بعد انتظار ستة أشهر، أصدرت الغرفة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية اليوم الخميس في 21 تشرين الثاني 2024 أوامر بالقبض على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت على خلفية مسؤوليتهما في عدوان إسرائيل على غزّة منذ 7 تشرين الأوّل 2023. وقد وجدت الغرفة أسبابًا معقولة للاعتقاد بارتكابهما معظم جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية التي كان قد استند إليها المدعي العام كريم خان في طلبه في أيار الماضي. يشكّل هذا القرار خطوة تاريخية في مسار السعي لتحقيق العدالة للفلسطينيين بعد عقود من إفلات الاحتلال الإسرائيلي من المحاسبة على الصعيد الدولي، بخاصّة لدى الأخذ بعين الاعتبار التهديدات والضغوطات الكبيرة التي تعرّض لها المدعي العام وقضاة المحكمة من قبل إسرائيل والولايات المتحدّة والتي بقيت من دون أي محاسبة جديّة، فضلًا عن رفض دولة إسرائيل صلاحية المحكمة لملاحقة قادتها.
وللتذكير، كان المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية كريم خان قد طلب في تاريخ 20 أيّار 2024 من الغرفة التمهيديّة للمحكمة إصدار أوامر القبض في هذه القضية. على إثرها، قدّمت بريطانيا مذكّرة بصفتها صديقة للمحكمة (Amicus Curiae Brief) لمطالبتها بعدم النظر في الطلب بحجّة غياب صلاحيتها سندًا لاتفاقيات أوسلو. وقد وافقت الغرفة على قبول مذكرة بريطانيا، وذلك في تناقض مع اجتهادها المستقرّ بعدم اللجوء إلى هذا النوع من المذكّرات إلا بشكل استثنائي في المرحلة التمهيدية. بعدئذ، تراجعتْ بريطانيا عن مذكّرتها من دون توضيح سبب تراجعها، ورفضت محكمة العدل الدولية في لاهاي صراحة أن يكون من شأن اتفاقيات أوسلو أن تقيّد تطبيق القانون الدولي (الرأي الاستشاري في 19 تموز 2024). إلّا أنّه رغم ذلك، فتحت الغرفة التمهيدية الباب لجهات أخرى لتقديم مذكرات مماثلة (قبلت الغرفة حوالي 60 مذكرة) ممّا أدّى إلى إطالة الإجراءات التمهيدية. وفي هذا الإطار، قدّمت دولة إسرائيل مذكرة رفضت فيها صلاحية المحكمة بحجّة عدم قبولها بها، ولكون السلطات الاسرائيلية تنوي إجراء تحقيق مع رعاياها فيما يتعلق بالأفعال الجنائية في حدود صلاحيتها القضائية. إلّا أنّ الغرفة التمهيدية رفضت هاتين الحجّتين ووافقت على طلب المدّعي العام بإصدار أوامر القبض بعد 7 أشهر من تقديمه.
تجدر الإشارة إلى أنّ الغرفة أصدرت أيضًا أمرًا بالقبض على محمد دياب إبراهيم المصري (المعروف بمحمد الضيف) بعد أن تثبّتت من وفاة إسماعيل هنيّة ويحيى السنوار، وذلك بناءً على الشبهات حول ارتكابه جميع الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي وردت في لائحة المدّعي العام فيما خصّ قادة “حماس”.
وقبل المضي بعرض الجرائم التي استندت إليها الغرفة لإصدار قرارها، نتوّقف بداية عند الآثار المتوّقعة لهذا القرار.
أي آثار لقرار الغرفة التمهيدية؟
إذًا، بات نتنياهو وغالانت اليوم ملاحقين دوليًا بشكل رسمي فيما يستمرّ الجيش الإسرائيلي بارتكاب الإبادة الجماعية في غزّة وعدوانه على لبنان. لكن من المتوقع أن تواجه المحكمة صعوبات في إلقاء القبض عليهما وتاليًا محاكمتهما.
فلا تملك المحكمة وسائل خاصّة بها لتنفيذ قراراتها، بل تعتمد لذلك على الدول الأعضاء فيها والتي يصل عددها إلى 124 دولة. وينصّ نظام روما الأساسي على التزام الدول الأطراف بالتعاون الكامل مع المحكمة في تحقيقاتها وملاحقاتها القضائية للجرائم الواقعة ضمن اختصاصها (المادة 86). فعند إصدار المحكمة قرارًا بالقبض، ترسل هذا الطلب إلى جميع الدول الأعضاء، وعلى هذه الأخيرة أن تمتثل لطلبات القبض وتسلّم المطلوبين للمحكمة (المادتين 59 و 89). ولا تبدأ محاكمة المتهمين إلّا لدى إلقاء القبض عليهم إذ لا تجري المحاكمة في حقّهم بشكل غيابي، إلّا في حال تنازلهم عن حقهم في الحضور أو تعذّر العثور عليهم على الرغم من اتخاذ جميع الخطوات المعقولة لضمان مثولهم (المادة 61).
وعليه، تؤدّي أوامر القبض هذه بشكل أساسي إلى تقييد حركة السفر لنتنياهو وغالانت بشكل كبير، لكون الدول الأطراف ملزمة بتوقيفهما في حال دخولهما إلى أراضيها، بخاصّة دول الاتحاد الأوروبي الذي يربطه اتفاق خاص مع المحكمة. وفيما سارعت الولايات المتحدة إلى رفض هذا القرار، علمًا أنّها لم تنضمّ إلى نظام روما، ذهبت دول أخرى (مثل إيرلندا وبلجيكا وهولندا) إلى تأكيد التزامها باستقلالية المحاكمة وتنفيذ قراراتها.
وقد سبق أن امتنعت بعض الدول الأطراف في نظام روما الأساسي عن تنفيذ قرارات المحكمة، وآخرها منغوليا التي رفضت تنفيذ قرار القبض ضدّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 2 أيلول 2024. وكان بوتين قد توّجه إلى منغوليا في أوّل زيارة له إلى دولة طرف في نظام روما منذ إصدار الغرفة التمهيدية في المحكمة قرارًا بالقبض في حقّه في آذار 2023. وقد رفضت منغوليا تنفيذ القرار متذرّعةً بحصانته بصفته رئيس دولة، وهو ما يتعارض مع المادة 27 من نظام روما التي تنص أن الحصانات المرتبطة بالصفة الرسمية للشخص لا تحول دون ممارسة المحكمة لاختصاصها. على أثرها، قضت الغرفة التمهيدية الثانية بأنّ منغوليا أخلّت بالتزاماتها الدولية بموجب النظام الأساسي، وأحالت المسألة إلى جمعية الدول الأطراف في نظام روما لأخذ التدابير اللازمة.
وبالرغم من العوائق التي قد تواجهها المحكمة لتنفيذ أمر القبض ضدّ نتنياهو وغالانت، يبقى أنّه من المتوّقع أن يكون لقرارها آثار متعدّدة على صعيد تعزيز موقف حركة التضامن مع فلسطين في العالم، كما على صعيد تدعيم الحجج القانونية المقدّمة في إطار دعوى الإبادة الجماعية المقامة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وفي إطار الدعاوى المرفوعة أمام محاكم وطنية لوقف تسليح إسرائيل استنادًا إلى الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني.
الجرائم المنسوبة لنتنياهو وغالانت
اعتبرت الغرفة التمهيدية أنّ القانون الإنساني الواجب تطبيقه في هذه القضية هو بشكل مزدوج قانون النزاعات المسلّحة الدولية وقانون النزاعات المسلّحة غير الدولية. لكنّها ارتأت ملاحقة جرائم الحرب المقترفة من الجانب الإسرائيلي وإصدار أوامر القبض ضدّ نتنياهو وغالانت وفقًا لقانون النزاع المسلّح الدولي، لاعتبارها أنّ أعمالهما تتعلّق بـ”أنشطة الهيئات الحكومية الإسرائيلية والقوّات المسلّحة ضدّ السكان المدنيين في فلسطين، وفي غزة تحديدًا”، “فضلًا عن العلاقة بين قوّة الاحتلال والسكان في الأراضي المحتلة”.
وقد استندت الغرفة التمهيدية لإصدار قرارها إلى جميع الجرائم التي ذكرها المدعي العام كريم خان في طلبه في أيار 2024، باستثناء جريمة الإبادة (أي extermination والتي تختلف عن جريمة الإبادة الجماعية أي genocide) وجريمة تعمّد إحداث معاناة شديدة أو إلحاق أذى خطير بالجسم والصحة. وعلى الرغم من إيجاد الغرفة أسبابًا معقولة تسمح لها بالاعتقاد بأنّ “نقص الغذاء والماء والكهرباء والوقود والإمدادات الطبية المحددة، خلق ظروفًا معيشية من شأنها أن تؤدّي إلى تدمير جزء من السكان المدنيين في غزة”، وعلى الرغم من تسليمها بوفاة المدنيين نتيجة لهذه الظروف بما في ذلك الأطفال بسبب سوء التغذية والجفاف، إلّا أنّها قرّرت عدم ملاحقة نتنياهو وغالانت بجريمة الإبادة لـ “عدم تمكنّها من تحديد تحقق جميع عناصرها”.
أمّا الجرائم التي وجدت الغرفة أنّه يتوّفر أسباب معقولة لنسبها إلى المتهمين، فهي التالية:
- تجويع المدنيين كوسيلة حرب: اعتبرت الغرفة أنّ المتّهمين قاما عمدًا وعن علم بحرمان السكان المدنيين في غزة من السلع الضرورية للبقاء (مثل الغذاء والماء والأدوية والإمدادات الطبية، فضلًا عن الوقود والكهرباء التي كان لها تأثير مباشر في تعطيل قدرة المستشفيات على توفير الرعاية الطبية)، وتعمّدا إعاقة وصول المساعدات الإنسانية. ورأت الغرفة أنّ القرارات الإسرائيلية القليلة بالسماح بدخول بعض المساعدات الإنسانية إلى غزّة، أتت تحت ضغوط المجتمع الدولي والولايات المتحدة ولم تحترم القانون الدولي الإنساني، بل أتت مشروطة ومن دون أن تكون كافية لتلبية حاجات السكان في غزة.
- جرائم ضدّ الإنسانية: اعتبرت الغرفة أنّ عددًا من الجرائم المنسوبة للمتهمين قد أتت ضمن هجوم واسع النطاق ومنهجي ضدّ السكّان المدنيين في غزة، ممّا يعني أنّها لم تعد مجرّد جرائم حرب بل أصبحت ترتقي إلى جرائم ضد الإنسانية. وهذه الجرائم هي: جريمة الاضطهاد حيث تمّ حرمان الفلسطينيين من حقوقهم، وأبرزها الحق في الحياة والصحة وتمّ استهدافهم على أساس سياسي ووطني؛ جريمة القتل العمدي للمدنيين؛ وأفعال لا إنسانية أخرى حيث أنّ غالانت ونتنياهو يتحمّلان مسؤولية منع الإمدادات الطبية والأدوية من الدخول إلى غزة، ولا سيما أدوية وآلات التخدير، ما ألحق معاناة كبيرة عن طريق الأعمال اللاإنسانية للأشخاص الذين يحتاجون إلى العلاج.
- تعمّد توجيه هجمات ضدّ السكان المدنيين: لم تُحمّل الغرفة نتنياهو وغالانت مسؤولية ارتكاب هذه الهجمات، بل قررت ملاحقتهما على أساس مسؤوليتهما بصفتهما الرئيسين المدنيين الأعلى والذين فشلا في منع ارتكاب هذه الجريمة وقمعها في إطار حادثتين محددتين.