صدر قرار المجلس الدستوري بشأن موازنة 2024 بموافقة ثمانية أعضاء وتسجيل مخالفة لعضويْن، لكن الأغرب كان أنّه من بين الأعضاء الثمانية الموافقين تسجيل لأول مرة “مخالفة جزئية” لعضوين.
وبصورة تفصيلية، سجل العضوان ميراي نجم وإيلي مشرقاني مخالفة (من دون تحديد إذا كانت كاملة أو جزئية) على القرار بحيث صرّحا بوجوب إبطال قانون الموازنة برمّته على خلفية إقراره من دون قطع حساب وإقراره من دون التصويت بالمناداة، بمعنى أن المخالفة اتصلت بكامل مضمون القرار وإن يستشف منها قبول أصحابها الطعون شكلا. أما المخالفة الجزئية فقد صدرت عن عضويْن آخريْن هما ألبرت سرحان وميشال طرزي، وقد رفضت هذه المخالفة إمكانية توقيع النائب لأكثر من طعن واحد كون ذلك يشكل التفافًا على الدستور ما يوجب ردّ المراجعات اللاحقة التي حملت توقيع عشرة نواب فقط من بينهم نائب سبق له التوقيع على طعن آخر، كون ذلك يفقد المراجعات نصابها القانوني الذي يتيح قبولها شكلا من المجلس الدستوري. وقد أردفت المخالفة: “إننا نخالف ما ذهبت إليه الأكثرية جزئياً لناحية قبول الطعون الثلاثة الآتية شكلاً (…) مع موافقتنا على ما خلص إليه القرار أساساً باعتبار أن المجلس الدستوري، بموجب صلاحيته الشاملة حكماً جميع بنود القانون المطعون فيه، كان قد وضع يده أساسًا على جميع بنود قانون الموازنة منذ تقديم الطعن الأول رقم 2 وبتاريخ 15/2/2024 وبمعزل عن مدى إمكانية قبُول الطّعون المقدّمة لاحقاً شكلا”.
وعليه، يثور تساؤل فيما إذا توفرت الغالبية المطلوبة قانونا (وهي سبعة أعضاء) للقرار طالما أنه اتخذ بعد تسجيل 4 أعضاء مخالفتهم عليه. فبمعزل عن هذه الأكثرية المرتفعة التي يوجبها القانون وما نجم عنها من عرقلة لعمل المجلس الدستوري وفشله أحيانا في التوصل إلى نتيجة، لا بدّ من تسجيل سابقة وجود آراء مخالفة جزئية تتفق مع نتيجة القرار لكن تختلف في حيثياته وتعليله. وما يزيد من التساؤل إلحاحا هو أن المجلس الدستوري اجتهد في تفسير كيفية احتساب المهل القانونية التي يتوجب عليه خلالها إصدار قراراته. وفيما قرر أن كل طعن جديد يعيد إطلاق المهلة الأمر الذي سمح له عمليا بتمديد مهلة اتخاذه للقرار في الطعون المقدّمة بقانون موازنة 2024، فإن المخالفة الجزئية للعضوين هدفت تحديدًا إلى رفض قبول المراجعات اللاحقة لا سيما المراجعة رقم 6 بتاريخ 29 شباط 2024، ما يعني من ناحية أولى أن هذه المخالفة تعترف ضمنيا أن المهلة القانونية لصدور قرار المجلس الدستوري لم تتجدد وهي بدأت بالسريان منذ تقديم المراجعة رقم 3 بتاريخ 26 شباط 2024، وبالتالي يكون قرار المجلس الدستوري قد صدر على الأرجح بالنسبة لهذه المخالفة من خارج المهلة القانونية. لكن، ومن ناحية ثانية، المخالفة الصادرة عن العضوين ميراي نجم وايلي مشرقاني خالفت فقط القرار لناحية مضمونه ولم تتطرق لمسألة الطعون المتعددة ما يعني موافقتهما على اجتهاد المجلس الدستوري باعتبار أن كل طعن جديد يعيد إطلاق المهلة، وبالتالي يكون القرار قد حصل على موافقة ثمانية أعضاء في هذه النقطة.
