بتاريخ 9-8-2014، داهم مكتب حماية الآداب العامة حمام الآغا وتم توقيف جميع الموجودين فيه من عمّال وزبائن وصاحب المحل. وتبعاً لذلك، تم الادعاء بحق 28 شخصاً بجرائم عدة منصوص عنها في قانون العقوبات وهي: التعرّض للاداب والاخلاق العامة (المادتين 531 و532) والاتجار بأشياء مخلة للحياء (المادة 533) ومجامعة مخالفة للطبيعة (المادة 534) بالنسبة للزبائن والعمّال، وتعاطي الدعارة السرية وتسهيلها (المادة 523) واغواء العامة على ارتكاب الفجور (المادة 526) والاعتماد على دعارة الغير (المادة 527) بالنسبة للعمال وصاحب المحل. بالإضافة الى التنديد بهذه التوقيفات الجماعية التي تستهدف المثليين في وقت تعلو المطالب بعدم تطبيق المادة 534 لتجريم العلاقات المثلية، يتبيّن وجود عدد من المخالفات القانونية في الإجراءات المتبعة بدأت منذ مباشرة التحقيقات الأولية وصولاً الى إخلاء سبيل الموقوفين. وتظهر هذه المخالفات توجّه المشرفين على التحقيقات لتغليب الطابع الجماعي للملاحقة على حساب حقوق الأفراد، ولانعكاس الأحكام المسبقة تجاه المثلية على التحقيقات. ونعرض أدناه أهم هذه المخالفات دون التطرّق الى مضمون التحقيقات حفاظاً على السرية واحتراماً لخصوصية المعنيين.
أولاً: بدء التحقيقات بطريقة غير قانونية ودون أي سبب مشروع
بدأت التحقيقات في ملف حمام الآغا خلال تحقيق روتيني من قبل الأمن العام مع شخص أجنبي فقد أوراقه الثبوتية. وقد ورد في المحضر الأسباب التالية لبدء التحقيقات: “تبيّن أن سلوك (الأجنبي) غير سوي وكلامه أيضا،ً فقمنا بإطلاع حضرة النقيب رئيس الشعبة فأمرنا بضبط إفادته وبالاطلاع على الهاتف الذي بحوزته حيث تبين أن الهاتف يحوي أفلاماً جنسية بين ذكور ويوجد محادثات جنسية بين(ه) وأشخاص حول عمليات مساج وعمليات جنسية، عندها قمنا بالاستماع لإفادت(ه)…” وبعد انتهاء الاستجواب، اتصل المحقق بالمدعي العام الاستنئافي في بيروت لإطلاعه عليه، فأشار المدعي العام الى توقيف الأجنبي وإحالته الى مكتب حماية الآداب العامة التابع لقوى الأمن الداخلي لاستكمال التحقيقات.
1. الأمن العام باشر بالتحقيقات دون أي دليل على وقوع جريمة: لم يظهر من المحضر أي إشارة الى ما تضمنه سلوك الأجنبي أو كلامه والذي قد يدل على احتمال وقوع جريمة ما، وتم الاكتفاء باعتباره “غير سوي”، وكأنه فقط “ما عجبهم راسه”. ولا يرد على ذلك بأنهم وجدوا أدلة ما حول نشاطه الجنسي داخل هاتفه الخليوي إذ لم يكن لديهم أي سبب مشروع للاطلاع على مضمون هاتفه أساساً.ويستدل من ذلك وجود ممارسات تمييزية لدى قوى الأمن يمكن وصفها بالـGay profiling أو “التنميط المثلي” كونها تعتمد على ما يظهر من الرجل (لباس أو تصرفات تعتبر غير ذكورية) من أجل المباشرة بتحقيقات دون وجود أي دليل حسي على وقوع جريمة. ويعتبر هذا النوع من الممارسات التمييزية على أساس الإنتماء لفئة عرقية أو دينية أو اجتماعية معينة من الممارسات غير القانونية في العديد من الدول لما تشكل من مساسا بالحقوق المدنية والحريات الفردية خاصة مبدأ المساواة والحق بالخصوصية.
