«Il faut penser comme moi pour être sauvé. Voilà le dogme affreux qui désole la terre»
Jean-Jacques Rousseau
في 24 أيلول 2018، أقرّ مجلس النواب مشروع قانون المعاملات الالكترونية والبيانات ذات الطابع الشخصي (قانون المعاملات الالكترونية). وفيما أمكن تسجيل تحفظات عدة على النص، فإننا سنكتفي هنا بإبداء ملاحظاتنا بشأن المواد المؤثرة في حرية التعبير. وقد وردت هذه المواد ضمن باب مخصص للجرائم المتعلقة بالأنظمة والبيانات المعلوماتية، بحيث أضيف النشر بالوسائل الإلكترونية إلى الوسائل الممكنة لإرتكاب جرائم المطبوعات. كما عدّل القواعد الإجرائية المتعلقة بها.
وفي السياق نفسه، قدّم النائب جورج عقيص مؤخرا اقتراحي قانون يرمي الأول إلى تعديل المادة 209 من قانون العقوبات التي تحدّد وسائل النشر لتشمل التدوين الإلكتروني، والثاني يرمي إلى تعديل بعض مواد قانون المطبوعات ليشمل منع التوقيف الإحتياطي في الجرائم المرتكبة عبر التدوين الإلكتروني، مقابل تشديد العقوبة برفع الغرامة المتوجبة على مرتكبيها.
كما تمت في أوائل 2017 إحالة اقتراح قانون الإعلام[1] من لجنة الإعلام والإتصالات إلى لجنة الإدارة والعدل حيث لا يزال قيد الدرس. ويتضمّن الاقتراح أيضاً، باباً مخصّصاً لتنظيم “جرائم الإعلام”، وآخر مخصصاً ”لمسؤولية وأصول المحاكمات”.
من هنا، كان لا بدّ من التوقّف عند التشريعات هذه، التي أقرّت منها، والتي لا زالت قيد الدرس، بغية الإضاءة على مقاربة المشرّع اليوم لحرية التعبير تحديداً من باب وضع القيود عليها (الجريمة في معرض التعبير)، وما إذا كان هنالك من إصلاحات مرتقبة في هذا المجال. فما الذي يعتبره المشرّع محظراً عند التعبير عن الرأي؟ وما هي صلاحيات النيابة العامة عند الملاحقة؟ وما هي ضمانات المدعى عليه في “جرائم التعبير”؟ وما هي العقوبات التي قد يتعرّض لها؟
يعمد المقال الآتي إلى الإجابة عن هذه الأسئلة إنطلاقاً من دراسة اقتراح قانون الإعلام وخصوصاً التباين بين النسخة الأساسية المقدّمة إلى البرلمان (الاقتراح الأساسي) والنسخة التي أفضت إليها أعمال لجنة الإعلام والإتصالات (الاقتراح المعدّل)، ومقاطعة النص مع بعض مواد قانون المعاملات الالكترونية المقرّ حديثاً من جهة واقتراحي قانون النائب عقيص من جهة أخرى، التي تعطي جميعها فكرة عن تعاطي مجلس النواب (من نواب أفراد، ولجان، وهيئة عامة) اليوم مع حريّة التعبير. كما يستند المقال، إلى جانب دراسة النصوص، إلى مقابلات أجريت مع محامين أخصائيين شاركوا في صياغة مسودات القوانين، وواكبوا أو لا يزالون أعمال اللجان النيابية التي أفضت في أغلب الأحيان إلى تعديل أو تشويه روحيتها الأساسية. وقابلت “المفكرة القانونية” في هذا الإطار كل من المحاميين الأستاذين طوني مخايل، وهو باحث ومسؤول عن قسم “الميديا مونيترينغ” في جمعية “مهارات”، والذي شارك في وضع المسودة الأساسية لاقتراح قانون الإعلام، ود. شربل القارح، وهو رئيس مركز المعلوماتية في نقابة المحامين في بيروت، والذي شارك في وضع المسودة الأساسية لقانون المعاملات الالكترونية وتولى تمثيل نقابة المحامين في أعمال اللجان البرلمانية التي أفضت إلى إقراره.
على الرغم من إحراز بعض التقدم من خلال هذه النصوص، تبقى الصورة قاتمة. فيتأتى عن دراستها والمقارنة بينها ميل المشرّع الأكيد إلى تقييد حرية التعبير. ويجري ذلك أولاً من خلال السياسة المعتمدة في تجريم بعض أشكال التعبير عن الرأي، وثانياً من خلال هشاشة ضمانات المحاكمة العادلة في ملاحقة الجرائم المتصلة بحرية التعبير، وأخيراً من خلال عدم تناسب العقوبة المتأتية عن هذه الجرائم مع الفعل موضوع التجريم.