إن هذه الإشكالية حول مفهوم المخالفة الجزئية يمكن مقارنته مع القرارات التي تصدرها المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأميركية. فهذه المحكمة تتخذ قراراتها بأكثرية خمسة أعضاء من أصل تسعة. ويحق للعضو المخالف أن يجاهر برأيه القانوني وأن ينشره مع القرار وهو ما يعرف بالرأي المخالف (dissenting opinion). لكن المحكمة العليا تقبل أيضا نوعا آخر من الآراء المخالفة وهي الآراء التي توافق على النتيجة التي خلص إليها قرار الأكثرية لكنه يختلف لجهة الأسباب القانونية التي أوصلت لتلك النتيجة وهو ما يعرف بالآراء المؤيدة (concurring opinion). لكن هذه الآراء لا تدخل في الأكثرية ولا تعتبر ملزمة من الناحية القانونية، ما يعني أن قرار المحكمة لا يمكن أن يتكون إلا من آراء الأعضاء الموافقين بالكامل على القرار في أسبابه ونتائجه.
لكن معضلة المخالفات الجزئية في قرار المجلس الدستوري الأخير لا يمكن حلها إلا إذا افترضنا أن هذا القرار في حقيقته ينطوي على موقفين: الموقف الأول هو الموافقة على توقيع النائب على أكثر من طعن، والموقف الثاني المتعلق بمضمون الطعن. فالموقف الأول حصل على موافقة ثمانية أعضاء (ستة أعضاء إضافة إلى العضوين نجم ومشرقاني) بينما الموقف الثاني حصل أيضا على موافقة ثمانية أعضاء (ستة أعضاء إضافة إلى سرحان وطرزي).
وهكذا يتبين لنا أن جميع المخالفات كانت مخالفات جزئية كون مخالفة نجم ومشرقاني رفضت الموقف الثاني (عدم إبطال قانون الموازنة برمته) لكنها وافقت على إمكانية توقيع النائب على أكثر من طعن (الموقف الأول). بينما مخالفة كل من سرحان و طرزي تبنت اتجاها معاكسا إذ هي عارضت القرار في موقفه الأول (تقديم النائب نفسه لأكثر من طعن) لكنها وافقته في موقفه الثاني المتعلق بمضمون القرار لجهة عدم إبطال قانون الموازنة برمته.
وبالتالي يمكن القول أن القرار حصل على الأغلبية المطلوبة، أي أغلبية سبعة أصوات لكن بشكل مركب وعلى مرحلتين: ثمانية أعضاء وافقوا أولا على الموقف الأول ومن ثم ثمانية أعضاء مختلفين وافقوا على الموقف الثاني.
تظهر هذه الإشكاليات أن قرار المجلس الدستوري الأخير كان مفتقرا إلى الوضوح لجهة آلية اتخاذه. فالقرار لا يوضح متى انطلقت المهلة القانونية لصدور القرار ولا متى تم تعيين المقررين ولا متى تم تقديم تقرير هؤلاء ولا كيف تجددت المهلة مع كل مراجعة جديدة الأمر الذي أدخل الحيرة والشك لدى جميع المراقبين إذ لم يتمكنوا من معرفة متى سيصدر قرار المجلس الدستوري ولا كيفية احتساب المهل. فالمجلس الدستوري كان يتوجب عليه معالجة هذه المسائل إضافة إلى مسألة توقيع النائب لأكثر من مراجعة في متن قراره وليس الاكتفاء بنشر المخالفات الجزئية التي زادت من التكهنات وأضعفت القرار لناحية رصانته القانونية.