2. الامن العام توسع في التحقيق خارج اختصاصه دون اشارة النيابة العامة: رغم أن إحالة النيابة العامة إختصرت على إجراء تحقيق بموضوع فقدان الأوراق الثبوتية، توسع الأمن العام في التحقيق من تلقاء نفسه وباشر الى تفتيش هاتف الأجنبي والى استجوابه بصفته “مشتبه فيه” وليس “مستدعي” دون أن يستحصل على إشارة من النيابة العامة، علماً أن موضوع التحقيق (النشاط الجنسي) لا يدخل ضمن اختصاص الامن العام. وهو ما يشكل مخالفة للمواد 40 و47 من أصول المحاكمات الجزئية التي تشترط على الضابطة العدلية الحصول على تكليف من النيابة العامة من أجل استقصاء الجرائم خارج الجريمة المشهودة وتمنعهم من تفتيش الأشخاص دون إذن مسبق تحت طائلة ابطال التحقيقات. إلا أن المدعي العام غض النظر عن هذه المخالفة مما فتح الباب أمام امكانية تنفيذ المداهمة على حمام الآغا.
ثانياً: معاقبة الجماعة على حساب الحقوق الفردية
تبرز المخالفات التالية إرادة واضحة لدى النيابة العامة بمعاقبة جميع الموجودين في الحمام دون التحقق من مدى توافر شروط التوقيف والملاحقة لكل فرد منهم:
3. قرار مسبق بتوقيف جميع الموجودين في الحمام: قبل مباشرة المداهمة، أشار المدعي العام بـ “توقيف جميع العاملين داخل المحل مع الزبائن ومالكه بعد التثبت من وجود أعمال مخلة بالآداب…” فاعتبر أن الوجود في الحمام سبباً كافياً لتوقيف الجميع (ومن ضمنهم الزبائن) متجاهلاً ضرورة وجود شبهات قوية لارتباط كل شخص منهم بالجرائم الملاحقة. وعلى اعتبار أن الجريمة أصبحت مشهودة بعد مداهمة الحمام نظراً للأدلة التي وجدت داخله، تأتي إشارة توقيف جميع الموجودين في الحمام مخالفة لأصول المحاكمات الجزائية (المواد 31 و32 و41) التي تفرض التمييز بين فئتين من الأشخاص الموجودين في مكان وقوع جريمة: “الشهود” أي من “شاهدوا الجريمة أو توافرت لديهم معلومات عنها” فيتم الاستماع الى شهادتهم دون توقيفهم، و”المشتبه فيهم” أي من “توافرت فيه(م) شبهات قوية” فيتم توقيفهم واستجوابهم. ومن الواضح من روحية القانون أن مجرد الوجود في مكان الجريمة لا يمكن بحد ذاته أن يشكل “شبهات قوية” للارتباط بالجريمة.
4. موقوف مجهول وصامت: ما يعزز القناعة بالطابع الجماعي للملاحقة على حساب حقوق الأفراد هو إغفال المحققين استجواب أحد الموقوفين وهو من عمّال الحمام. فلم يتم الاستماع الى إفادته في أي من مراحل التحقيق ولم يتم إعلامه بحقوقه، وذلك رغم توقيفه واحتجازه في نظارة مكتب حماية الآداب والادعاء بحقه ونقله الى سجن زحلة. كما لم يتم التثبت من هويته في المحضر إذ اكتفى المحضر بالاشارة الى اسمه ومواصفته ضمن لائحة الموقوفين دون أن يتم تدوين جنسيته وعمره وعنوانه وكأنه “موقوف مجهول الهوية”. والأسوء أن محضر الاستجواب لدى النيابة العامة (وهو محضر شكلي ينظم غالباً دون قيام المدعي العام باستجواب الموقوفين فعلياً) اختصر مضمونه على عبارة “اكرر افادتي الأولية” دون أي حرج على عدم وجود افادة أولية. وقد تشكل هذه المخالفة إحدى أخطر المخالفات في هذا الملف وانتهاكاً فاضحاً لأصول المحاكمات الجزائية (المواد 32 و41 و47) وللحقوق الأساسية للموقوف.
5. عدم توثيق جميع الإفادات: ترددت في إفادات عدد من العمّال أنهم كانوا قد أنكروا سابقاً مضمون إفاداتهم دون أن يتضمن المحضر أي إفادات سابقة لهم. وتثير هذه المخالفة قلقاً لإمكانية تعرّض الموقوفين لأعمال الشدة والإكراه وصولاً الى التعذيب من أجل ارغامهم للادلاء بمعلومات، علما أن من حقهم التزام الصمت خلال الاستجواب من قبل الضابطة العدلية.
6. الادعاء بحق زبائن في غياب أي دليل: وما يؤكد أكثر هذا الطابع الجماعي للملاحقة هو إدعاء المدعي العام بحق جميع الموقوفين بناء لعدة جرائم دون توفّر أدلة على ارتباط معظم الزبائن بالجرائم المدعى بها. فكما قرار التوقيف الاحتياطي، يستند الادعاء بحق معظم الزبائن فقط الى وجودهم في الحمام في وقت المداهمة دون أي دليل آخر.
ثالثاً: الانتهاكات لخصوصية الموقوفين نتيجة الأحكام المسبقة تجاه المثلية7. إخضاع جميع الموقوفين لفحص السيدا دون أي مبرر:بإشارة من المدعي العام، أُخضع جميع الموقوفين لفحص الكشف عن مرض السيدا دون أن يظهر في الملف أي مبرر لذلك، بما أن هذا الفحص لم يقدم أي دليل مفيد للملاحقة وجاء عرضياً دون أي أثر على مجريات التحقيق. وقد أجري هذا الفحص دون موافقة الموقوفين من قبل أحد المحققين في مكتب حماية الآداب وليس من قبل طبيب، ما يشكل مخالفة للأصول الجزائية التي تفرض تعيين طبيب من أجل معاينة الموقوف في حال طلبه ذلك (المادتين 32 و42). ويشكل هذا الإجراء انتهاكاً لخصوصية الموقوفين ولسرية المعلومات المتعلقة بصحتهم خاصة أنهم أجبروا للخضوع اليه دون أن يطلبوا ذلك ودون تدوين موافقتهم. ويستدل منه وجود رابط غير مبرر في ذهنية النيابة العامة بين النشاط الجنسي ومرض السيدا على نحو يؤدي الى مخالفة الاصول وانتهاك خصوصية الموقوفين.
8. إخضاع جميع الموقوفين لفحص المخدرات: كذلك أُخضع جميع الموقوفين لفحص المخدرات بناء على إشارة المدعي العام، رغم عدم وجود أي دليل على إقدام أي منهم على تعاطي المخدرات وعدم ضبط أي مواد مخدرة. ولنتجية هكذا فحص تداعيات قانونية جدية بما أنها قد تؤدي الى الملاحقة بجرم تعاطي المخدرات. وبرغم عدم وجود أي مبرر لاخضاع الموقوفين لهذا الفحص، يؤشر هذا الاجراء أيضا الى وجود رابط غير مبرر في ذهنية النيابة العامة بين النشاط الجنسي وتعاطي المخدرات.