في توسيع دائرة التجريم
تظهر حماية حرية التعبير أهمية مبدأ شرعية الجرائم. وبمعنى آخر، تفرض “حرية التعبير” والتي هي المبدأ، ومن ركائز أي مجتمع ديمقراطي، حماية أي تعبير عن الرأي لا يحظره القانون، مهما كان هذا التعبير “صادماً، أو مقلقاً بالنسبة للدولة أو لشريحة من سكّانها”[2].
من هنا، تتجلى أهمية وضع المشرّع حدوداً دقيقة لما يحظره القانون، صونا لحريّة التعبير، ومنعا للتعسّف في قيدها.
وإذا كان المشرّع قد وسّع مفهوم وسائل النشر من خلال قانون المعاملات الالكترونية، معززاً مبدأ شرعية الجرائم، إلا أنه، وبالنظر إلى السياسة التي يعتمدها في تجريم بعض أفعال التعبير، يظهر ميله إلى تضييق الخناق على “حرية التعبير”، أو أقلّه ترك الباب مشرّعاً لذلك. ويتجلّى ذلك من خلال أمرين: توسيع مضمون بعض الجرائم واستخدام التعابير الفضفاضة في تحديد الجريمة، وإضعاف بعض الأسباب المانعة للعقاب.
في توسيع مفهوم وسائل النشر وتعزيز مبدأ شرعية الجرائم
تمّ اليوم توسيع مفهوم وسائل النشر التي تعدّدها المادة 209 عقوبات. فعدّلت المادة 118 – البند 3 من “قانون المعاملات الإلكترونية” المادة المذكورة موسّعةً وسائل النشر لتضمّ إليها “الوسائل الإلكترونية”. وكان هذا التعديل مرتقباً من باب إحترام المبدأ الجوهري في قانون العقوبات “لا جريمة من دون نص”، لإيجاد سند شرعي لملاحقة المدوّنين على الصفحات الإلكترونية وصفحات التواصل الإجتماعي سنداً لجرائم القدح والذم.
وتجدر الإشارة إلى أنه وفي الإتجاه نفسه، تضمّن اقتراح قانون الإعلام توسيعاً لمفهوم وسائل النشر مضيفاً إلى جانب تلك المعدّدة في المادة 209 عقوبات “أية وسيلة نقل إلى الجمهور أو فئة محددة منه بالوسائل الكهرمغنطيسية أو الألكترونية أو الرقمية وغيرها من وسائل النشر” (المادة 90). كما أضيفت إلى هذا الاقتراح مادة (129) تنص صراحة على تطبيق “أحكام هذا القانون على جرائم الإعلام المرتكبة بواسطة الاعلام الإلكتروني”.
ويلتقي المقترح هنا مع اقتراح القانون المقدّم من النائب جورج عقيص، الذي أضاف بنداً رابعاً إلى المادة 209 توسّع وسائل النشر لتضمّ: “٤- التدوين الالكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي المعدّ للتداول بين العموم، حُفظ أو تمّ مسحه عن الموقع الخاص بعد نشره”.
ومع إقرار قانون المعاملات الالكترونية، لم يعد من حاجة لاقتراحي قانون الإعلام والنائب عقيص في هذا الخصوص.
في توسيع مضمون بعض الجرائم واستخدام التعابير الفضفاضة في تحديد الجريمة
من دراسة اقتراح قانون الإعلام وتعديلات لجنة الإعلام والإتصالات عليه، تتأتى النتائج التالية:
- من اللافت أن اقتراح قانون الإعلام تضمن فصلاً لمعاقبة “التحريض على العنصرية والتمييز وتبرير الجرائم”. فتنص المادة 98 منه على أن: “كل من استعمل إحدى وسائل الإعلام المنصوص عنها في هذا القانون للتحريض على التمييز العنصري أو على الكراهية أو العنف ضد الأشخاص بسبب جنسهم أو أصلهم أو لونهم أو ميولهم أو إنتمائهم العرقي أو الديني أو الجنسي، يعاقب بالغرامة من عشرة أضعاف إلى عشرين ضعفا من قيمة الحد الأدنى الرسمي للأجور”. وإن كان هذا الفصل يشكل إضافة لافتة على التشريع الحالي، إلا أن الإشكالية الأساسية تكمن في غياب أي تعريف في النص لمفهوم الـ”كراهية” تحديداً، ممّا قد يشكّل إشكالية على صعيد حماية حريّة التعبير. فحدود التجريم قد تبدو فضفاضةً جداً في صيغة النص الحالية.
