وقفت إليان ابنة الثلاث سنوات، أمام المعزّين باستشهاد والدها المسعف في جهاز الدفاع المدني التابع لكشافة الرسالة الإسلامية محمد فوزي حمادي مذعورة، تجهش بالبكاء والدموع تبلّل وجهها وثيابها، تلتفت حولها وتصرخ عاليًا: “بدّي روح عالبيت، بكرا الخميس، بيجي بابا وما بلاقيني ناطرته”.
في ذلك اليوم، لم تفهم إليان سبب وجود هذا الحشد من الأقارب وأهالي القرية، والغرباء بالنسبة إليها، ولم تفهم لماذا يشيرون إليها وإلى شقيقتيها زهراء (13 عامًا) وراما (10 أعوام)، ويقتربون منهنّ ويحضنونهنّ. وما لم تفهمه أكثر هو بكاء والدتها، كلّما اقتربت إحدى النساء منها، وهي تردّد اسم والدها بعبارة “الله يرحمك يا بطل يا محمد” .
مضت عشرة أيام على غياب الشهيد المسعف محمد والد إليان وهي لا تزال تنتظر أن يأتي يوم الخميس، لتقضي الوقت معه، كما اعتادت كلّ أسبوع، وهو الموعد الذي اختاره الشهيد لزيارة بلدة تبنين حيث نزحت عائلته لاعتقاده أنّها ستكون في مكان أكثر أمنًا وأمانًا، كما يقول طارق حمادي شقيق محمد لـ “المفكرة القانونية”.
استشهد محمد حمادي، في الخامس من آب، وهو يرتدي بزّته وسترته الصفراء التي تدلّ على عمله كمسعف، جرّاء غارة نفّذتها مسيّرة إسرائيلية في محيط جبانة بلدة ميس الجبل، بين الأضرحة، حيث كان محمد يساعد في أعمال صبّ ضريح لأحد المتوفّين من أبناء البلدة.
يصف رفاق الشهيد المسعف محمد حمادي وعائلته وكلّ من عرفه لـ “المفكرة” بـ “الشخص الاستثنائي والآدمي والخلوق والخدوم”، وبأنّه “كان دومًا حريصًا على خدمة الناس، لا سيّما عمليات رفع الأنقاض وإطفاء الحرائق، وسحب الجرحى والشهداء من المناطق المستهدفة، ونقلهم إلى المستشفيات، كما واكب تشييع الشهداء ومتابعة النازحين وإسعافهم في أماكن إيوائهم، وترتيب الجنائز وتجهيز الأضرحة من الحفر والصبّ”.
يشير شقيقه طارق في اتصال مع “المفكرة” إلى أنّه في ظلّ التصعيد العدواني الصهيوني استمرّ محمد بعمله في مستشفى ميس الجبل وفي تطوّعه في مركز الدفاع المدني، واستمرّ في تقديم الخدمات نفسها، رغم كلّ المخاطر. ويضيف: “لطالما اتّصلت به وطلبت منه النزوح معنا إلى منطقة آمنة، إلّا أنّه كان يصرّ على البقاء والصمود، واستكمال مهامه كمسعف ومنقذ”.
وعن علاقته بعائلته، يقول طارق: “كان حنونًا على بناته، في ذكرى ثلاثة أيام على استشهاده، وأثناء مراسم العزاء بكته بناته، وأبكوا المعزّين، إلّا أنّ إليان الصغيرة لم تصدّق رحيل والدها، ولا تريد أن تصدّق، فاستمرّت بالصراخ والبكاء، تريد الذهاب إلى المنزل، معتقدة أنّ والدها ينتظرها”.
ويضيف: “آخر اتصال أجراه معي كان يوم الاثنين عند الساعة السابعة صباحًا، أي قبل ساعة واحدة فقط من استشهاده. أنهينا الاتصال وذهبت إلى العمل وما أن وصلت حتى جاءني اتصال من زوجتي تخبرني باستشهاده”. يغصّ طارق ويضيف: “سنفتقده كثيرًا، مع ذلك لنا فخر كبير أنّ دماءه سقطت في المكان الصحيح”.
منذ بدء الحرب، في تشرين الأول 2023 وحتى اليوم، لم يقتصر العدوان الإسرائيلي على ارتكاب المجازر في حق المدنيين العزّل في غزة والضاحية الجنوبية وجنوب لبنان وآخرها أمس الأربعاء حيث نفّذ “غارة في ساحة مرجعيون، أدت إلى سقوط شهيد وثمانية جرحى بينهم طفل يبلغ الثالثة من العمر”، وفق بيان غرفة عمليات طوارئ الصحة العامة التابع لوزارة الصحة العامة. فعمد العدوان، وبشكل ممنهج إلى استهداف المسعفين، حيث استشهد 20 مسعفًا، منهم 9 من الهيئة الصحية الإسلامية، 7 من مسعفي الهيئة الطبية الإسلاميّة، في غارة على مركز الطوارئ والإغاثة التابع للجماعة الإسلامية في 27 آذار، في بلدة الهبارية، أثناء وجود المسعفين بداخله. كذلك سقط 4 مسعفين من الدفاع المدني التابع لكشافة الرسالة الإسلامية، هم: حسين أحمد جهير من بلدة الناقورة، استشهد في تاريخ 27 آذار إثر غارة على بلدة الناقورة، وغالب حسين الحاج من بلدة شيحين استشهد في 10 أيار إثر غارة على بلدة طير حرفا، وحسين محمد عسّاف من بلدة ميس الجبل استشهد في 6 نيسان برصاص القنص الإسرائيلي على البلدة وآخرهم كان الشهيد محمد فوزي حمادي، استشهد في 5 آب، إثر غارة في بلدة ميس الجبل، بحسب مفوض الإعلام في كشافة الرسالة محمد عرندس لـ “المفكرة”.
استشهد على أضرحة الشهداء
إذًا صباح الاثنين في الخامس من آب الحالي، أنهى الشهيد حمادي اتصالًا مع شقيقه طارق، ثمّ توجّه إلى الجبّانة الشرقية في البلدة حيث عمل على إنهاء صبّ الباطون لضريح أحد المتوفّين من أبناء البلدة، بعدها انتقل الى الجبانة الأخرى القريبة من ساحة البلدة، برفقة أحد أبناء البلدة لإجراء أعمال الصبّ لضريح آخر، كونه كان خبيرًا بأعمال البناء والباطون وحفر وصب الأضرحة. إلّا أنّ العدو وبحسب مدير موقع “ميسيات” محمد زهر الدين كان يقوم بالرصد والمراقبة، فأغار على المسعف، وكان مرتديًا سترته التي تدلّ على صفته كمسعف، في محيط جبّانة بلدة ميس الجبل، وبين الأضرحة، أدت إلى استشهاده واستشهاد علي شقير الذي نعاه حزب الله.
ويضيف زهر الدين أنّ “الشهيد محمد حمادي متواجد في ميس الجبل منذ 10 أشهر، أي منذ بداية الحرب، بمعيّة رفاقه في الدفاع المدني، وكان من مهامه الاهتمام بموضوع الجنازات والمدافن والأضرحة، إضافة إلى أعمال الإغاثة وإسعاف المصابين وإطفاء الحرائق، وتنظيف البلدة من الأعشاب اليابسة وغيرها”. ويتابع زهر الدين أنّه: “خلال الأشهر العشرة الأخيرة، وثّقنا أكثر من 170 جنازة في ميس الجبل، حيث كانوا أهل المتوفّين يشيّعون موتاهم في البلدة، ثم يتوجّهون إلى أماكن سكنهم إما في بيروت أو في أماكن نزوحهم، والشهيد محمد كان هو المسؤول الأساسي عن تجهيز مدافنهم وأضرحتهم”.
ويشير زهر الدين إلى أنّ كلّ من عرف الشهيد يتحدّث عن طيبته، وآدميته وتهذيبه، ويتابع: “يعمل في مستشفى ميس الجبل، لا عداوة له مع أحد، ولا خصومة، ولا مرّة عمل مشكل أو أزعج أحدًا بكلمة. في الوقت نفسه مندفع، شجاع، بطل، صمد، شارك بعمليات إنقاذ وإطفاء الحرائق حتى التي وصلت إلى المنازل، وشارك بحماية أرزاق أهل القرية، سحب شهداء من تحت الأنقاض، وأنقذ جرحى”.
ويضيف: “كان محمد أوّل من يسارع إلى مساعدة أهل البلدة الصامدين، المدنيين والمسنين، لتأمين الأدوية لهم والمواد الغذائية والتدفئة، محمد كان متواجدًا حتى قبل الحرب، وطالما ساعد الأشخاص الذين أصيبوا بكوفيد، مناقبيته كانت لافتة في السلم والحرب”.
حيدر هاشم وهو من الأشخاص الذين يتردّدون على عناصر الدفاع المدني في ميس الجبل، وتناول الفطور الأخير مع الشهيد محمد قبل يوم من استشهاده، يقول في اتصال مع “المفكرة”: “قبل استشهاده بيوم كان وجهه مضيئًا وكان مرحًا واهتمامه بالآخرين كان زائدًا. وعندما ودّعته كان في وداعه لهفة وحرارة”. ليتابع: “المسعف محمد حمادي كان يواجه التحدّيات والمحن والمخاطر يوميًا، فالمسعف يعيش في قلب الحرب وبين ألسنة النيران ويخوض الغمار وعينه على إنقاذ الجرحى وإنقاذ الناس وإغاثتهم، رغم أنّه تحت عين آلة الحرب الإسرائيلية”.
ويضيف: “عندما كان يساهم في إطفاء الحرائق، كان يساهم بحماية بيوت العالم وبساتينها وأرزاقها، خلال الأشهر العشرة الماضية لم يترك ميس الجبل أبدًا إلّا لزيارة والدته وعائلته النازحتين. عشرة أشهر، هكذا روحه مرحه ونفسيته طيبة، شخصيته جدّية ولكن بسلاسة. كان يخفّف على رفاقه توتّر الحرب ويحفّزهم على الصمود، كان حاضرًا دائمًا”.
يتابع هاشم: “رافقته لفترة، تعرّفت على يوميات عناصر الدفاع المدني من خلاله، كانوا يمضون الوقت، يحضرون طعامهم، ويستجيبون بسرعة في حال حصلت غارة أو أي طارئ، هناك أمور لا توثّق ولا تصوّر، لا أحد يلاحظها إلّا من يعيش تفاصيلها”.
ويلفت إلى أنّ الشهيد محمد تعرّض مرّات عدة للاستهداف من قبل العدو، وهو يعرف تمامًا أنّه في خطر، لكن ذلك لم يمنعه من أداء دوره. ولم يقتصر هذا الدور على بلدته ميس الجبل بل ساهم في عمليات إنقاذ في حولا وشقرا وبليدا ومحيبيب، وكلّ القرى المحيطة بميس الجبل”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.