المرسوم المغيّب: حكومة ميقاتي لم تكن حكومة تصريف أعمال؟


2025-02-12    |   

المرسوم المغيّب: حكومة ميقاتي لم تكن حكومة تصريف أعمال؟

بعد طول انتظار، تمّ تشكيل حكومة الرئيس نواف سلام بعد التوافق على توزيع الحقائب كي تصبح الحكومة الأولى في العهد الجديد. وبالفعل عملا بالممارسة الدستورية السائدة في لبنان أصدر رئيس الجمهورية في 8 شباط المنصرم ثلاثة مراسيم متتالية هي المرسوم رقم 51 القاضي باعتبار حكومة الرئيس نجيب ميقاتي مستقيلة والمرسوم رقم 52 القاضي بتسمية نواف سلام رئيسا لمجلس الوزراء والمرسوم رقم 53 بتشكيل الحكومة.

وإذا كانت هذه الممارسة باتت مألوفة في لبنان كون مراسيم تشكيل الحكومة تصدر دائما في اليوم نفسه منذ تبني الدستور اللبناني سنة 1926 لكنها هذه المرة شهدت تطوّرا مستغربا وسابقة لا بدّ من التنبيه على خطورتها. فقد عمد رئيس الجمهورية السابق ميشال عون وفي ظل الخلاف السياسي المستحكم بينه وبين الرئيس نجيب ميقاتي على تشكيل الحكومة إلى اتخاذ خطوة غير معهودة في الحياة الدستورية اللبنانية إذ أصدر قبيل نهاية ولايته بتاريخ 30 تشرين الأول 2022 المرسوم رقم 10942 الذي قضى باعتبار حكومة نجيب ميقاتي مستقيلة. لكن إصدار هذا المرسوم لم يقترن بنشره في الجريدة الرسمية كما تفرضه الأصول القانونية ولا شكّ أن التمنّع عن نشره لا يمكن فهمه إلا بسبب الخلاف السياسي حينها، كون مصلحة الجريدة الرسمية تتبع المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء، ما يعني أن عدم إرسال المرسوم رقم 10492 للنشر كان بسبب قرار سياسيّ رأى في نشره خطوة قد تهدد البقاء الدستوري لحكومة تصريف الأعمال.

وبغض النظر عن التمنع عن نشر هذا المرسوم حينها، لكن كان من المتوقع أن يتمّ الاحتفاظ به كي يتمّ نشره لاحقا عندما يتم انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل الحكومة الجديدة. ولا شكّ أن نشر مرسوم اعتبار الحكومة مستقيلة موقّعا من قبل الرئيس ميشال عون إلى جانب سائر المراسيم (تسمية نواف سلام مرسوم تشكيل الحكومة) موقعة من قبل الرئيس جوزاف عون هو أمر مستغرب جدا لناحية التقاليد المتبعة في لبنان لكنها تظل على الأقل سليمة من الناحية الدستورية كون لا شيء في أحكام الدستور يفرض صدور هذه المراسيم في اليوم نفسه وبشكل متعاقب. لكن التمنّع عن نشر مرسوم قبول الاستقالة في أول الأمر ومن ثم إصدار مرسوم جديد كليّا وكأن المرسوم القديم لا وجود له يشكّل مخالفة قانونيّة لا بدّ من التحذير من خطورتها حتى لو كانت النتيجة مماثلة من الناحية القانونية، أي التكريس الدستوري لاعتبار الحكومة مستقيلة. إذ إن الأعمال الإدارية سواء كانت تنظيمية أو فردية تصبح مكتملة وحائزة على توصيفها القانوني بمجرد توقيعها من قبل المراجع المختصة حتى لو لم يتمّ إذاعتها وشهرها (publicité) عبر الوسائل المناسبة، وفقا للاجتهادين اللبناني والفرنسي[1]. إذ أنّ عدم إشهار العمل الإداري يمنعه في المبدأ من الدخول حيز التنفيذ لكن ذلك لا يعني إطلاقا أن هذا العمل غير موجود[2].

وقد اعتبر مجلس شورى الدولة في لبنان “إن مشروعية الأعمال الإدارية تتبلور وتقدر بتاريخ صدورها ويجب والحال هذه أن يحكم على شرعيّتها وفق هذا التاريخ لأنّ مشروعية العمل الإداري لا سيما في ما يتعلّق بالصلاحيّة تقدّر بتاريخ توقيعه وليس في طور من أطوار إعداده وبما أن توقيع العمل الإداري هو شرط من شروط وجوده فإن العمل الإداري الخالي من التوقيع النهائي يكون مشروع عمل وليس له صفة العمل القانوني باعتباره عديم الوجود قانونيا” وأضاف القرار أنه مع التوقيع النهائي للجهة المختصة “يصبح العمل الإداري مكتملا وناتجا بكل مفاعيله (…) وبما أن تاريخ التوقيع النهائي فقط يعطي العمل الإداري وجودا قانونيا وبالوقت ذاته يحدد السلطة التي أصدرت هذا العمل إذ أن توقيع العمل يتعلّق بقضايا الصلاحية (…) وبما أن القاضي يستند إذًا إلى تاريخ صدور الأعمال الإدارية لمعرفة ما إذا كانت تلك الأعمال صحيحة أم لا بمعنى أنه يقدر شرعيتها من حيث الواقع والقانون بالاستناد إلى تاريخ اتخاذها” (قرار رقم 81 تاريخ 21/11/1996).