- بالنسبة إلى جريمة القدح والذم والتحقير بمقام رئاسة الدولة، أفضت أعمال اللجنة إلى إعادة تجريم هذه الأفعال عندما تساق بحق رئيس دولة أجنبية (المادة 103 –اقتراح معدّل) بينما كان اقتراح القانون الأساسي قد حاول تجاوز ذلك، مما يعني إعادة الحال إلى ما هي عليه اليوم (المادة 23 من المرسوم الإشتراعي رقم 104/1977).
كما ذهبت في الإتجاه نفسه إضافة جريمة القدح والذم والتحقير بشخص أحد السفراء أو أحد رؤساء البعثات الدبلوماسية المعتمدة في لبنان (المادة 104 – اقتراح معدّل)، مما يوسّع من قاعدة التجريم المعتمدة حتى في التشريع الحالي، ويشكّل تضييقاً غير مفهوم لحريّة التعبير.
- أفضت أعمال اللجنة إلى إعادة تجريم نشر إحدى وسائل الاعلام ما يتضمن تحقيراً “لإحدى الديانات المعترف بها في لبنان أو ما كان من شأنه إثارة النعرات الطائفية أو العنصرية أو تعكير السلامة العامة أو تعريض سلامة الدولة أو سيادتها أو وحدتها أو حدودها أو علاقة لبنان الخارجية للمخاطر” (المادة 105 – اقتراح معدّل).
وكان اقتراح القانون الأساسي قد حاول تجاوز ذلك، مما يعني إعادة الحال إلى ما هي عليه اليوم في هذه النقطة أيضاً (المادة 25 من المرسوم الإشتراعي رقم 104/1977). وتجدر الإشارة إلى أن اللجنة أضافت إلى هذا النص ما “من شانه الترويج للعدو الإسرائيلي”.
ومن اللافت أن المقترح في صيغته الأساسية حاول – في معرض تشديد عقوبة نشر الأخبار الكاذبة– إلغاء عبارة “ما من شأنه” الجد فضفاضة والإستعاضة عنها بـ”التسبب” بتعكير السلام العام إلخ… وهي عبارة أكثر دقة إذ تشترط حصول نتيجة مادية للفعل.
- أما في ما يحظر نشره، أفضت أعمال اللجنة[3] إلى إضافة حظر نشر “فحوى مذاكرات هيئات المحاكم ووقائع جلسات مجلس الوزراء ووقائع الجلسات السرية التي يعقدها المجلس النيابي أو لجانه، ويجوز نشر مقررات تلك اللجان وكذلك تقاريرها بعد إيداعها مكتب المجلس ما لم تقرر اللجنة خلاف ذلك”. ويشكّل ذلك قيداً غير مبرر لحرية التعبير خصوصاً في ظل تعارض حظر نشر وقائع جلسات مجلس الوزراء كافة، مع اقتصار منع الإطلاع في قانون الوصول إلى المعلومات (المادة 5) على “مداولات مجلس الوزراء ومقرراته التي يعطيها الطابع السري“. وسيؤدي إقرار اقتراح قانون الإعلام بصيغته الحالية إلى إلغاء التطوّر الذي أنجزه قانون حق الوصول إلى المعلومات في تعزيز مبدأ الشفافية خصوصاً في ما يتناول مداولات ومقررات مجلس الوزراء، معيداً الحال إلى ما هي عليه اليوم (المادة 12 من المرسوم الإشتراعي رقم 104/1977).
واللافت أن اقتراح القانون في صيغته الأساسية كان قد حظر نشر “المحاضر والمستندات والتسجيلات العائدة لإحدى الإدارات العامة مهما كان شكلها والمصنفة سرية إلا إذا حصل الكشف في سبيل المصلحة العامة” (مادة 63). إلا أن أعمال اللجنة أدت إلى إعادة استخدام العبارة الحالية أي الأوراق “العائدة لإحدى الإدارات العامة والموسومة بعبارة “سرّي“. وهنا تجدر الإشارة إلى أن عبارة “المصنفة سرية” تختلف عن مجرّد “الوسم بالطابع السري”. ففي الحالة الأولى يبدو الشرط موضوعياً مع إمكانية تفسير النص على أنه يشترط وجود سبب موضوعي يبرر السرية، بينما يبدو الشرط في الحالة الثانية بحت شكلي، يؤدي إلى توسيع قاعدة حظر النشر. كما ألغت اللجنة سبب تبرير نشر مستندات سرية “إذا حصل الكشف في سبيل المصلحة العامة” (مادة 63 من المقترح الأساسي).
