمان صحي”. نسأله عن سنّه فيقول 36 عاماً ويضيف “لكنّ الزواج حُلم مستحيل في مثل هذه الظروف”.
ألمٌ مُمَوّهٌ بالضَحِك
وراء كشك قاسم “قعدة عائلية” وضحكاتٌ عالية. تتصدّرُ أم عبد الكريم الحلقة المؤلفة من خمسة عشر شخصاً بين كبار وصغار. في الوسط أربعة نراجيل. قرّر المدخنون من بينهم استبدال “رؤوس المعسّل” الكبيرة بـ”رؤوس” صغيرة كنوع من التقشف بسبب ارتفاع سعر المعسّل وضيق الأحوال المادية. منذ اليوم الثالث لانطلاق الاحتجاجات المطلبية، اختارت الأسرة زاوية “استراتيجية” ثابتة لها بالقرب من دكّان بوظة بشير حيث تحميهم شرفات المبنى من المطر. تأتي أم عبد الكريم مع أبنائها وبناتها وأزواجهم وأحفادها يومياً سيراً على الأقدام من ساحة النجمة التي تبعد حوالى سبع دقائق عن ساحة النور. يبدأ نهارهم عند العاشرة ولا ينتهي قبل منتصف الليل. يصلون فتجلس الأم في مكانها طيلة النهار، بينما يشارك أبناؤها في الهتافات وسط الساحة ثم يستريحون بالقرب منها بين الحين والآخر.
عندما يعلم الحاضرون بوجود صحافة، يتناوبون بشكل سريع للحديث عمّا يحملون من أوجاع حقوقية تراكمت لسنوات وأثقلت قلوبهم وعقولهم. استهلكت الخيبات المتلاحقة ملامح الحزن التي يمكن أن تظهر عليهم فاستنجدوا بصيحات الضحك بدل أنين الدموع. هكذا، يتحدّثُ عبد الكريم عن الدَين الذي يستمر في التراكم “فوق رأسه” لأنّ سيارة الأُجرة، التي استأجرها بدوره من مالكها، متوقفة عن العمل حالياً بسبب الأوضاع. تقطع والدته حبل كلامه بصوت مرتفع لتضيف معلومة تعتبرها غاية في الأهمية: “يدفع إيجارها خمسة وعشرين ألف ليرة لبنانية باليوم”، وتفتح عينَيها واسعاً كما لو أنّها ذكرت مبلغاً خيالياً.
يستلم عبد الكريم زمام الحديث من جديد رامياً أحداثاً بشكل متقطّع تصبُ في خانة واحدة “نحنا جماعة متروكين هيك، كنّا غشما مرة انتخبنا الميقاتي ومرة الحريري بس ما حدا عملنا شي”. لا داعٍ هنا ليأخذ الحوار شكل السؤال والجواب، سيلٌ من الذكريات والوقائع الحزينة مرّت بها هذه الأسرة. “هاجر اثنان من أشقائي في البحر بصورة غير شرعية ووصلا إلى ألمانيا، تحسّنت ظروفهما قليلاً ولكنهما حتى هذه اللحظة يسددان المبلغ الذي استداناه لدفع تكاليف السفر”، يسرد عبد الكريم ذلك قبل أن يؤشّر بيده نحو زوجته الحامل بالشهر الثامن “سأُطلق على ابني إسم ثائر”. ماذا عن دفع تكاليف الولادة في المستشفى؟ يتدخل إبن خالته ليجيب “هلأ ما في شي بيكلِّف، منفوت عالمستشفى بالقوة”.
بموازاة أحاديث الكبار، أنشأ الأطفال عالماً خاصاً بهم. يتوّلى كل واحد منهم رسم العلم اللبناني على يد الآخر أو على وجهه، طفلتان منهم ترتديان بدلة الجيش اللبناني، يرددون شعارات حفظوها من الساحة مثل المطالبة بإسقاط النظام. تفرغ عيونهم من أي إجابة عندما يُسألون ماذا تعني هذه العبارة، فتسعفهم وشوشات الأم “قولوا بدنا نسقّط الدولة كلها”.
تتدخّل هنا “كبيرة العيلة” – الجدة وتلفتُ إلى أهمية زيادة تنظيم الإحتجاجات وتوحيد المطالب “حاج كل مين بيحكي من راسو”.
“نعيشُ بالدَين”
بينما يلعب أحفاد أم كريم، يجلس محمود عكاري (13 عاماً) على بعد أمتار منهم على كرسي صغير وراء براد ملأه بقناني المياه. يأتي من التبانة في بوسطة يقودها إبن عم والده ليبيع المياه إلى المحتجين. يشتري صندوقَين من قناني المياه بـ 3000 آلاف ليرة ويبيع القنينة بـ 500 ليرة، هكذا يضمن ربحاً بحوالى الـ 15000 ليرة لبنانية في اليوم. يعطي محمود غلّة النهار إلى والده الذي بدوره يعطيه ألفَي ليرة كـ”خرجية”. اضطر والده منذ شهرين أن يغلق مطعم الفلافل “منذ ذلك الوقت نعيش بالدين”، يقول محمود ويشير إلى أن والده قرّر إنشاء بسطة لبيع الفلافل في ساحة النور. يتمنى أن تنتهي الإحتجاجات بعد أن تحقق أهدافها وتأتي بنتائج ملموسة لأنه “يريد أن ينهي دراسته وأن يجد وظيفة لا أن يشحد”. يبتسم فيحاصر خدّاه عينيه الصغيرتين ناهياً حديثنا معه “اشتقت إلى مدرستي في الملولة دوّار أبو علي”.
احتلال بلدية طرابلس لساعة
خطفت حركة احتلال بلدية طرابلس الأضواء من تظاهرة المدينة، وشدت الإنتباه من ساحة النور إلى المبنى البلدي في منطقة التل. فقد دخل نحو أربعين ناشطاً إلى البلدية وطردوا الموظفين من مكاتبهم. “تزعم هؤلاء ربيع الزين وقام بتسجيل فيديو من البلدية معلناً العصيان المدني وقال: “غداً عند الساعة السادسة والنصف صباحاً سنكون عند مدخل البلدية وسنمنع أي موظف من الدخول لأننا مواطنون لبنانيون وعليهم أن يحترموا خيارنا”.
الوقفة الاحتجاجية استمرت حوالى الساعة، وقد لاقت إعتراضات من عدد من الشخصيات والجمعيات المنظمة للتحركات في ساحة عبد الحميد كرامي. فقام وفد من حراس المدينة بزيارة البلدية مستنكرين ما حصل، ومعتبرين أنّ ما جرى لا يمثّلهم.
وفي حديث للمفكرة القانونية، قال رئيس بلدية طرابلس رياض يمق أنّ المحتجين دخلوا بطريقة سلمية، مشيراً في الوقت نفسه إلى أنّ العمل الإعتيادي متوقف منذ بداية الحراك في البلدية ما عدا أعمال الطوارئ. وأضاف يمق أنّ اليوم هطلت الأمطار بغزارة في طرابلس، متسائلاً ماذا كان سيجري لو أنّ فرق الطوارئ لم تكن متواجدة على الأرض في الأحياء الأكثر فقراً تحديداً، حيث تطوف المياه في مثل هذه الظروف بسبب البنى التحتية. ولفت يمق إلى أنّ “العمل عاد إلى طبيعته في البلدية بعد هذه الحادثة”.
وبعد مُضيّ ساعات على انتهاء الوقفة، أصدر الزين بياناً تراجع فيه عمّا ورد على لسانه في الفيديو وتمّ إلغاء الوقفة أمام البلدية يوم غد.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.