بالتزامن مع مناخ يسوده التعتيم وحجب كل ما هو مختلف ومعارض من جانب الحكومة المصرية، أصدرت المحكمة الدستورية العليا بتاريخ 3/6/2017 حكماً بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 52[1] من القانون رقم 96 لسنة 1996 بشأن تنظيم الصحافة، فيما تضمنته من اشتراط شكل معين فى الشخص الاعتباري الخاص حتى يكون له الحق فى إصدار صحيفة. وكانت الفقرة المقضى بعدم دستوريتها تقصر حق الحصول على ترخيص بإصدار الصحف على الشركات المساهمة والتعاونيات دون غيرها من الأشخاص الاعتبارية الخاصة فيما عدا الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات. وهو ما يعني أن الأشخاص الاعتبارية الأخرى مثل الجمعيات الأهلية لا تستطيع إصدار صحيفة. وهو الأمر الذي دفع رئيس مجلس إدارة إحدى الجمعيات الأهلية[2] إلى إقامة دعوى أمام القضاء الإداري ضد رئيس المجلس الأعلى للصحافة بعدما رفض المجلس في عام 2003 الموافقة على إصدار صحيفة أسبوعية تحمل اسم "البيان" مملوكة للجمعية الأهلية. وتراءى للمحكمة عدم دستورية نص المادة 52 لمخالفتها أحكام المواد المواد 206، 207، 209 من دستور1971، ومن ثم حكمت بوقف الدعوى وإحالتها للمحكمة الدستورية للفصل فى دستورية النص. وبسبب صدور دستور جديد، فقد قررت المحكمة نظر دستورية النص وفقا للدستور الحالي الصادر عام 2014 وليس دستور 1971.
حرية التعبير كسند لضمان حرية الصحافة
أستندت المحكمة في حكمها على المادة 70 من الدستور الحالي، التي تكفل حرية الصحافة والطباعة والنشر، كما تخول للمصريين من الأشخاص الطبيعيين أو الأشخاص الاعتبارية العامة أو الخاصة الحق في ملكية وإصدار الصحف بمجرد الإخطار[3]. كما استندت المحكمة إلى المادة 65 من الدستور الحالي[4] والتي كفلت حرية التعبير عن الآراء وعرضها ونشرها سواء بالقول أو بالتصوير أو بطباعتها أو تدوينها أو غير ذلك من وسائل التعبير. كما اعتبرت المحكمة أن الدساتير المصرية المتعاقبة حرصت جميعها على تقرير الحريات والحقوق العامة فى صلبها قصداً أن يكون النص عليها قيداً على المشرع فيما يسنه من قواعد وأحكام فى حدود ما أراده الدستور لكل منها. وبالتالي فلا يجوز للسلطة أن تفرض وصايتها على العقل العام ولا أن تقيد حرية التعبير سواء عن طريق فرض قيود مسبقة على النشر أو من طريق فرض عقوبة لاحقة تقمع هذه الحرية. وعليه اعتبرت المحكمة أن حرية الصحافة لا بدّ وأن تقترن بحق الأشخاص في إصدار الصحف، وفقا للمادة 70 من الدستور، دون قصر هذا الحق على أشخاص دون آخرين.
وقد ألقى تقرير مفوضي المحكمة الدستورية الضوء على التناقض بين قانون الصحافة الحالي والصادر في ظل دستور 1971 الملغى وبين فلسفة الدستور الحالي بشأن الأشخاص الذين من حقهم ملكية الصحف.
فذكر أن المادة 45[5] من القانون شأنها شأن المادة 200 من دستور 71 ميزت بين الأشخاص الاعتبارية العامة والخاصة وبين المواطنيين العاديين وحصرت حق إصدار الصحف للأشخاص الاعتبارية العامة والخاصة، وحرمت المواطنين منها إطلاقاً، ثم جاءت المادة 52 -المقضى بعدم دستوريتها- لتميز بين الأشخاص الاعتبارية ذاتها، فأفردت وضعا خاصا للأحزاب والنقابات والاتحادات، واشترطت على باقي الأشخاص الاعتبارية إنشاء شركات مساهمة أو تعاونيات. بالمقابل، بينت المحكمة أن الدستور القائم كرس حرية إصدار الصحف بالإخطار من دون تمييز بين الأشخاص، فشكل النص المطعون عليه قيداً عليها.