والأهم أن إقرار اقتراح القانون في صيغته الحالية سيؤدي هنا أيضا إلى نسف المكتسبات المحقّقة من خلال قانون حق الوصول إلى المعلومات وإفراغه من مضمونه. ففيما كرس هذا القانون “حق كل شخص، طبيعي أو معنوي، (ب) الوصول إلى المعلومات والمستندات الموجودة لدى الإدارة والاطلاع عليها”، ولم يستثنِ من هذا الحق إلا ما عدده حصرا من “مستندات غير قابلة للاطلاع” (مادة 5)، يولي الاقتراح الجديد الإدارة امكانية استثناء أي مستند من خلال وصمه بعبارة “سرّي”، على نحو يشكل تراجعا واضحا عن الحق بالوصول إلى المعلومات.
تبقى الإشارة إلى أن اقتراح قانون الإعلام يضيف على التشريع القائم اليوم حظر نشر “صورة أي شخص مقيد اليدين أو معتقل أو مقاد إلى التحقيق أو المحاكمة من قبل السلطات المختصة”، ومعلومات عن “جرائم الاغتصاب أو التشهير بأسماء ضحايا هذه الجرائم أو كشف معلومات تمكن من التعرف إليها ما لم يتم الاستحصال على موافقة مسبقة من ذوي العلاقة”، ومعلومات عن “انتحار القاصر” و”عمليات التبني”.
في إضعاف بعض الأسباب المانعة للعقاب
بالنسبة لجريمة القدح والذم، يسجّل اقتراح قانون الإعلام تراجعاً في حماية الأفراد في حال تناول الذم موظفاً. فوفقاً لقانون العقوبات “في ما خلا الذم الواقع على رئيس الدولة يبرأ الظنين إذا كان موضوع الذم عملاً ذا علاقة بالوظيفة وثبتت صحته” (387 عقوبات). حوّل اقتراح قانون الإعلام (في صيغته الأساسية وأبقت اللجنة على ذلك) سبب التبرير هذا إلى مانع للعقاب كما أضاف شرطاً كي يتحقق منع العقاب وهو حصول النشر عن حسن نية. فتنص المادة 101-ب من اقتراح قانون الإعلام على أنه “لا يعاقب على الذم بحق الموظف العام أو الشخص الذي يقوم بخدمة عامة إذا حصل بحسن نية وكان لا يتعدى أعمال الوظيفة أو الخدمة العامة او العمل العام المشكو منه وبشرط أن يثبت المدعى عليه حقيقة الأفعال المسندة إلى المدعي (…)”.
من المهم هنا التوقف عند نقاط عدّة:
- أن الإضافة الأساسية التي حاول اقتراح قانون الإعلام الأساسي تحقيقها كانت توسيع دائرة الأشخاص المشمولين بمانع العقاب. فقد تمت إضافة مفهوم “الشخصية العامة” إلى جانب مفهوم الموظف العام. وعرّف النص الأساسي (المادة 58-د من المقترح الأساسي) الشخصية العامة بـ: “كل شخص طبيعي يتولى شأن قيادة الناس أو سياستهم أو إرشادهم أو العمل باسمهم في أمر من الأمور العامة سواء في مصلحة عامة شاملة أو مصلحة محلية محدودة وكل شخص تتصل طبيعة عمله بالرأي العام أو تصدر عنه تصرفات تنم عن رغبته في الظهور في المجتمع والتأثير فيه.” ويهدف التعريف هذا عملياً إلى حرمان رؤساء الأحزاب أو القادة السياسيين وبشكل عام قادة رأي ومشاهير في ميادين مختلفة من الادعاء ضدّ الانتقادات المحقة الموجهة لهم، وذات الصلة بالشأن العام، بحجة أنه ليس لهم وظيفة عامة. وبذلك، يتم تمييز هؤلاء عن الشخص “العادي” والذي “لا يسمح لمرتكب الذم (بحقه) … بإثبات حقيقة الفعل بموضوع الذم أو إثبات اشتهاره (لتبرير نفسه)”. وطبعاً تكمن أهمية توسيع مفهوم الشخصية العامة إلى تعزيز حرية التعبير، خصوصاً في وظيفة المساءلة والمحاسبة للأشخاص الذين لهم مكانة مؤثرة في الشؤون العامة.
ولكن الاقتراح كما نتج عن أعمال لجنة الإعلام والإتصالات عاد وألغى مفهوم “الشخصية العامة”. وألغاه من النص، وأعاد الصياغة التقليدية لقانون العقوبات (المادة 101) مع تعديل بسيط من “الشخص المكلف خدمة عامة” إلى “شخص يقوم بخدمة عامة”.
- كان الاقتراح في صيغته الأساسية قد أوجب على المحكمة إلزام الإدارة والجهات المعنية تقديم المستندات التي بحوزتها والتي تثبت صحة الفعل. إلا أن لجنة الإعلام والإتصالات حوّلت هذا الموجب إلى إمكانية خاضعة لاستنسابية المحكمة إذ أصبح نص المادة 101: “للمحكمة أن تأمر بإلزام (…)”.
ولا بد من لفت النظر إلى أن الاقتراح في صيغته النهائية أسّس لحماية إضافية للمدعى عليه في معرض إثباته للفعل موضوع الذم. فبإمكانه تقديم مختلف الأدلة إثباتا لحسن نيته، بما فيها المعطيات التي ترشح عن “خرق لسرية التحقيق أو المحاكمة أو أية سرية مهنية أو وظيفية” أخرى. فتنصّ المادة 101 (ب) منه على ما يلي: “للمدعى عليه أن يبرز أو يزود المحكمة بكل ما تقتضيه ضرورات الدفاع عن نفسه من عناصر إثبات لحقيقة فعل الذم الموجه إلى أحد الاشخاص المذكورين أعلاه، حتى إذا كان ذلك يؤدي إلى خرق سرية التحقيق أو المحاكمة أو أية سرية مهنية أو وظيفية، ودون أن يعرض هذا الأمر المدعى عليه إلى أية ملاحقة قضائية بجرائم مرتبطة بالكشف عن عناصر الإثبات المذكورة، إذا كان من شأن هذا الكشف أن يثبت حسن النية المدعى عليه أو حقيقة الأفعال التي نسبها إلى الشخص المذكور”. وكان الاقتراح في صيغته الأساسية قد ذهب أبعد من ذلك، بحيث كانت حيازة عناصر الإثبات هذه مبررة أيضاً في معرض إثبات حسن النية.
- أن لجنة الإعلام والإتصالات أبقت على إضافة المقترح الأساسي “حسن النية” في النشر كأحد شروط منع معاقبة فعل الذم بحق موظف عام، وألغت في الوقت نفسه تعريف سوء النية الذي كان يتضمّنه المقترح في صيغته الأساسية (المادة 62): “يعتبر النشر حاصلاً عن سوء نية إذا تم نشر الخبر مع العلم أنه غير صحيح أو كاذب. كما يعتبر النشر حاصلاً عن سوء نية إذا رفضت الوسيلة الإعلامية نشر الرد أو التصحيح أو عمدت إلى تكرار نشر الخبر بالرغم من ثبوت عدم صحته”. وكانت إضافة شرط “حسن النية” في النشر لتكون لها الأثر الإيجابي على صون حريّة التعبير، لو لم يكن شرطاً تراكمياً يضاف إلى شروط أخرى يقتضي توفرها جميعها لمنع العقاب. فإثبات صحة الفعل المسند إلى “الموظف” لا يكفي لتبرير مرتكب الذم ولا يعد قرينة على حسن نيته، إنما يتعين عليه أيضا إثبات حسن النية هذه. ومن شأن هذا الأمر أن يزيد من العبء المترتب عليه في هذا الخصوص لوقف الملاحقة ضده.
- وتبقى الإشارة ختاماً أن الأخطر يبقى في إعادة أعمال اللجنة لعقوبة الحبس في جرائم القدح والذم التي كان الاقتراح الأساسي قد حاول إلغاءها. وهذه نقطة نعود إليها في ما يلي.
في هشاشة ضمانات المحاكمة العادلة في ملاحقة الجرائم المتصلة بحرية التعبير
في صلاحية إنزال العقوبات الفورية في جرائم “التعبير” وصلاحيات النيابة العامة
يوسّع اقتراح قانون الإعلام حظر التوقيف الإحتياطي ليشمل جميع جرائم الإعلام (المادة 91) وليس فقط جرائم المطبوعات كما تنص عليه المادة 28 من قانون المطبوعات (104/1977) الحالية. ويأتي الحظر واسعاً جداً إذ ارتبط بـ”جميع جرائم الإعلام التي تتم بواسطة مختلف وسائل الإعلام المنصوص عليها في هذا القانون أياً كانت صفة أو مهنة الفاعل”. وفي الإتجاه نفسه قدّم النائب جورج عقيص اقتراحاً يرمي إلى تعديل المادة 28 نفسها. إلا أنه وعوض توسيع قاعدة حظر التوقيف الإحتياطي لتشمل جميع جرائم الإعلام أياً كانت الوسيلة، اقتصر التوسيع على “جرائم القدح والذم المرتكبة بوسائل النشر المنصوص عليها في الفقرة (4) من المادة 209 من قانون العقوبات” (كما عدّلها مضيفاً التدوين الالكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي). وتبيّن قراءة الأسباب الموجبة للاقتراح أن ذلك جاء من باب لجم “]ظاهرة[ كثرت مؤخراً ]وهي[ ملاحقة الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب تغريدات وتعليقات تتناول بعض المسؤولين اللبنانيين، حيث تمّ التعرض لهؤلاء عبر الملاحقة والاستدعاء والتحقيق، كما جرى توقيف بعضهم على خلفية تلك التغريدات والآراء الواردة على صفحاتهم الالكترونية”.
كما سعى اقتراح قانون الإعلام في صيغته الأساسية إلى تعزيز الضمانات الممنوحة للإعلاميين عبر الحدّ من صلاحيات النيابة العامة والضابطة العدلية. فنصّت المادة 65 منه على أنه: “لا يجوز للنيابات العامة أو الضابطة العدلية مباشرة أي تحقيق مباشرة مع المدعى عليه أو الإستماع إليه أو إحتجاز حريته في جرائم النشر وإنما فقط يمكنها الإدعاء عليه مباشرة أمام القاضي المنفرد الجزائي المختص”. كما سمحت المادة نفسها لكل شخص أحيل إلى المحاكمة بجرم من جرائم الإعلام التمثل بمحام ٍما لم تقرر المحكمة الإستماع إليه شخصياً، على نحو يؤدي إلى تحرير المدعى عليهم بهذه الجرائم من إلزامية الحضور في الحالات التي يتجاوز فيها الحد الأقصى للعقوبة السنة حبس. وجاء في الأسباب الموجبة أن “من شأن هذه الأصول أن تكفل حرية أكبر للإعلامي بعيداً عن الضغوطات والتهويلات التي قد تمارس عليه لإخضاعه أو ثنيه عن ممارسة عمله بإستقلالية”. إلا أن أعمال لجنة الإعلام والإتصالات أفضت إلى حذف هذه القواعد الحمائية وإعادة الحال إلى ما هي عليه اليوم.
أما قانون المعاملات الالكترونية، فحذا حذواً مختلفاً لجهة تنظيم صلاحيات النيابة العامة. فاعتبر رئيس مركز المعلوماتية في نقابة المحامين في بيروت د. شربل القارح، أن من المكاسب الأساسية التي حقّقها النص، وضع أطر واضحة لصلاحيات النيابة العامة في معرض الجرائم المرتكبة على الشبكة العنكبوتية. فنصّت المادة 126 منه المقرّة مؤخراً على التالي: “للنيابة العامة تقرير وقف خدمات إلكترونية أو حجب مواقع إلكترونية أو تجميد حسابات عليها بصورة مؤقتة لمدة أقصاها ثلاثين يوماً قابلة للتجديد مرة واحدة بقرار معلل، على أن ينقضي مفعول هذا الإجراء حكماً بانتهاء المهلة المحددة. لقاضي التحقيق أو للمحكمة المختصة الناظرة في الدعوى تقرير ذلك بصورة مؤقتة لحين صدور الحكم النهائي في الدعوى. كما للمرجع القضائي الرجوع عن قراره في حال توافر ظروف جديدة تبرّر ذلك. يكون قرار قاضي التحقيق والمحكمة بوقف خدمات الكترونية أو حجب مواقع إلكترونية أو تجميد حسابات عليها قابلاً للطعن وفق الأصول والمهل المختصة بقرار إخلاء السبيل”.
وعليه، وضع النص ضوابط زمنية لقرار النيابة العامة بحجب موقع إلكتروني، إذ جعله مؤقتاً بطبيعته، وألزم تعليل قرار تمديد مهلة الحجب. واعتبر رئيس مركز المعلوماتية في النقابة أن ذلك إيجابي إذ “كان بإمكان المدعي العام قبل القانون الجديد إتخاذ التدبير الذي يحلو له، كحجب موقع أو بوست وما إلى ذلك، والأخطر أنه كان له في الوقت ذاته أن يحفظ الملف. فأدى ذلك عملياً إلى حجب الكثير من المواقع التجارية نهائياً دون إعطاء مساحة لممارسة حقوق الدفاع والإستفادة من ضمانات المحاكمة العادلة. وفي ذلك مخالفة لمبدأ الفصل بين سلطتي الملاحقة والحكم”.
