استمعت المحكمة الدستورية العليا يوم السبت الموافق 4/11/2016، لمرافعات المحامين في الدعوى المقامة للطعن على عدم دستورية المادة 8، 10 من قانون التظاهر رقم 107 لسنة 2013. وقررت المحكمة حجز الدعوى للحكم بجلسة 3/12/2016. جدير بالذكر أن القانون المطعون عليه الآن، والذي أصدره الرئيس المؤقت عدلي منصور أثناء فترة توليه للحكم قد ألغى قانون التظاهر القديم والصادر رقم 14 لسنة 1923.[1] ومن الملفت أن كلا القانونين الجديد والقديم قد صدر بعد تحولات هامة في الحياة السياسية المصرية. فالقانون الملغى صدر عام 1923 بعد إقرار الدستور المصري الأول وبعد ثورة 1919. والقانون الجديد صدر في نوفمبر 2013، بعد أن شهدت مصر ثورة25 يناير وموجتها في 30 يونية. فكلا القانونين صدر عقب واقع دستوري جديد، وبعد ثورات شعبية ذات مشاركة واسعة. ومن باب المفارقة أن كلا القانونين جاء مخيباً لطموحات قطاعات واسعة من الشعب المصري، كما جاء كلا القانونين مشوباً بعيوب جوهرية تطعن في دستوريتهما. فالقانون المُلغى أقرّ البرلمان المصري عام 1924 بضرورة إلغائه، على أساس أنه وغيره من قوانين المطبوعات والتجمهر والإتفاقات الجنائية قد وضعتها حكومات وصفها البرلمان في ذلك الحين بأنها استبدادية مسيرة بيد أجنبية.[2] ولكن للظروف السياسية التي كانت تشهدها البلاد في ظل الملكية تم حل البرلمان قبل أن يقوم بتعديل هذا القانون، وورثه المصريون على مدار عقود طويلة وظلّ يحكم علاقة الحكومات المتعاقبة مع قوي المعارضة السياسية على الرغم من إقرار البرلمان المصري بغرفتيه في ذلك الحين بعدم دستوريته.
قانون 2013 أكثر تقييدا من قانون الاحتلال الانجليزي
في ظل رغبة النظام السيطرة على الحياة العامة بعد 30 يونية 2013، صدر قانون التظاهر مناهضا للتطور الدستوري الذي شهدته الوثائق الدستورية بعد الثورة والتي نصت على حق المصريين في تنظيم الاجتماعات العامة، والمواكب والتظاهرات، وجميع أشكال الاحتجاجات السلمية، بناءً على إخطار[3]. فلم يلتزم المشرع بهذه القيود الدستورية واتخذ من القانون 14 لسنة 1923 نبراساً له ودليلاً بل وزاد من القيود التي كانت واردة فيه، متجاهلا بذلك وما شهدته الحياة السياسية والدستورية من تطور خلال العقود التسعة الماضية. وفي معرض ذلك، غضّ المشرع الطرف عن واقعة صدور القانون القديم بكلّ هذه العيوب في ظلّ الاحتلال الإنجليزي لمصر. فبعد مقارنة بين القانونين، نجد أن القانون الجديد والذي تنظر المحكمة الدستورية في مدى دستوريته جاء أكثر تقييدا لحق التظاهر، وذلك من عدة أوجه أبرزها الآتية:
من حيث لزومية وأسلوب التقدم بالإخطار:
كان القانون السابق يكتفي فيه المشرع بإخطار المحافظة أو المديرية ولم يشترط إبلاغ الشرطة إلا في حالة إقامة التظاهرة أو الإجتماع خارج إطار المحافظة التي يسكن بها منظمو الإجتماع أو التظاهرة، بينما في القانون الجديد أوجب على منظمي التظاهرة أو الإجتماع إخطار قسم الشرطة في كافة الأحوال.
كيفية تقديم الأخطار:
في القانون الملغى، لم يحدد المشرع طريقة لإخطار الإدارة، بينما في القانون الجديد اشترط المشرع أن يكون الإخطار كتابةً وأن يسلم باليد أو عن طريق إنذار على يد محضر.
موعد تقديم الإخطار:
نص القانون الملغى على أن يتم الاخطار قبل عقد الإجتماع أو الموكب أو التظاهرة بثلاثة أيام على الأقلّ. ولكنه لم يضع حداً أقصى لهذه المدة في حين وضع القانون الجديد حداً أقصي وحدده بخمسة عشر يوماً وهو الأمر الذي يعد تقييدا للحق في التظاهر باعتبار أن الدعوة لمظاهرة كبيرة، والتجهيز لها يأخذان وقتا من التنظيم أكثر بكثير من خمسة عشرة يوما.
ما يجب أن يتضمنه الإخطار من بيانات ومعلومات:
بينما قصر القانون الملغى هذه المعلومات على تحديد زمان ومكان التظاهرة أو الإجتماع وبيان الغرض منه سواء كان انتخابيا، أو محاضرة أو مناقشة عامة، وبيانات الداعين للتظاهرة أو الاجتماع، فان القانون الجديد أضاف إلى هذه الشروط، تحديد خط سير التظاهرة وموعد بدئها ونهايتها مع تحديد المطالب والشعارات التي يرفعها المشاركون في أي منها.
سلطة الإدارة في إلغاء التظاهرة أو الاجتماع:
في الواقع لم يختلف القانون الملغى عن القانون الطعين في هذا الوجه حيث أعطى كلا منهما للإدارة الحق في إلغاء التظاهرة أو الإجتماع. ففي حين أجاز القانون الملغى للمحافظ أو المدير أو لسلطة البوليس في المراكز منع الإجتماع إذا رأوا أن من شأنه أن يترتب عليه إضطراب في النظام أو الأمن العام، بسبب الغاية منه أو بسبب ظروف الزمان والمكان الملابسة له أو بأي سبب خطير غير ذلك، فان القانون الجديد قد أجاز لوزير الداخلية أو مدير الأمن المختص في حالة حصول جهات الأمن – وقبل الميعاد المحدد لبدء الإجتماع العام أو الموكب أو التظاهرة – على معلومات جدية أو دلائل عن وجود ما يهدد الأمن والسلم، أن يصدر قراراً مسبباً بمنع الإجتماع العام أو الموكب أو التظاهرة أو إرجائها أو نقلها إلى مكان آخر أو تغيير مسارها. ويُلاحظ أن كلا النصين قد أعطى صلاحية واسعة، لقوات الشرطة لمنع التظاهرة أو الإجتماع، مما يزيد من السلطة التقديرية لجهة الإدارة وهو ما يخلّ بالحق ويهدره.
كل ذلك بالإضافة إلى تغليظ العقوبات في القانون الجديد والمغالاة فيها، بما لا يتناسب مع طبيعة الجرائم المترتبة على مخالفة أحكام القانون بأي شكل من الأشكال.
التوسع في تطبيق أحكام القانون لمصادرة المجال العام:
على الرغم من سريان القانون 14 لسنة 1923 لعقود متتالية بأحكامه المعيبة، فإنه خلال آخر عشر سنوات من حكم نظام مبارك الذي أطاح به المصريون، لم يتصل بعلمنا إلا حالات محدودة تمت إدانتها بحكم نهائي بموجب أحكام هذا القانون. إلا أنه وبعد صدور المرسوم بقانون 107 لسنة 2013 أخذ الرأي العام المصري علما بآلاف المحبوسين والمدانين بموجب أحكام هذا القانون في فترة زمنية لا تتجاوز الثلاث سنوات. طبقا لتقرير أعدّه مركز دفتر أحوال[4]، فانه منذ تطبيق قانون التظاهر خلال الفترة بين (25 نوفمبر 2013 حتى 24 سبتمبر 2016)، تم تسجيل وأرشفة 37,059 تحرك أمني أو قضائي ضد أشخاص (سواء تم ضبطهم أو مطلوبين ضبط وإحضار) على خلفية تطبيق القانون في جميع محافظات الجمهورية وذلك عبر 301 دائرة قسم شرطة مختلفة، بينهم 19,389 حالة "قبض" وإحالة للنيابة و3,398 حالة "استيقاف ثم صرف" دون تحرير محضر و 8,872 حالة "ضبط وإحضار تم تنفيذه" بالقبض على الشخص المطلوب وإحالته للنيابة و5,400 قرار "ضبط وإحضار" لأشخاص غير معلوم تم تنفيذه أم لا[5].