وهكذا يتبين أن المرسوم رقم 10942 صدر عن الجهة المختصة، أي رئيس الجمهوريّة الذي منحه الدستور صلاحية إصدار مراسيم قبول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة منفردا، ما يعني أن هذا المرسوم بات مكتملا من الناحية الدستورية ومنتجا لمفاعيله القانونية منذ تاريخ توقيعه بغض النظر عن نشره في الجريدة الرسمية هذا علما أن المادة الثانية من المرسوم تأمر أيضا بتبليغه كونه يدخل في عداد الأعمال الفردية التي يمكن إشهارها عبر التبليغ أيضا وليس النشر في الجريدة الرسمية فقط. وبالتالي يصبح إصدار مرسوم جديد بمثابة إنكار لوجود المرسوم القديم إذ بات من الناحية الواقعية العمل الذي اتخذه رئيس الجمهورية السابق بحكم منعدم الوجود إذ لا أثر له في كل البناء القانوني للدولة اللبنانية. والأفدح من ذلك أن الفقرة الثانية من المادة 56 من الدستور تنص صراحة على أن رئيس الجمهورية يصدر المراسيم “ويطلب نشرها”، فما معنى قيام رئيس الجمهورية بطلب نشر مرسوم اعتبار الحكومة مستقيلة في حال كان بإمكان الجريدة الرسمية رفض طلبه هذا، الأمر الذي يعني أن التمنّع عن نشر المراسيم التي يأمر رئيس الجمهورية بنشرها يشكل مخالفة صريحة للدستور واعتداء من قبل إدارة رسمية على صلاحيات سلطة دستورية.

وما يفاقم من غرابة هذه السابقة هو الاختلاف بين المرسوم رقم 10942 والمرسوم رقم 51. فبينما يستند المرسوم الأول في بناءاته على الفقرة “ه” من المادة 69 من الدستور التي تعتبر الحكومة مستقيلة حكما عند بدء ولاية مجلس النواب، يقوم المرسوم الثاني بالاستناد على الفقرة “د” من المادة ذاتها التي تعلن أن الحكومة تصبح مستقيلة عند بدء ولاية رئيس الجمهورية. لكن حكومة الرئيس ميقاتي أصبحت مستقيلة منذ بدء ولاية مجلس النواب بعد الانتخابات النيابية في أيار 2022 وانحصرت صلاحياتها بتصريف الأعمال طيلة هذه الفترة، ما يعني أن المرسوم رقم 51 خالف في مضمونه الوقائع الدستورية كونه اعتبر أن الحكومة اعتبرت مستقيلة منذ بدء ولاية الرئيس جوزاف عون في 9 كانون الثاني 2025 بينما هي تقوم بتصريف الأعمال منذ أكثر من سنتين. ونتساءل فيما إذا كان لتعديل تاريخ استقالة الحكومة أي أثر في تقييم الأعمال الصادرة عنها بين أيار 2022 وكانون الثاني 2025 والتي يفترض مبدئيا أن تقتصر على تصريف الأعمال.  

وهكذا يتبين أن تجاهل الوجود القانوني للمرسوم رقم 10942 يطرح علامات استفهام كبرى حول القرار السياسيّ المهيمن على مصلحة الجريدة الرسمية والذي قرر اعتباطيا التمنّع عن نشر هذا المرسوم منذ صدوره، ومن ثمّ استبداله من تلقاء نفسه بمرسوم جديد يستند على بناءات مختلفة وكأن العمل المكتمل الذي اتخذه رئيس الجمهورية السابق والمنتج لكل مفاعيله القانونية لا وجود له بكل بساطة. فما الذي يمنع مستقبلًا من تكرار هكذا تصرّف اعتباطيّ عبر التمنّع عن نشر مراسيم لا تتّفق مع المصالح السياسية للقيمين على الجريدة الرسمية؟     


[1] CEF, syndicat national des chemins de fer de France et des colonies, 18 juillet 1913.

[2] “considérons un acte administratif qui faute de publication ou de notification adéquates n’est pas entré en vigueur. Ayant été signé par son auteur, il existe. Il n’est pas un simple projet (…) d’autre part, comme l’illustre une jurisprudence constante, l’absence de la  publication ou de la notification est sans influence sur la légalité de la décision qui a été prise” (René Chapus, Droit administratif général, Tome 1, 2001, p. 1145).

أيضا:

“L’existence d’un acte législatif ou administratif n’est pas conditionnée par sa publication” (CEF, arrêt de Section Daunizeau du 27 janvier 1961).

انشر المقال

متوفر من خلال:

مرسوم ، قرارات إدارية ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني