المخفيون قسرا في اليمن، ضحايا عابرون للزمن يُطلون أخيراً من جدران الشوارع


2013-05-14    |   

المخفيون قسرا في اليمن، ضحايا عابرون للزمن يُطلون أخيراً من جدران الشوارع

في يوم 8 – 9 – 2012 دشن كل من مراد سبيع وصامد السامعي وكمال الموفق وعدد من رفاقهم حملة (الجدران تتذكر وجوههم) برسم وجوه كل من المخفيين قسريا عبد العزيز عون وعلي خان على جدران جولة مذبح القريب من مقر الفرقة الاولى مدرع في العاصمة اليمنية صنعاء، ولقد شكل هذا الأمر بداية لهذه الحملة التي كانت أول مبادرة من نوعها على المستوى الجماهري في اليمن تتبنى موضوع المخفيين قسريا وتضع هذه القضية التي طالما اتسمت بالحساسية والسرية في حالة مكاشفة مع عموم اليمنيين.
ولقد كان التحدي الأول الذي استطاعت الحملة أن تكسره هو عملية طمس الوجوه التي رسمت قرب مقر الفرقة الأولى مدرع التي تتبع الجنرال الشهير علي محسن الأحمر، الذي ينظر اليه اليمنيون كأحد أبرز المسؤولين عن عمليات القمع السياسي والعسكري للمعارضة في اليمن. فقد قررت الحملة اعادة رسم الوجوه في ذات المكان، وهو الأمر الذي شهد تضامنا واسعا من وسائل الاعلام والفعاليات العامة والنشطاء الذين تجمعوا في ذلك اليوم، لانجاح الأمر. وقد استطاعت الحملة لاحقا الحصول على تصريح رسمي مفتوح من (بلدية أمانة العاصمة) للرسم في الجدران العامة، وهو الأمر الذي بدا تحصيلا حاصلا بعد كسر المخاوف والرهبة وتحدي الاعتراض الذي أفصح عنه الجنرال الأحمر. وحظيت الحملة بتعاطف واسع محركة المشهد الحقوقي خصوصا المتصل بالمخفيين قسرا، وتبنت احدى الصحف اليومية المستقلة (صحيفة الشارع) نشر رسومات الحملة على صفحتها الأخيرة مع اطلاق دعوة من الفنان سبيع لكل من لديه في أسرته احدى ضحايا الاخفاء القسري بأن يرسل معلومات وصورة له كي يتم رسمها على الجدران. وكان الانتصار الحقيقي والأكثر رمزية الذي اتصل بالحملة هو كشف مصير أحد المخفيين قسريا منذ 23 – 10 – 1982 (مطهر الأرياني) الذي وجد في مصحة نفسية في مدينة الحديدة فاقدا للذاكرة. وعلى الرغم من أن الحملة لم ترسم وجه مطهر، إلا أنها أعادت تحريك الموضوع والاهتمام العام ونشطت اهتمام أسرته، الأمر الذي أسهم في الكشف عن مصيره. وفي اطار هذه الحملة التي استمرت لسبعة أشهر كاملة، بشكل أساسي في صنعاء علاوة على بعض الأنشطة في كل من تعز واب والحديدة، قبل أن تختتم أنشطتها في 4 – 4 – 2013 على الجدران الخارجية لكلية الآداب التابعة لجامعة صنعاء، رسم الفنان الشاب مراد سبيع ورفاقه وجوه مائة واثنين من المخفيين اليمنيين على الجدران المحايدة في شوارع المدن اليمنية، نافخا الحياة في هؤلاء المخفيين بعد طول غياب لهم، لتبدو وجوههم الآن مُحدقة بقسوة في ضمير جميع اليمنيين، وبشكل أساسي في ضمير هذه النخب السياسية التي تواطأت على طمس هذا الملف الأكثر فداحة انسانياً بين معظم الانتهاكات التي تعرض لها اليمنيون في تاريخهم الحديث.
لقد شكل الإخفاء القسري في اليمن احدى أبرز نتائج الصراع السياسي ودورات الدم التي ابتليت بها، وشكل الأداة المثلى لتصفية الخصوم من قبل الأطراف السياسية كافة التي حكمت في الشمال والجنوب قبل الاندماج بين الشطرين السابقين عام 1990. ولقد كانت حالات الإخفاء القسري الأبرز في الشمال مرتبطة بانقلاب الناصريين عام 1978 على صالح بعد عام من توليه الحكم، إضافة إلى الحالات الأخرى العديدة التي ارتبطت بنشطاء اليسار اليمني، والصراع العنيف الذي احتدم بين الحكومة والجبهة الوطنية الديمقراطية المدعومة من الجنوب في فترة استمرت من منتصف السبعينات حتى منتصف الثمانينات، ولم يتم حتى الآن الكشف عن مصير هذه الحالات إجمالا. أما في الجنوب، فقد ارتبطت حالات الإخفاء القسري بالصراع الداخلي في إطار الجبهة القومية منذ بداية السبعينات، إضافة إلى العدد الأكبر من الحالات التي ارتبطت بأحداث 13/1/1986 حين تفجر الصراع بين الرفاق في قيادة الحزب الاشتراكي الذي كان حاكما حينها. بعد الوحدة واندماج الشطرين السابقين عام 1990 لم تشهد الجمهورية الجديدة، التي تبنت الديمقراطية والتعددية السياسية وأقرت حرية الرأي والتعبير، حالات إخفاء قسري حتى وقوع حرب صيف 1994 التي ترتب عليها إقصاء الحزب الاشتراكي الحاكم سابقا في الجنوب، حيث نتج عنها عدد كبير من حالات الإخفاء القسري بعد الانتصار العسكري على قوات هذا الحزب. وفي كل هذه المراحل السياسية المتعاقبة، لم يشهد الفضاء العام أي نقاشات أو مطالب للكشف عن مصير المخفيين قسراً. لقد ظل هذا الملف الحقوقي مغيبا من الأطراف السياسية في المبادرات التي أطلقت عقب الحرب للتصالح الوطني، ومما عزز ذلك غياب التكوينات الحقوقية المؤهلة للتعامل مع هذا الملف.
بالتأكيد، مثلت زيارة وفد من المفوضية السامية لحقوق الإنسان صنعاء وعدن في الفترة 17-21 أغسطس 1998، أول تحريك لهذا الملف، حيث قام هذا الوفد برصد عدد من الحالات، وقدم تقريرا بها إلى الحكومة اليمنية في وقت لاحق، تبين أن القائمة الدولية تحوي على 160 اسما فقط، وأن عددا كبيرا من أقارب المفقودين، لم يعلم بزيارة الوفد، وبعضهم لا يعلم أصلا بأن قضية المختفين متداولة بين الحكومة والمنظمة الدولية. وفي سياق الجهد الرسمي لتغييب هذا الملف وتجاوز مسؤولياتها عنه، حصرت الحكومة الملف في إطار حالات الإخفاء القسري التي وقعت في اليمن الجنوبي سابقا، وأشارت في بعض ردودها على المفوضية أنها قامت بتسوية أوضاع المخفيين في أحداث عام 1986 في الجنوب. وكان واضحا أن حكومة صالح قامت بالتوظيف السياسي لهذا الملف بحيث تخلي مسؤولياتها عن الحالات الأخرى في الشمال قبل الوحدة وبعد حرب 1994، كما تميز تعاطيها مع الملف بغياب الشفافية، بحيث لم يعلم الكثير من أسر المخفيين بإثارة الموضوع مع المفوضية الدولية، واقتصرت المعالجة على صرف رواتب ضئيلة لبعض أسر المخفيين في أحداث 1986، واشترطت في الكثير من الحالات استخراج شهادة وفاة للمخفيين لتصرف هذه الرواتب مستغلة الحاجة الاقتصادية لأسرهم.
في سياق تطور الحركة الحقوقية والصحفية في اليمن، بادرت صحيفة النداء المستقلة الى فتح ملف الإخفاء القسري لأول مرة بشكل علني عام 2007، ونشرت تحقيقات صحفية عن عدد من حالات الاخفاء القسري من الشمال والجنوب. وعلى اثر ذلك، استجابت عدد من المنظمات الحقوقية لهذا الملف بأشكال مختلفة توزعت بين الرصد والمتابعة وإصدار التقارير والتواصل مع المنظمات الدولية، وتشكلت لاحقا لجنة لمتابعة قضايا الإخفاء القسري من عدد المنظمات، توقف نشاطها لاحقا، بعد أول ندوة وطنية نظمها منتدى الشقائق العربي لحقوق الانسان والمركز الدولي للعدالة الانتقالية عام 2008 تحدث فيها بشكل علني لأول مرة عدد من أسر ضحايا الإخفاء القسري في اليمن من فترات زمنية مختلفة في مؤتمر صحفي خصص لهذا الحدث.
بعد حرب 1994، كانت حروب صعدة الستة التي اندلعت لأول مرة نهاية عام 2004 واستمرت حتى عام 2009، هي الحدث الأبرز التي عاودت معه ظاهرة الإخفاء القسري مرة أخرى. ومع حروب صعدة، تأسست ظاهرة الإخفاء القسري على ممارسة تمييزية مبنية على أساس طائفي وعرقي، استهدف من خلالها المنتمون للمذهب الزيدي وأولئك الذين ينتمون لأسر هاشمية، في الوقت الذي كان الإخفاء القسري في المراحل السابقة مرتبطا بطابع سياسي وايديولوجي، وقد كشف عن معظم جميع المخفيين المرتبطين بحروب صعدة بعد فترات إخفاء قسري تراوحت بين 3 و7 أشهر.
كما ارتبطت الاضطرابات في المحافظات الجنوبية والشرقية التي تصاعدت منذ عام 2007 واتصلت بنشاط الحراك الجنوبي بعدد من حالات الإخفاء القسري الذي استهدف بعض النشطاء لفترات محدودة قبل أن يتم الكشف عن مصائرهم.
بالتأكيد فتحت الثورة الشعبية في العام 2011 فضاء جديدا أتاح لأسر المخفيين قسريا التعبير بصوت مسموع. وشكلت الرابطة الوطنية لأسر المخفيين قسريا التي تأسست في العام 2012 من عدد من أسر هؤلاء المخفيين أول رابطة أهلية من نوعها لضحايا القمع السياسي والأمني في اليمن، والصراع على الحكم، من فترات مختلفة، وتتضمن هذه الرابطة نموذجا لاتصال القضايا الانسانية خارج الصراعات والتحيزات السياسية أو الايديولوجية أو المناطقية حيث انتمت اليها أسر من ضحايا الاخفاء القسري من الشمال والجنوب، على الرغم من الحساسية الجنوبية الكبيرة من اثارة أي نشاط حقوقي متصل بلمفات الصراع الجنوبية الجنوبية قبل الوحدة. وينتمي أهالي الضحايا إلى مناطق مختلفه في الشمال والجنوب والوسط، وينتمي أبناؤهم المخفيين إلى جماعات سياسية مختلفه منها اليساري والقومي أو ذلك المرتبط بالصراعات العسكرية في دوائر الحكم.
لم تستطع الرابطة الى الآن أن تطور نشاطا مؤسسيا وحقوقيا واسعا يتعدى البيانات الاعلامية والوقفات الاحتجاجية المحدودة والمشاركة في فعاليات حملة (الجدران تتذكر وجوههم) التي أطلقت بشكل مستقل عنهم بالأساس. وقد انضمت للرابطة أكثر من مائة أسرة بقليل حتى الآن، وهي لا تحظى سوى بدعم مجموعة من النشطاء والصحفيين وهو أمر غير كاف لاحداث تحول في أدائها. ولكن اجمالاً يُمكن التأكيد بأن تشكيل الرابطة بحد ذاته يُشكل تطور نوعيا في هذه القضية الأكثر تعقيداً، حيث تبدو النخبة السياسية اليمنية التي يُفترض ان تستجيب وتتحرك في هذه القضية الحقوقية المهمة متورطة فيها بشكل مباشر، ولا يحتكر نظام علي صالح الذي تم اقصاؤه وحده المسؤولية في جرائم الاخفاء القسري. وتشكل مقترحات قانون العدالة الانتقالية المقدم من قبل تحالف أحزاب اللقاء المشترك أو ذلك المقدم من الرئيس هادي التي يرفضها أهالي المخفيين قسرياً، تعبيرا عن قلق هذه الأطراف من فتح ملفات الماضي، ومحاولة قانونية من قبلهم يُجمعون فيها، حتى وان اختلفوا في التفاصيل، على حماية تاريخ الانتهاكات الخاص بهم، والذي يقع في قلبها موضوع آلاف اليمنيين الذين تعرضوا للاخفاء القسري، من النبش مره أخرى بما قد يكشف مسؤوليتهم المشتركة عنه.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، بلدان عربية أخرى



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني