في تموز 2024، أصدرت المحكمة الدستورية حكما قضى باعتبار نص المادة 40 من قانون الزراعة غير دستوري كونه يمنح الحاكم الإداري صلاحيات مماثلة للقاضي وبالتالي انتهاكا لمبدأ استقلال القضاء وحق الشخص في المثول امام القاضي الطبيعي.
صلاحيات الحاكم الإداري
حرصت وزارة الداخلية الأردنية على تعزيز صلاحيات الحاكم الإداري ليتمكن من اداء مهامه وواجباته باعتباره يمثل أعلى سلطة تنفيذية في منطقة اختصاصه الجغرافية[1]، وبالتالي القدرة على تنفيذ مهام الوزارة المتمثلة في حفظ الأمن والنظام العام وتعزيز الوحدة الوطنية وبسط سيادة القانون وحماية الحريات العامة. ويشمل ذلك مكافحة الجريمة، ونشر قيم الولاء والانتماء، والحفاظ على هيبة الدولة، ودعم اللامركزية، ومنح التراخيص الأمنية، وتعزيز قيم الوحدة الوطنية والعدالة والمساواة بين جميع المواطنين.[2]
وينطبق وصف الحاكم الإداري على مجموعة من الموظفين في وزارة الداخلية، ويختلف المسمى بحسب الرتبة والمنطقة الجغرافية التي يكون مسؤولا عنها. فمن الناحية الإدارية، يقسم الأردن إلى 12 محافظة، وكل محافظة تقسم إلى مجموعة من الألوية، وكل لواء يقسم إلى مجموعة من الأقضية. وبالتالي، الحاكم الإداري هو المحافظ الذي يتولّى شؤون المحافظة، والمتصرف الذي يكون مسؤولا عن اللواء ويتبع إداريا للمحافظ، أما القضاء فيُعّين عليه مدير قضاء ويتبع إداريا للمتصرف. وفي جميع الأحوال، يعتبر الحاكم الإداري رئيس الإدارة العامة في المنطقة المسؤول عنها جغرافيا، وأعلى سلطة تنفيذية فيها ويتقدم على جميع موظفي الدولة في تلك المنطقة.[3]
إلا أن صلاحيات الحكام الإداري أثارت الكثير من الجدل، بخاصة فيما يتعلّق ببعض التشريعات التي تمنحه مجموعة من الصلاحيّات مثل التوقيف الإداري بموجب قانون منع الجرائم والبتّ في الشكاوى، الذي يعتبر مجرّد المساس فيه من التابوهات من قبل الحكومة وأيّ تفكير بتعديل هذا القانون للمساس بصلاحيات الحاكم الإداري مرفوضا بشكل مطلق. لذلك ترفض الحكومة أيّة توصيات لإلغاء هذه القوانين او حتى إعادة النظر فيها من قبل المركز الوطني لحقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني وآلية الاستعراض الدوري الشامل لحقوق الإنسان.
وهناك قوانين أخرى منحت الحاكم الإداري صلاحيات أخرى مثل قانون الإدارة المحلية رقم 22 لسنة 2021 الذي جعل من المحافظ رئيس المجلس التنفيذي في المحافظة بالإضافة إلى عضوية المتصرفين الذين يرأسون الألوية في المحافظة، صلاحية مسح وتحديد قيمة العقارات بموجب قانون الملكية العقارية رقم 13 لسنة 2019، والتحري في شكاوى إتلاف أو الأضرار بالمزروعات والأشجار سندا لقانون صيانة الأشجار والمزروعات رقم 85 لسنة 1966.
وفي بعض الأحيان، يمنح الحاكم الإداري اختصاصا قضائيا؛ أي أن الجهة التي تمثل الإدارة العامة تمارس وظيفة ذات اختصاص قضائي كما هو الحال في قانون الزراعة رقم 13 لسنة 2015، حيث جاء في المادة 40 “تنظر دعاوى الحراج والمراعي أمام محاكم الصلح أو الحكام الإداريين ويتم البت فيها بصفة الاستعجال”، أي أن النص منح الحاكم الإداري اختصاصا مماثلا للقاضي، وقد سبق للقضاء الإداري الأردني أن اعتبر أن هذه القرارات ذات صبغة قضائية خرجت عن اختصاص محكمة العدل العليا سابقا[4]، إلا أنه بحسب قانون محكمة العدل العليا لسنة 1992 امتلكت المحكمة النظر في مثل هذه القرارات[5] وبقي هذا الاختصاص للمحكمة الإدارية بحسب قانون القضاء الإداري رقم 27 لسنة 2014.