إلا أن هذه المادة قد تكون من أخطر المواد، إذ أن من شأنها تقويض حرية التعبير، والضغط على المواقع الإلكترونية من خلال سلاح العقوبة الفورية بقرار من النيابة العامة، وقبل أي محاكمة. واللافت هنا أن صلاحيات النيابة العامة أوسع بكثير من صلاحيات قاضي الحكم، إذ أن المادة 125 تمنح “المحكمة الناظرة في الدعوى بموجب حكمها النهائي وقف خدمات إلكترونية أو حجب مواقع إلكترونية أو إلغاء حسابات عليها” حصراً “إذا تعلقت بالجرائم المتعلقة بالإرهاب أو بالمواد الإباحية للقاصرين أو بألعاب مقامرة ممنوعة أو بعمليات الإحتيال الإلكتروني المنظّمة أو تبييض الأموال أو الجرائم الواقعة على الأمن الداخلي والخارجي أو المتعلقة بالتعدي على سلامة الأنظمة المعلوماتية كنشر الفيروسات”، فيما تبقى المادة 126 في ظاهرها مفتوحة، لا يحصر تطبيقها في إطار ملاحقة جرائم معينة. وقد يخفف من ذلك تفسير هذه المادة الأخيرة على أنها معطوفة على المادة التي تسبقها، بحيث لا تكون صلاحيات المدعي العام أوسع من صلاحيات قاضي التحقيق.
وما يزيد قابلية النص للإنتقاد هو إنتفاء التبرير لتوسيع صلاحيات النيابة العامة في هذا المجال. فقاضي الأمور المستعجلة هو الجهة المختصة بحسب قانون أصول المحاكمات المدنية لاتخاذ التدابير المستعجلة أو تلك الآيلة إلى إزالة التعدي الواضح على الحقوق أو الأوضاع المشروعة.
في انتفاء مبدأ القاضي الطبيعي
يشكّل مبدأ “القاضي الطبيعي” إحدى الضمانات الأساسية للحق بمحاكمة عادلة[4]. وهو مبني على المبدأ المزدوج القاضي بالمساواة أمام القانون والمحاكم. ولا تجوز ملاحقة أيّاً كان إلّا من قبل محكمة عادية، سابقة الإنشاء ومختصَة. من هنا، يُحرّم إنشاء محاكم طارئة أو استثنائية أو خاصة.
ويكتفي النظام الحالي اللبناني[5] بتحديد اختصاص “محكمة الاستئناف بالدرجة الأولى في جميع القضايا المتعلقة بجرائم المطبوعات”، ويتمّ تحديد الغرفة الناظرة في قضايا المطبوعات بقرار توزيع الأعمال الصادر عن وزير العدل. وتنتفي بوضوح المعايير الموضوعية في تحديد هذه الغرفة، وإذاً هويّة رئيسها، فيتمّ الإختيار بحسب شخص القاضي وليس بحسب اختصاصه، أو بحسب رقم غرفة محدّدة وثابتة تبني تخصصاً بشكل تراكمي. وفي ذلك انتهاك واضح لمبدأ القاضي الطبيعي، وتأسيس لمحكمة استثنائية.
لم يعمد أي من اقتراحات القوانين إلى معالجة هذه النقطة. يلحظ أن اقتراح قانون الإعلام في صيغته الأساسية كان اكتفى بجعل جرائم المطبوعات تخضع للأصول العادية على ثلاث درجات معتبراً في الأسباب الموجبة أن “من شأن هذا أن يعزز من ضمانات المحاكمة العادلة ويزيد من نسبة النقاش العام حول مفهوم حرية الرأي والتعبير ومداها”.
في عدم تناسب العقوبات المانعة للحرية مع فعل التعبير
يفضي التوجّه الحديث إلى تكريس مبدأ عدم تناسب العقوبات المانعة للحرية[6] مع فعل التعبير عن الرأي.
فهذا الفعل ليس فعلاً عادياً، بل هو يتعلّق بممارسة حرية من الحريّات الأساسية والشخصية للإنسان، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنظام الديمقراطي.
تبعاً لذلك، اعتمد المقترح الأساسي لقانون الإعلام مبدأ إلغاء عقوبة الحبس بالنسبة لجميع جرائم الإعلام. إلا أن الصيغة التي أفضت إليها أعمال لجنة الإعلام والإتصالات، أعادت عقوبة الحبس، لا سيما لمعاقبة جرائم القدح والذم المقترف بواسطة إحدى وسائل النشر (101)، وتعرّض إحدى وسائل الاعلام لشخص رئيس الدولة أو رئيس دولة أجنبية (103)، أو أحد السفراء أو أحد رؤساء البعثات الدبلوماسية (104)، أو نشر “إحدى وسائل الإعلام ما تضمن تحقيراً لإحدى الديانات المعترف بها في لبنان أو ما كان من شأنه إثارة النعرات الطائفية أو تعكير السلامة العامة أو تعريض سلامة الدولة أو سيادتها أو وحدتها أو حدودها أو علاقة لبنان الخارجية للمخاطر” (105).