فالمخالفات الجزئية تفتح المجال لتكوين أغلبيّات مركبة، وهو أمر جديد في كيفية صدور قرارات المجلس الدستوري في لبنان، ما يعني إمكانية تجزئة قرار المجلس الدستوري الواحد إلى مجموعة من القرارات الفرعية التي تحصل كل واحدة منها على موافقة سبعة أعضاء على الأقل حتى لو اختلفت هوية الأعضاء بين هذه القرارات الفرعية.
يبقى أن نذكر أن المادة 12 من قانون إنشاء المجلس الدستوري عندما أقرت سنة 1993 كانت تنص على أن قرارات المجلس الدستوري تتخذ بأكثرية سبعة أعضاء على الأقل “إلا أنه يحظر تدوين المخالفة”. وقد تم التشديد على عدم جواز تسجيل المخالفة عندما تم تعديل المادة 12 بموجب القانون الصادر في 30 تشرين الأول 1999 إذ بات النص وفقا للصيغة التالية “توقع القرارات من الرئيس وجميع الاعضاء الحاضرين بمن فيهم الاعضاء المخالفين وتبقى المخالفة شفهية ولا يشار إليها ولا إلى صاحبها لا في محضر الجلسة ولا في القرار”. لكن هذا التشديد سيزول مع القانون الصادر بتاريخ 9 حزيران 2006 إذ باتت المادة 12 الجديدة تنص على التالي: “توقع القرارات من الرئيس ومن جميع الأعضاء الحاضرين ويسجل العضو أو الأعضاء المخالفين مخالفتهم في ذيل القرار، وتعتبر المخالفة جزءاً لا يتجزأ منه وتنشر وتبلغ معه”. وهكذا تم تكريس إمكانية ليس فقط تسجيل مخالفة الأعضاء لكن أيضا نشر تلك المخالفة مع القرار في الجريدة الرسمية.
وقد بررت الأسباب الموجبة لهذا التعديل بضرورة ” تأمين الشفافية في قرارات المجلس الدستوري بحيث يتاح للعضو أو الأعضاء المخالفين تسجيل مخالفاتهم”. ولا شكّ أن السماح للعضو المخالف بالتعبير عن رأيه ونشر مخالفته يساهم في الحدّ من مبدأ سريّة المذاكرة المكرّس في المادة 9 من قانون انشاء المجلس الدستوري بحيث سيتمكّن المراقب من معرفة بعض جوانب المناقشات التي دارت بين الأعضاء والنقاط القانونية التي تمت إثارتها. كما يساهم نشر المخالفات في توضيح قرار المجلس الدستوري المتخذ من قبل أكثرية أعضائه هذا فضلا عن حماية حرية العضو المخالف وفتح مجال النقاش أمام المجتمع كون الرأي المخالف قد يصبح في المستقبل رأي الأكثرية. وبذلك، اعتمد نظام المجلس الدستوري مبدأ تدوين المخالفة، وهو المبدأ الذي تمايز به نظام أصول المحاكمات المعتمد في لبنان خلافا لما هو عليه الوضع في فرنسا.
في الخلاصة، أن القرار المجلس الدستوري سكت عن أهم اجتهاد له، أي القبول بتعدد الطعون من قبل النائب نفسه وما نجم عن ذلك بالقبول بالمخالفات الجزئية، الأمر الذي أوجد هذه الحيرة في فهم كيفية صدور القرار وحصوله على الأكثرية القانونية المطلوبة. فالمنطق القانوني يفرض علينا إعادة توصيف مخالفة كل من العضوين نجم ومشرقاني باعتبارها مخالفة جزئية تضاف إلى المخالفة الجزئية للعضوين سرحان وطرزي، ويفرض أيضا على المجلس الدستوري أن يعالج في متن قراره مسألة تعدد الطعون للنائب الواحد و استطرادا كيفية احتساب المهل وإلا يكون قرار المجلس مبهما وضعيفا من الناحية القانونية الأمر الذي أرغمنا على تفكيكه كي نتمكن من تكوين فهم جديد له.