دستورية المادة 40
تم الطعن بنص المادة 40 من قانون الزراعة المشار إليها أعلاه أمام المحكمة الدستورية، على اعتبار أنها تخالف المواد، 27[6]، 101[7]، 102[8]، 110، و128[9] من الدستور.
ووصلت المحكمة في حكمها رقم 6 لسنة 2024 إلى أن الدستور يقرر الحقوق وينظم الرقابة القضائية، وأن للمجلس القضائي وحده الحق في تعيين القضاة النظاميين بحسب أحكام المادة 98 من الدستور، وأن المحاكم النظامية تمارس اختصاصاتها في القضاء الحقوقي والجزائي سندا لأحكام المادة 103 من الدستور وبالتالي ضمن وصول الأشخاص لقاضيهم الطبيعي بحيث يحظر محاكمة أي مدني في أي قضية جزائية لا يكون جميع قضاتها مدنيين باستثناء جرائم محددة على سبيل الحصر.
وبالتالي يجب أن تقف سلطة المشرّع إزاء حق التقاضي عند حد التنظيم فلا تتجاوزه إلى الحظر أو الإهدار من دون أدنى مساس بالسلطة القضائية في ذاتها أو عزل لجانب من المنازعات عن ولايتها، وتجاوز القانون لهذا القيد الدستوري، ولو جزئيا، هو مخالفة صريحة لأحكام الدستور.
وبما ان نص المادة 40 استحدثت قضاء موازيا للقضاء الأصيل، وأعطى الحاكم الإداري على قدم المساواة مع القضاء النظر في دعاوى الحراج والمراعي، فإن ذلك يمثل خرقا لمبدأ الفصل بين السلطات، ويحول دون محاكمة الفرد الأمر الذي يستوجب عدم دستوريته.
يُمّثل القرار أهمية خاصة لعدة أسباب، أبرزها:
- التأكيد على فكرة القاضي الطبيعي وهو أمر لم تسبق الإشارة إليه في الأحكام القضائية، يُعدّ مبدأ القاضي الطبيعي ركيزة أساسية تكمل مبدأي استقلال القضاء وحياده، وينبثق من مبدأ المساواة أمام القضاء. فهو يضمن حقّ كل مواطن في أن ينظر في قضيته قاضٍ محدّد مسبقًا، من دون أي تدخلات خارجية أو تمييز. إلا ان القرار أشار إلى حدود هذا المبدأ بسبب النص الدستوري الذي استثنى جرائم الخيانة والتجسس والإرهاب وجرائم المخدرات وتزييف العملة من خضوعها للقضاء المدني بحسب المادة 101 من الدستور.
- لم تكتفِ المحكمة بدراسة القضية من منظورها الضيّق، بل توسعت في تحليلها مستندةً إلى موادّ إضافيّة من الدّستور لم يطرحها مقدّم الطعن صراحةً. شمل ذلك المادتين 98 و103، اللتين تدعمان مبادئ أساسية تمّ الاعتماد عليها للوصول إلى نتيجة مخالفة المادة 40 للدستور.
- تعزيز استقلال القضاء، يُؤكد القرار على استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، ويُمنع تدخّل أيّ جهة خارجية في الأحكام القضائية، مما يُعزز حياد القضاة ونزاهتهم، بالإضافة إلى المساهمة في ضمان حصول جميع الأفراد على محاكمات عادلة ونزيهة.
- يُمثل القرار خطوة هامة نحو تعزيز سيادة القانون ويُحذر من تجاوز أي جهة لأحكام الدستور والقانون.
تقييد الحقوق والحريات
سبق للمحكمة الدستورية الأردنية أن نظرت في دستورية قانون منع الجرائم الذي منح الحاكم الإداري صلاحية التوقيف الإداري، إلا أن المحكمة قررت أن هذه الصلاحيات متوائمة مع الدستور، وذلك لأن 8 من الدستور ربطت إلقاء القبض على أحد أو التوقيف أو الحبس أو تقييد الحرية بأحكام القانون وليس بقرار من السلطة القضائية كما هو الحال في أغلب الدساتير الحديثة. وهذا يفسر حكم المحكمة الدستورية العليا بفلسطين باعتبار قانون منع الجرائم غير دستوري لأن القانون الأساسي الفلسطيني نص صراحة من خلال المادة 11 على أنه لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته أو منعه من التنقل إلا بأمر قضائي وفق أحكام القانون. ويؤمل أن يفتح تكريس مبدأ القاضي الطبيعي الباب أمام إعادة نظر المحكمة الدستورية في توجهها السابق.
وبالعودة إلى الفصل الثاني من الدستور الأردني، نجد أن أغلب الحقوق والحريات يمكن تقييدها من خلال القانون فقط دون أية ضوابط أخرى مثل شرط الضرورة أو ربط القيد بمصلحة مشروعة مثل الأمن القومي، النظام العام، الصحة العامة، الآداب العامة، أو احترام حقوق الآخرين وسمعتهم. ويستثنى من ذلك، تعطيل الصحف ووسائل الإعلام إلغاء ترخيصها[10] و المراسلات البريدية والبرقية والمخاطبات الهاتفية[11]، إذ تم ربط القيد بأمر قضائي وفق أحكام القانون، في حين أنّ القيد على حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد هو أن لا تكون مخلة بالنظام العام أو منافية للآداب[12]
وبالتالي يمكن منح صلاحيات واسعة للإدارة العامة لتقييد هذه الحقوق دون أن يعتبر ذلك مساسا بأحكام الدستور، وبالرغم من خطورة هذه المعالجة للحقوق والحريات في الدستور، إلا أن ذلك لم يعتبر أولوية من القوى المدنية أو المطالبات بتعديل الدستور.
[1] نظام التشكيلات الإدارية رقم 47 لسنة 2000.
[2]المادة 4 من نظام التشكيلات الإدارية رقم 47 لسنة 2000.
[3] المواد 7، 28، 44 من نظام التشكيلات الإدارية رقم 47 لسنة 2000.
[4] انظر على سبيل المثل حكم محكمة العدل العليا رقم 68 لسنة 1982، حيث جاء قي القرار ” يتضح من نص المواد 94، 95، 99 ، 108 من قانون الزراعة رقم 20 لسنة 1973 ان اختصاص الحاكم الاداري في نظر دعاوى الحراج بمقتضى قانون الزراعة هو اختصاص قضائي وان قراراته التي يصدرها في هذه الدعاوى تعتبر ذات صبغة قضائية. واستقر اجتهاد محكمة العدل العليا على ان قرارات الادارة ذات الصبغة القضائية لا تخضع للطعن امام محكمة العدل العليا الا إذا وجد نص صريح على خلاف ذلك.
[5] الحكم رقم 554 لسنة 2003 – محكمة العدل العليا ” إذا كان القرار المشكو منه صدر عن جهة إدارية ذات اختصاص قضائي في الدعاوى الحرجية وفقاً لأحكام المادة (42/ب) من قانون الزراعة، فان محكمة العدل العليا مختصة وظيفياً للنظر في هذه الدعوى، حسب المادة (9/أ/11) من قانون محكمة العدل العليا رقم (12) لسنة 1992″
[6] تنص المادة 27 على ” السلطة القضائية مستقلة تتولاها المحاكم على اختلاف انواعها ودرجاتها وتصدر جميع الاحكام وفق القانون باسم الملك”
[7] تنص المادة 101 على “(1) المحاكم مفتوحة للجميع ومصونة من التدخل في شؤونها. (2) لا يجوز محاكمة أي شخص مدني في قضية جزائية لا يكون جميع قضاتها مدنيين، ويستثنى من ذلك جرائم الخيانة والتجسس والإرهاب وجرائم المخدرات وتزييف العملة. (3) جلسات المحاكم علنية إلا إذا قررت المحكمة أن تكون سرية مراعاة للنظام العام أو محافظة على الآداب، وفي جميع الأحوال يكون النطق بالحكم في جلسة علنية. (4) المتهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم قطعي.”
[8] تنص المادة 102 “تمارس المحاكم النظامية في المملكة الاردنية الهاشمية حق القضاء على جميع الاشخاص في جميع المواد المدنية والجزائية بما فيها الدعاوى التي تقيمها الحكومة او تقام عليها باستثناء المواد التي قد يفوض فيها حق القضاء الى محاكم دينية او محاكم خاصة بموجب احكام هذا الدستور او اي تشريع آخر نافذ المفعول.”
[9] تنص المادة 128 على “(1) لا يجوز أن تؤثر القوانين التي تصدر بموجب هذا الدستور لتنظيم الحقوق والحريات على جوهر هذه الحقوق أو تمس أساسياتها. (2) إن جميع القوانين والأنظمة وسائر الأعمال التشريعية المعمول بها في المملكة الأردنية الهاشمية عند نفاذ هذا الدستور تبقى نافذة إلى أن تلغى أو تعدل بتشريع يصدر بمقتضاه”
[10] المادة 15 من الدستور الأردني لسنة 1952
[11] المادة 18 من الدستور الأردني لسنة 1952
[12] المادة 14 من الدستور الأردني لسنة 1952