وهنا لا بد من العودة إلى ما كانت أشارت إليه لجنة حقوق الإنسان في تعليقها على المادة 19 من العهد الدولي الخاص للحقوق المدنية والسياسية بأن القيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير ومنها عقوبة الحبس يجب أن تكون متناسبة مع الهدف المشروع الذي تسعى إلى حمايته.
وإذا أمعنا النظر في مبدأ تناسب العقوبة، نجد أن الهدف الذي يسعى المشرّع (لجنة الإعلام والإتصالات أقلّه) إلى حمايته عبر فرض عقوبة السجن في الصيغة الحالية لاقتراح قانون الإعلام، هو حماية سمعة رؤساء الدول والسفراء وكرامتهم، في حين لا يغدو هذا الهدف لا مشروعاً ولا مبرراً في ظل إتجاه الأنظمة الديمقراطية إلى تعزيز مساءلة هؤلاء بحكم وظائفهم، مما يقضي توسيع حريّة التعبير وليس تقييدها، وتاليا تخفيض العقوبة على أي جرم وليس تشديدها[7].
في نظرة سريعة على العقوبات الأخرى، تجدر الإشارة إلى أن اقتراح النائب عقيص بتعديل المادة 28 مطبوعات هدف إلى منع التوقيف الإحتياطي في جرائم القدح والذم المرتكبة بوسائل النشر من ضمنها مواقع التواصل الإجتماعي، حماية للحريات السياسية والإعلامية، مقابل تشديد العقوبات والغرامات المالية لردع مرتكبيها.
في ختام استعراضنا للقوانين المقرّة والاقتراحات التي لا تزال قيد البحث والمتعلقة بـ”جرائم التعبير” (إن لجهة تعريفها، أو تنظيم أطر ملاحقتها والعقوبة المتأتية عنها)، يتّضح أن تعزيز “حريّة التعبير” وصونها في التشريع اللبناني لا زال ضرورياً. فلا بدّ إذاً أن تبقى معركة حث المشرّع على حمايتها وتكريسها قائمة، هي التي اعتبرها إعلان حقوق الإنسان والمواطن (1789) المنبثق عن فكر التنوير “إحدى أثمن حقوق الإنسان”.
نشر هذا المقال في العدد | 57 | تشرين الثاني 2018، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
القمع ليس حيث تنظر: نظام المقامات
[1] تشاركت في وضع مسودة قانون الإعلام منذ العام 2009 جمعيات عدّة أبرزها “مهارات” و”Article 19″ بالإضافة إلى عدد من الخبراء القانونيين في ممارسة المهن الإعلامية المختلفة.
[2] CEDH, plén., 7 déc. 1976, Handyside c/ Royaume-Uni, n° 5493/72, § 49, cité in E. De Marco, L’incrimination du discours de haine : limites et étude comparée des législations de dix États membres de l’Union européenne, Dalloz IP/IT 2017 p.570.
[3] المادة 106 من اقتراح قانون الإعلام في الصيغة التي أفضت إليها لجنة الإعلام والإتصالات.
[4] انظر مثلاً المادة 16 من الميثاق العربي لحقوق الانسان.
[5] المادة 28 من قانون المطبوعات (١٠٤/١٩٧٧).
[6] رصدت في الأسباب الموجبة لاقتراح قانون الإعلام أهم السندات والقرارات الدولية حول إلغاء عقوبة الحبس وهي:
المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية أوجبت أن تكون القيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير ومنها عقوبة الحبس، ضرورية للحفاظ على حقوق الغير وسمعتهم في مجتمع ديمقراطي يتقبل الرأي الاخر ويتسع للتعددية.
أشارت لجنة حقوق الإنسان في تعليقها على المادة 19 المذكورة اعلاه ان القيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير ومنها عقوبة الحبس يجب ان تكون متناسبة مع الهدف المشروع الذي تسعى الى حمايته، وإذا اعتبرنا هنا أن الهدف المشروع المنوي حمايته هو سمعة الآخرين وكرامتهم فتوقيع عقوبة الحبس في مثل هذه الحالة بالتاكيد لا تكون متناسبة ولا مبرر ضروري لها.
في مناسبات عدة اعتبر المقرر الخاص لحرية الرأي والتعبير التابع للأمم المتحدة أن عقوبة الحبس غير مبررة كعقاب في جرائم النشر وحرية الرأي والتعبير.
– اعتبرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في قضية “كامبانيا بوجه دولة رومانيا” عام 2004 أن عقوبة الحبس في جرائم النشر هي عادة غير متناسبة مع حق الصحافيين في التعبير الحر.
[7] أنظر: نزار صاغية. القاضي معلوف يؤكد مجددا خطورة الرقابة المسبقة: هذه هي أسبابي الاجتماعية والسياسية والفلسفية. المفكرة القانونية، عدد 5، تموز 2012