في نصّه “وصف إيالة تونس”، كتب القنصل الفرنسي أرنست بيليسي دي راينو واصفا مدينة تونس في القرن 19: “وليس هنالك من أمر قبيح جدّا سوى ما هو موجود داخل هذه المدينة الكبرى، التي ينتشر فيها الفقر، والقذارة والخراب. وتخدش فيها في نفس الوقت كلّ الحواس، ولا سيما حاسة الشمّ، في الناحية السفلى حيث يمتدّ على طولها خندق للفضلات منفتح ينشر روائح من طبيعة لا يمكن حتّى أخلاقيا ذكرها”. ربّما قد لا يخلو نصّ كهذا، علاوة على الرّوائح التي يذكرها، من رائحة التّعالي الكولونيالي نحو بلدان الجنوب، ما يستلزم التعامل معه بحذر وتمهّل خاصة عندما يكون قانون “ممنوع البول والبصاق” الصادر في 12جويلية 1881، من بين أوّل القوانين التي تمّ سنّها بعد دخول جيوش الاحتلال الفرنسي إلى تونس في إطار حملتها “الحضارية” المقدّسة. لكن من جهة أخرى، يبدو أن معضلة القمامة والفضلات معضلة “وطنيّة” مقيمة في تونس، حيث أتى على ذكرها وتناولها، ضمن تحقيق صحفي سنة 1993، توفيق بن بريك تحت عنوان”Faut-il jeter le plan à la poubelle?” الذي انتقد فيه حال شوارع تونس وأزمة الفضلات المستشرية، والمخطط المديري الذي وضعته الدولة لمجابهتها. ليصفه بالمخطّط “الهلامي” آنذاك، نظرا لعجز ميزانية الدولة عن توفير الموارد المالية لتنفيذه، كالعادة، والذي يفترض أنّه المخطّط المعمول به حتّى الآن.
السياسة العامة للتصرف في النفايات: حبر على ورق
الحقّ في بيئة سليمة هو حق دستوريّ تبعا للفصل 45 من دستور 2014 المغدور. كذلك، ينظّم القانون عدد 41/1996 قطاع التصرّف في النفايات في تونس، حيث يشير في فصله الأوّل إلى: “تخصيص مصبّات مراقبة لإيداع النفايات المتبقّية أي بعد استيفاء كل مراحل التثمين الممكنة”. تمرّ عملية جمع الفضلات (منزلية أو صناعية) في تونس، نظريّا على الأقل، عبر عدّة مراحل كبرى: الفرز الأوّلي بين المواد العضوية/المنزلية، المواد البلاستيكية وباقي المواد. ثم تجمّع في مراكز التحويل أين يتم نقلها إمّا إلى المصبّات المراقبة أو محطات الرسكلة. لكنّ آفة دولتنا، التقاعس. ككلّ السياسات العامة، بما يشمله ذلك من خطط مخطّطات واستراتيجيات، لم تتجاوزْ الفصول الواردة بنصّ القانون، ولا البنود التي تنص عليها الاتفاقيات المبرمة وكراسات شروط استغلال ورسكلة النفايات، حدود الأوراق التي كتبت فيها. أبعد من ذلك، وبالعودة إلى تحقيق موقع نواة حول مصب برج شاكير ربيع 2015 وتقارير أخرى مختلفة من هيئات رقابية وجمعيات، يثير ملف التصرّف في النفايات، واستغلال المصبّات، أكثر من سؤال. يكفي أن صفقات التصرّف في النفايات كانت أحد أسباب استقالة حكومة الياس الفخفاخ في جويلية 2020. كما عجزت حكومة المشيشي المُقالة، وسلطة الاستثناء القائمة منذ 25 جويلية الماضي، عن إرجاع الفضلات الإيطالية “المقيمة” بميناء سوسة منذ 26 ماي 2020 . أمّا مؤخّرا، كان التصرّف في النفايات، مرة أخرى، أوّل الاختبارات التي فشل أمامها شعار “الشعب يريد”، عندما أراد “شعب” عقارب مدينتهم دون المصب المغلق بأمر قضائي منذ 2019. وأراد كذلك، كلّ من “شعبي” المحرس وطينة، أن لا تكون مدينتهما بديلا عبر تركيز مصبات للنفايات بهما، فيما أراد “شعب” مدينة صفاقس شوارعهم دون نفايات. فإلى أي إرادة ستنتصر السلطة القائمة؟
تجارب مقارنة: لا فائدة من إعادة اختراع العجلة
مع بداية تشكّل المدن، بادر الإنسان إلى التفكير في التصرف في فضلاته الخاصة ومن هنا نشأت المراحيض في بلاد السند، باكستان، مصر القديمة وروما الإمبراطورية. ثم شهدتْ المراحيض عدّة طفرات قبل أن تنتهي إلى الشكل الذي نعرفه، مرورا باختراع السيفون ووصولا إلى اختراع قنوات التطهير فيما يعرف في أوروبا الحديثة بـ “ثورة المياه أو الثورة الباستورية”، نسبة إلى لويس باستور الذي اكتشف الرابط بين النظافة والوقاية من الأمراض.