9. تفتيش هواتف الموقوفين: أشار المدعي العام بتفتيش هواتف جميع الموقوفين بعد المداهمة،ما سمح للمحققين بالاطلاع على مراسلاتهم وصورهم واستجوابهم عن مضمونها. وتثير هذه الممارسة اشكاليات قانونية عدة لما تتضمن من انتهاكلخصوصية الموقوفين وإعتراض لمراسلاتهم السرية. ففي وقت تتعامل الضابطة العدلية والنيابات العامة مع الهواتف الخليوية على أنها من الأدلة المضبوطة التي يمكن تفتيشها، يشكل هذا التفتيش مخالفة للقانون رقم 140/1999 الذي يمنع أي نوع من أنواع التنصت أو المراقبة أو الاعتراض أو الافشاءللمخابرات التي تجري بواسطة أي من وسائل الاتصال (كالخلوي والبريد الإلكتروني) إلا بناءً لقرار خطي ومعلل صادر عن قاضي التحقيق. وقد أقرّت مؤخراً المحكمة العليا في الولايات المتحدة الاميركية بعدم جواز تفتيش الهواتف دون إذن قضائي مسبق لما تتضمن من معلومات خاصة تفرض عدم جواز اعتباره من الأدلة المضبوطة كأي غرض آخر يحمله الموقوف.[1]
10. التدخل في النشاط الجنسي للموقوفين: لم يتردد المحققون في استجواب الموقوفين حول تفاصيل تتعلق بنشاطهم الجنسي. وقد ظهر من أسئلتهم عدد من الأحكام المسبقة تجاه المثلية، خاصة في ما يتعلق بأسبابها حيث برزت كليشيات تقليدية كارتباطها بالوراثة وبالتعرض الى تحرش جنسي (حتى أن أحد الموقوفين اضطرّ لأن يؤكد أنه لم يتعرض لأي حادثة تحرش في صغره). ويستدل من هذا النوع من الأسئلة قلة فهم المحققين للمثلية كأحد الميول الجنسية الطبيعية وضعف تدريبهم لمواكبة المفاهيم الاجتماعية والعلمية الحديثة، فنراهم يستعدون خطاباً مهترأً عن المثلية قد تجاوزه العصر الحالي.
رابعاً: الانتهاكات للحرية الشخصية
يشكل عدم الالتزام بالقواعد المتعلقة بالتوقيف وإخلاء السبيل انتهاكاً للحرية الشخصية للموقوفي،ن وهي من الحريات المحمية في المادة 9 من الدستور:
11. إصدار مذكرات توقيف رغم عدم توافر الشروط القانونية: أصدر المدعي العام مذكرات توقيف بحق جميع الزبائن رغم أنه تم الادعاء بحقهم بمقتضى جرائم لا تتجاوز عقوبة الحبس فيها مدة سنة، ما يشكل مخالفة للأصول الجزائية (المادتان 46 و107) التي تفرض توافر حالة الجنحة المشهودة المعاقب عليها بالحبس لمدة تتجاوز السنة من أجل إصدار مذكرة توقيف.
12. عدم إخلاء سبيل اللبنانيين بحق:تم اخلاء سبيل جميع الموقوفين من قبل القاضي المنفرد الجزائي في بيروت بعد مدة توقيف تراوحت بين أربعة وعشرة أيام لقاء كفالات مالية تراوحت بين 100 و300 ألف (باستثناء صاحب المحل). وجاء قرار فرض كفالات مالية على الزبائن اللبنانيين وقرار إخلاء سبيل أربعة منهم بعد أكثر من خمسة أيام من توقيفهم خلافاً للمادة 113 من أصول المحاكمات الجزائية التي تلزم إخلاء السبيل بحق (أي دون كفالة) بعد مرور خمسة أيام على التوقيف إذا كان الموقوف لبنانياً ولا تتجاوز عقوبة الجنحة الحبس مدة سنتين ولم يحكم عليه سابقاً.[2]
* محامية متدرجة وباحثة في القانون، عضو في المفكرة القانونية
نشر هذا المقال في العدد | 20 |آب/أغسطس/ 2014 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
ملاحظات المفكرة القانونية حول قرارالدستوري في قضية الإيجارات القديمة
للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك الضغط هنا
[1] United States Supreme Court
, Riley vs California, 573 U.S. ___ (2014)
[2] تنص المادة 113 من قانون أصول المحاكمات الجزائية: إذا كانت الجريمة من نوع الجنحة وكان الحد الأقصى للعقوبة لا يتجاوز الحبس مدة سنتين وكان المدعى عليه لبنانياً وله مقام في لبنان فيُخلى سبيله بحق بعد إنقضاء خمسة أيام على تاريخ توقيفه، شرط ألا يكون قد حكم عليه سابقاً بعقوبة جرم شائن أو بعقوبة الحبس مدة سنة على الأقل.