يوضح العرض السابق كيف تم استخدام القانون لمصادرة الحياة العامة. فمن ناحية، جاء مكبلا للحق في التظاهر بكل هذه القيود رغما عن الدساتير المصرية والتي شهدت تطورا كبيرا في تنظيم هذا للحق بعد ثورة يناير.
ويسجل أن القانون طبق منذ اللحظة الأولى على شكل إنتقائي، يؤشر على نية إستخدامه في مواجههةالقوي الديمقراطية. فالتطبيق الأول للقانون استهدف المظاهرة التي دعا إليها مجموعة لا للمحاكمات العسكرية، وتم تطبيق القانون عليها رغما عن أن الدعوة لها كانت سابقة لإصدار القانون والعمل به. صدر القانون يوم 24/ 11/ 2013 على أن يعمل به من اليوم التالي الموافق 25/ 11/ 2013 والتظاهرة كان مدعواً لها في وقت سابق على إصدار القانون على أن تكون يوم 26/ 11/ 2013، وهو اليوم التالي لإصدار القانون وأول يوم للعمل به. ولم تراعِ وزارة الداخلية أن الدعوة لهذه المظاهرة كانت سابقة على إصدار القانون، وأن تطبيق نصوص القانون تلزم منظمي التظاهرة بإخطار الوزارة قبل يوم تنظيمها بثلاثة أيام عمل على الأقل، وهو الأمر الذي لم يكن ممكناً حصوله في هذه الحالة. وتم القبض على المشاركين في هذه الدعوى وصدرت بحقّهم أحكام تراوحت بين ثلاث وخمس سنوات.
إهدار نصوص الدستور وتحويل الإخطار إلى ترخيص
نص الدستور الحالي على الحق في التظاهر ولم يحِل تنظيمه للقانون كما كان في السابق. بل نصّ الدستور على أن هذا الحق يمارس من خلال الإخطار، وهو ما فرض على المشرّع قيوداً أكبر فيما يتعلق بتنظيم الحقّ على عكس ما نصت عليه الوثائق الدستورية السابقة. إلا أن المشرّع لم يحترم ذلك وأصدر قانونا أحال بشكل عملي الإخطار إلى ترخيص، حيث أعطي الحق لوزارة الداخلية في الإعتراض على تسيير المظاهرة وإلغائها، ومن ناحية أخرى، تعرض على إثره كل هذا العدد من الإيقاف والعقوبات الغليظة. وهذه الأعداد لا تفصح فقط عما تضمنه التشريع الطعين من نصوص تخلّ بالتوازن الواجب بين حماية حقوق وحريات الأفراد وحماية المجتمع، بقدر ما تفصح عن الإرادة السياسية للنظام الحاكم في تكبيل وتكميم أفواه المعارضين والزج بهم في السجون بلا تمييز.
لم يبق لكافة القوى الديمقراطية سوى انتظار حكم المحكمة الدستورية العليا التي يعلّق عليها الجميع آماله لإنهاء العمل بهذا القانون الذي وضع على إثره مئات المواطنين من المعارضين للدولة في سجونها.
[1] القانون رقم 14 لسنه 1923 بشأن تقرير الأحكام الخاصة بالاجتماعات العامة وبالمظاهرات في الطرق العمومية
[2] فاروق عبد البر، دور مجلس الدولة المصري في حماية الحقوق والحريات العامة الجزء الاول، ص 328 -قرر البرلمان المصري بجلسة 1/7/1924 الغاء القانون رقم 14 لسنة 1923،
[3] المادة 73 من الدستور المصري المعدل والصادر في يناير 2014
[5] مع مراعاة أن الأرقام الواردة في التقرير لا تمثل إجمالي عدد المحبوسين خلال فترة زمنية معينة على خلفية نفس الوقائع، وإنما تعتبر كحدث لحظي وليس مستمراً، ومع مراعاة تكرار أشخاص تم اتهامهم أو ضبطهم عدد من المرات بنسبة قد تتراوح بين 2.5 حتى 5% من إجمالي العدد.