مع توسّع المدن والنموّ الديموغرافي والطفرة العقلانية بالمفهوم الفيبري، ظهرت الحاجة لدى الحكومات، الأوروبية بالأساس، لسنّ سياسات عامة للتصرّف بالنفايات تفاديا للأذى الذي يمكن أن تسبّبه عند تكدّسها بالقرب من مناطق العمران. بالطبع هناك جانب أخلاقي لهذه الضرورة. في نسختها الأولى، اقتصرت السياسة العامة للتصرف في النفايات على عملية جمعها من قبل أعوان نظافة باستعمال عربات، ونقلها إلى مصبّات خارج مناطق العمران، أين تدفن أو تحرق، مقابل أداء ضريبي يدفعه الأفراد. يعتبر التصرّف في النفايات من بين أولى السياسات العامة الاجتماعية التي تبنّتها الدولة الحديثة، إلى جانب التربية والصحة. بديهيا، تطوّرات هذه السياسة لاحقا وتم تعديلها ومراجعتها بتطوّر أنماط الاستهلاك والإنتاج والتطوّر العمراني للمدن، وصولا إلى بروز الحقوق الإيكولوجية كالحق في البيئة السليمة والتحديات المناخية، ضمن موجة حقوق الجيل الرابع.
باقتضاب، تتقاطع السياسات العامة لحماية المحيط والتصرّف في النفايات، وفق الأمم المتحدة، عند ثلاث نقاط مشتركة:
- الفرز الأولي: المواد اللينة القابلة للرسكلة (بلاستيك، علب لف وتغليف، كرتون، أوراق، النفايات المنزلية العضوية والمواد الصلبة والمعادن والخشب).
- الجمع والنقل نحو مراكز التحويل حسب الفرز الأولي.
- النقل نحو مصبّات المراقبة ومحطّات الرسلكة حسب المادة.
نظريّا، وقع اعتماد نفس المقاربة في سن التشريعات التونسية، التزاما بمعاهدات واتفاقيات دولية، وكذلك لاستيفاء شروط تلقّي المساعدات والقروض (مثال: تم إحداث مصب برج شاكير). لكنّ على أرض الواقع، تظلّ الممارسات وآثارها بدائية، وفق ألطف التوصيفات. بحسب تقرير للبنك الدولي، فإن أقلّ من ثلثي النفايات يتم جمعها في العاصمة (61%). فيما لم يوضح التقرير مصير الباقي. تقرير آخر لمنظمة هنريش بول، بالتعاون مع مبادرة الإصلاح العربي، كان قد صدر في أفريل 2021 حول اللامركزية والتصرّف في النفايات الصلبة، تمّت الإشارة إلى أنّه بالإضافة لضعف الموارد التقنية والبشرية للبلديات، وضعف طاقة إستيعاب مراكز التحويل، فإنّ الفرز الأولي شبه منعدم إذ يتمّ جمع كل النفايات مع بعضها من دون فرز. أخيرا، بالنسبة للنقطة الثالثة من النقاط المديرية الكبرى لاستراتيجية التصرّف في النفايات التي تشير إلى ضرورة تركيز مصبّات كبرى للنفايات ومراقبتها، فإنّه يكفي النظر إلى مكان تركيز أكبر مصبّين بالجمهورية: برج شاكير وعقارب، الذين يقعان بمحاذاة تجمّعات سكانية ضخمة وفقيرة (برج شاكير)، ودون أي اعتبارات لحماية البيئة (مصبّ القنة -عقارب يقع أيضا بجانب محمية القنة الطبيعة). تشكّل هذه المعطيات مجتمعة توليفة للعنف البطيء، وفق مفهوم روب نيكسون، تكرّسه الدولة، تقاعسا وتواطؤا، ضد المجتمع.
فضلا عن التفاصيل التقنية وضعف منظومة التصرف في النفايات، تعدّ المسألة البيئية من العناوين العريضة التي تتحدّد على ضوئها التوجّهات الكبرى للدولة، شأنها في ذلك شأن الأمن والاقتصاد. حيث تنخرط عدّة إدارات ومؤسسات في تطبيق السياسة المتصلة بالبيئة، كالجماعات المحلية، وكالة التصرف في النفايات وزارة الفلاحة والتجهيز، إلى جانب باقي الهياكل التابعة لسلطة الإشراف المباشرة: وزارة البيئة. وعرضا نشير إلى أن للمسألة بعدا إقليميا ودوليا، باعتبار الاتفاقيات الدولية المبرمة ذات الصلة. بالنهاية، تندرج السياسة البيئية ضمن السياسات الكبرى التي تختص بها الدولة، كجهاز قانوني إداري وكيان معنوي جامع، ما يفترض التعامل معها من خلال زاويتين متلازمتين: سياسية وتقنية.
بعد هذا الاستطراد الطويل، نتعرّض فيما يلي إلى الطريقة التي تعاملت عبرها الدولة مؤخرا مع إشكالية النفايات جهة صفاقس، وقضية المصبّ في منطقة عقارب، مع تناول نتائج أوّل اختبار لشعار “الشعب يريد” على أرض الواقع.
ليس بإدارة الشأن اليومي -وحدها-تحيا الأوطان
في أطروحته حول الحوكمة الحضرية، حيث تطرّق الجغرافي الأميركي دايفيد هارفي إلى الحوكمة المحلية وتحوّل المدن إلى موديلات ممالك مستقلة على الهيئة القروسطية بنكهة حديثة يتنظّم أفرادها ذاتيا، طرح هذا المنظّر المعضلة التالية: “لو افترضنا وجود محطّة نووية توفّر الكهرباء لمدينتين أو أكثر، واستحال، لأسباب تقنية، تثبيت محطّة لكّل مدينة. إلى أي مدينة من المدينتين ستعود إدارة هذه المنشأة؟” وقد كانت الإجابة، وجب الأخذ بعين الاعتبار أن إحالة إدارة المنشأة للدولة المركزية يضرب استقلالية المدينتين. كذلك يذكر أن المنشأة تمثّل ضرورة حياتية استراتيجية للمدينتين نظر للكهرباء التي توفّرها، كما أنها تشكّل خطرا محدقا يهدد وجود حياة سكّان المدينتين، ما يجعل إدارتها، بحتمية سليمة، مسألة وجودية دقيقة.
في المثال التونسي، تشبه معضلة مصب عقارب الأخيرة المعضلة التي طرحها هارفي في أطروحته، نسبيّا على الأقل، مع تعويض المنشأة النووية بمصب النفايات. في إطار فلسفة هندسة مصبّات جمع النفايات التي تتبعها الدول وتوصي بها المؤسسات الدولية ومخابر البحث، والتي تمّ تبنّيها في كراس الشروط التي تنظم القطاع في تونس؛ كتجنّب التكتّلات العمرانية وتوفّر سبل العزل. باعتبار مثل هذه التوصيات والشروط، لا يمكن إحداث مصبّات لجمع النفايات بطريقة اعتباطية كلما اقتضت الحاجة. لكنّ مصبّ برج شاكير بالضاحية الغربية لتونس العاصمة، هو مصبّ نفايات لأربع ولايات و38 منطقة بلدية. إذن، ووفق منطق “الشعب يريد” والديموقراطية الضيقة، فإن متساكني منطقة برج شاكير يتحمّلون وزر باقي جهات إقليم تونس الكبرى، وهم الذين احتجّوا في أكثر من مناسبة إبّان الثورة للمطالبة بإغلاقه.
على مساحة 40 هكتار، بدأ استقبال مصبّ عقارب للنفايات غرّة أفريل 2008 الذي يعتبر ثاني أكبر مصبّ في الجمهورية بعد مصبّ برج شاكير. بعد خمس سنوات من تاريخ بداية استغلاله، انطلقت الاحتجاجات والحملات التوعوية الداعية لغلقه، تحت شعار “#عقارب_بلا_مصب”، وصولا للحراك المواطني الذي “مانيش مصب” الذي انطلق سنة 2016. وبعد عدّة جولات بين الشارع وأروقة الإدارات والمحاكم، صدر قرار قضائي بوقف استغلال المصب يوم 11 جويلية 2019 من طرف محكمة الناحية بعقارب. واصلت السلطة التنفيذية سياسة المماطلة والتسويف تجاه طلبات السكان الذين واصلوا تحركاتهم المواطنية، إلى أن تم إمضاء اتفاق مع الولاية يوم 29 أوت 2020، القاضي بغلق المصبّ أواخر 2021، والذي تم يوم 27 سبتمبر 2021. عندما قامت الوكالة الوطنية للتصرّف في النفايات ANGED يوم 02 أكتوبر 2021 بتنفيذ عملية الغلق، صدر بلاغ عن مجموعة من بلديات صفاقس، يحذر من كارثة بيئية بالولاية نتيجة هذه الخطوة. وبعد أسابيع من تكدّس النفايات في الجهة، قرّر رئيس السلطة القائمة، يوم 08 نوفمبر 2021، فتح المصب بالقوة العامة، لتشهد الأيّام اللاحقة اشتباكات بين المحتجّين وقوات الأمن، والتي أسفرت عن مقتل أحد مواطنيّ عقارب، لتنكر وزارة الداخلية مسؤوليتها عن موته. في هذه الأثناء، أعيد تداول مقترح قد أعلنت عنه الوكالة الوطنية للتصرّف في النفايات، مطلع 2020، يتعلّق بتركيز وحدة تثمين نفايات بالمحرس. ما أدّى لاندلاع احتجاجات مماثلة ضد هذا المقترح في تلك المدينة. ليتمّ في نهاية المطاف إعادة فتح المصب لاستقبال النفايات، والشروع في تهيئة مصب آخر، وقتيّ بجهة ليمامة في منطقة منزل شاكر في ولاية صفاقس. ويذكر أنّه في الوقت الذي كانت فيه وحدات وزارة التجهيز تقوم بتهيئة المنطقة المخصصة للمصبّ الجديد، كان سكّان عمادة ليمامة بصدد الاحتجاج وقطع الطريق الرابط بين سيدي بوزيد وصفاقس تعبيرا عن رفضهم القطعي لإحداث مصب بجهتهم. كما قام المجلس البلدي بمنزل شاكر بإصدار بلاغ عبّر فيه عن رفضه لقرار السلطة المركزية، بالإضافة إلى توجيه عريضة وقّعتها مجموعة من النقابات ومكوّنات من المجتمع المدني وأهالي الجهة إلى والي صفاقس، ضمنها الموقّعون رفضهم إنشاء مصب بجهتهم. استنكارا، نتساءل كيف ستتصرّف السلطة المركزية مع المطالب المحلية وتمثّلاتها المؤسساتية؟ فقد فضحتْ أزمة النفايات بصفاقس التناقض الداخلي الذي يحمله شعار “الشعب يريد”، كما بينت التشوّه الجنيني الذي يعاني منه: حيث لا يمكن تثبيت نظام حكم قاعدي، تشاركي وديموقراطي بأدوات مفرطة في المركزية والتفرّد.
عند تناول هذه الأحداث، وطريقة تعامل السلطة القائمة، الحاملة للواء “الشعب يريد”، مع مطالب السكان، تطفو عدّة أسئلة، بديهية، إلى السطح: كيف سيتم التوليف بين مشاريع المعتمديات والعمادات عندما يكون هناك تعارض بينها؟ وكيف سيتم التوليف بينها عندما تطلب مجموعة من الجهات نفس المشاريع؟
تعتبر قضيّة مصب عقارب أول الاختبارات التي سقطت أمامها شعار “الشعب يريد”، وانكسرت إرادة الشعب، لصالح إرادة السلطة القائمة التي تعاملت بفوقية مفرطة ومركزية شديدة مع قضية محلية، في تضارب تام بين المنطوق السياسي القائم على الديموقراطية المباشرة، والممارسة الفعلية التي ترجمت باعتماد القوة العامة وفرض إرادة المركز بمكونيه، السلطة في قرطاج والسلطة في مركز الولاية، رغم المطالب المشروعة لسكّان المنطقة.
في نهاية أطروحته التي أشرنا لها أعلاه، ينتهي دايفيد هارفي إلى أنّ فكرة التنظّم الذاتي هي أبهى ما قد يتوصّل إليه العقل السياسي، لكنّها لم تبلغ بعد النضج الكافي الّذي يخوّلها أن تكون ممارسة فعلية على أرض الواقع.
1 كتاب “وصف الإيالة التونسية”: Description de la régence de Tunis. ترجمة: محمد العربي السنوني. المركز الوطني للترجمة.
2 القنصل الفرنسي بسوسة Pellisier de Reynaud من ماي 1843 إلى أفريل 1848.
3 ضمّن هذا المقال ضمن كتاب une si douce dictaure سنة 2000 عن دار la découverte، إلى جانب مجموعة من المقالات لبن بريك صادرة بين 1991 و2000.
4 نسبة للفيلسوف الألماني ماكس فيبير
5 نسبة إلى الإيثقيا أو فلسفة الأخلاق
6 What a waste 2.0. A Global Snapshot of Solid Waste Management to 2050. World bank.
7 حمايـة البيئـة بعـد الالمركزيـة: السياسات المحلية الخاصة بإدارة النفايات الصلبة في تونس.
8 Nixon, Rob. Slow Violence and the Environmentalism of the Poor. Cambridge, Massachusetts; London, England: Harvard University Press
9 David Harvey. From Managerialism to Entrepreneurialism: The Transformation in Urban Governance in Late Capitalism. Published in “The Roots of Geographical Change: 1973 to the Present”. Journal: Geografiska Annaler, Series B. 1989.
10 حسب إفادة لمحمّد شنيور، رئيس بلدية المحرس، لجريدة الشّروق بتاريخ 31/01/2021.