الفرق بين الإخطار والترخيص
وبما أن المحكمة ذهبت إلى اعتبار اصدار الصحف بالإخطار وليس بالترخيص، فعلينا أن نطرح تساؤلاً حول الفوارق العملية بين الاثنين. وقد أوضح تقرير هيئة مفوضي المحكمة الدستورية ماهية الإخطار والسمات التي تميزه عن الترخيص الذى كانت تنشأ به الصحف فى ظل دستور 1971 وحتى الآن. فالترخيص هو باختصار استئذان الإدارة بممارسة النشاط ويتوقف بشكل كامل على إرادة جهة الإدارة المانحة. أما الإخطار فهو "مجموعة من البيانات يقدمها الشخص الراغب فى ممارسة نشاط معين لجهة الإدارة المختصة بهدف تنبيهها لعزمه على ممارسة هذا النشاط المذكور وليس طلباً ولا التماساً بممارسة هذا النشاط" أي أن الإرادة فيه هي إرادة الفرد بالكلية، إن شاء مارس النشاط وإن شاء انقطع عنه، ولا يعدو الإخطار أن يكون أداة إدارية لمتابعة الشأن التنظيمي لهذا النشاط، وذلك لأن إباحة ممارسة هذه الحرية نابعة من الوثيقة الدستورية ذاتها.
اختصاص المجلس الأعلى للإعلام
وقد أكدت المحكمة أن واضعي الدستور قد أقاموا على شؤون الصحافة مجلساً أعلى بنص المادة 211 منه[6]، وفوض السلطة التشريعية فى أن تحدد طريقة تشكيله ونظام عمله، والأوضاع الوظيفية فيه، وذلك فى إطار ما ألزم به الدستور هذا المجلس بأن يمارس أختصاصه بما يضمن حرية الصحافة واستقلالها وحيادها، ويحقق الحفاظ على أصول المهنة وأخلاقيتها، ومقتضيات الأمن القومي. ومن ثم أضحى المجلس الأعلى لتنظيم الاعلام الجهة الإدارية القائمة على شؤون الصحافة، سواء فيما تعلق بإصدار الصحف أو استمرارها أو مباشرة مهنة الصحافة ذاتها، مقيداً –فى ذلك كله- بألا يهدر عمله الحرية التى كفلها الدستور أو يفتت الاستقلال المقرر لها.
إلا أن قانون التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام رقم 92 لسنة 2016 والمنظم لعمل المجلس الأعلى للإعلام قد نص بالبند (2) من المادة الرابعة أنه من ضمن اختصاصات المجلس "تلقى الإخطارات بإنشاء الصحف" دون أن ينظم تقديم الإخطارات للمجلس ولم يوضح ماهية الإجراءات الواجب اتباعها فى شأن إخطار المجلس بإنشاء الصحف أو مواعيد تلك الإخطارت، مما يضع مؤسسي الصحف أمام معضلة كيفية إخطار المجلس بإنشاء الصحف.
آثار الحكم بعدم الدستورية
وحيث أن المشرع بقانون التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام لم ينظم إجراءات الإخطار بشأن تأسيس الصحف، وأكتفى بتسمية الجهة التى تتلقى الإخطارات، فإنه يجب عليه أن يعدل التشريع الحالي (تنظيم الصحافة) نفاذاً للحكم بعدم الدستورية أو يصدر تشريعاً جديداً لتنظيم شؤون الصحافة يواكب أحكام الدستور المصري وأحكام القضاء والتطور الذى لحق بمهنة الصحافة من جهة أخرى.
وتبدو أهمية إصدار تشريع يعالج معضلة الإخطار لأنه إذا اكتملت متطلباته واستوفى شرائطه قانوناً، نشأ للمخطر الحق فى ممارسة حقه على النحو الوارد فى الإخطار. ويعني ذلك أن النص القانوني المراد استحداثه والمنظم للإخطار يجب أن يحدد متطلباته وشروطه، كبياناته ومواعيده فضلا عن الجهة التى تتلقاه.
وحيث ان الإخطار يفترض ابتداء أن يتقدم به من هو أهل قانوناً لممارسة هذه الحرية، وقد ذكرت الفقرة الأولى من المادة 70 من الدستور وهو ما أكدت عليه المحكمة أن الجميع مؤهلون لتملك وإصدار الصحف من أشخاص طبيعية واعتبارية عامة وخاصة، دون تمييز بينهم أو مفارقة حكمية، وبدون اشتراطات خاصة بالشكل القانوني وبمجرد الإخطار فقط .
[1] – تنص المادة 52 من القانون رقم 96 لسنة 1996 بشأن تنظيم الصحافة " ملكية الأحزاب السياسية والأشخاص الاعتبارية العامة والخاصة للصحف مكفولة طبقاً للقانون. ويشترط في الصحف التي تصدرها الأشخاص الاعتبارية الخاصة فيما عدا الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات أن تتخذ شكل تعاونيات أو شركات مساهمة على أن تكون الأسهم جميعها في الحالتين اسمية ومملوكة للمصريين وحدهم وأن لا يقل رأس مال الشركة المدفوع عن مليون جنيه إذا كانت يومية ومائتين وخمسين ألف جنيه إذا كانت أسبوعية ومائة ألف جنيه إذا كانت شهرية، ويودع رأس المال بالكامل قبل إصدار الصحيفة في أحد البنوك المصرية، ويجوز للمجلس الأعلى للصحافة أن يستثنى من بعض الشروط سالفة البيان.
ولا يجوز أن تزيد ملكية الشخص وأفراد أسرته وأقاربه حتى الدرجة الثانية في رأس مال الشركة على 10% من رأس مالها ويقصد بالأسرة الزوج والزوجة والأولاد القصّر.
ويجوز إنشاء شركات توصية بالأسهم لإصدار مجلات شهرية أو صحف إقليمية، ويسري على هذه الشركات الشروط السابقة "
[2] – رئيس مجلس إدارة جمعية أنصار الترابط الاجتماعى .
[3] -تنص المادة 70 من الدستور الحالى الصادر عام 2014 أن "حرية الصحافة والطباعة والنشر الورقى والمرئى والمسموع والإلكترونى مكفولة، وللمصريين من أشخاص طبيعية أو اعتبارية، عامة أو خاصة، حق ملكية وإصدار الصحف وإنشاء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة ، ووسائط الإعلام الرقمى. وتصدر الصحف بمجرد الإخطار على النحو الذى ينظمه القانون. وينظم القانون إجراءات إنشاء وتملك محطات البث الإذاعى والمرئى والصحف الإلكترونية."
[4] – تنص المادة 65 من الدستور الحالى على أن" حرية الفكر والرأى مكفولة. ولكل إنسان حق التعبيرعن رأيه بالقول، أو الكتابة، أو التصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر"
[5] – تنص المادة 45 من قانون الصحافة رقم 96 لسنة 1996 على أن " حرية إصدار الصحف للأحزاب السياسية والأشخاص الاعتبارية العامة والخاصة مكفولة طبقاً للقانون"
[6]– تنص المادة 211 من الدستور الحالى على أن " المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام هيئة مستقلة تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال الفنى والمالى والإدارى، وموازنتها مستقلة. ويختص المجلس بتنظيم شئون الإعلام المسموع والمرئى، وتنظيم الصحافة المطبوعة، والرقمية، وغيرها. ويكون المجلس مسئولاً عن ضمان و حماية حرية الصحافة والإعلام المقررة بالدستور، والحفاظ على استقلالها وحيادها وتعدديتها وتنوعها، ومنع الممارسات الاحتكارية، ومراقبة سلامة مصادر تمويل المؤسسات الصحفية والإعلامية، ووضع الضوابط والمعايير اللازمة لضمان التزام الصحافة ووسائل الإعلام بأصول المهنة وأخلاقياتها، ومقتضيات الأمن القومى، وذلك على الوجه المبين فى القانون. يحدد القانون تشكيل المجلس، ونظام عمله، والأوضاع الوظيفية للعاملين فيه. ويُؤخذ رأى المجلس فى مشروعات القوانين، واللوائح المتعلقة بمجال عمله.