المحكمة الإدارية والنزاع الانتخابي: ماذا يُخفي الجُنوح الإجرائي؟


2024-08-22    |   

المحكمة الإدارية والنزاع الانتخابي: ماذا يُخفي الجُنوح الإجرائي؟

انتَهى يوم الاثنين 19 أوت 2024 الطور الأول من النزاع الانتخابي، من خلال تصريح الدوائر الاستئنافية للمحكمة الإدارية بأحكامها الابتدائية، بعد أن تَقدّمَ المترشحون الّذين لم تَقبل هيئة الانتخابات ملّفاتهم بطعون أمام المحكمة الإدارية. وكانت هيئة الانتخابات قد أعلنت يوم 10 أوت المنقضي  قبول ثلاثة ترشحات من أصل سبعة عشر، تتعلّق بكلّ من قيس سعيّد وزهير المغزاوي والعياشي زمّال. فيما تقدّم فقط ستّة مترشّحين من أصل أربعة عشر من المرفوضين بطعون أمام المحكمة الإدارية، أملًا في الحصول على فرصة ثانية لخوض السباق نحو قرطاج، وهم على التوالي: ناجي جلّول وعماد الدايمي وعبير موسي المحتجزة حريتها منذ أكتوبر الفارط ومُحاميها عماد القريشي، وعبد اللطيف المكّي ومنذر الزنايدي وبشير العواني. اللافت أنّ المحكمة الإدارية رفضت كلّ الطعون المُقدَّمة، ثلاثة منها لأسباب شكلية، وثلاثة لأسباب تتعلّق بالمضمون، فيما لم تقبل الطّعن الّذي قدّمه المترشّح بشير العواني.

كان من المفترض أن تنطلق الطعون في القائمة الأولية للمترشحين الّذين قُبلت ملفّاتهم مباشرة إثر إعلان هيئة الانتخابات عن المقبولين. ولكن نظرًا لأنّ تاريخ الندوة الصحفية تزامن مع عطلة نهاية الأسبوع، فإنّ آجال الطعون بدأت فعليًّا يوم الإثنين 12 أوت. وينصّ القانون الانتخابي في فصله 46 على أن “يتم الطعن في قرارات الهيئة من قبل المترشّحين أمام الدوائر الاستئنافية للمحكمة الإدارية وذلك في أجل أقصاه 48 ساعة من تاريخ التعليق أو الإعلام”. ووَرَدت على المحكمة الإدارية إلى حدود يوم 13 أوت سبعة طعون من ستّة مترشحين. وبعد انقضاء آجال إيداع الطعون، انطلقت المرافعات بالدوائر الاستئنافية بالمحكمة الإدارية للنظر ابتدائيًّا في الطعون المُقَدّمة، يوم الأربعاء 14 أوت، لتشرع الدّوائر في التصريح بالأحكام يوم الجمعة 16 أوت إلى غاية يوم الاثنين 19 أوت. 

تقييدات شكلية تطغى على الأصل

وقد رُفضَ ملف المترشح ناجي جلول بسبب عدم إيداع صورتَين شمسيّتين في الملف، إلى جانب غياب ما يُفيد جنسيّة الجدّ، وفق بلاغ نشره المترشح على صفحته بموقع فايسبوك. فيمَا ذكرَ عماد الدائمي على صفحته الرسمية أن إسقاط الملفّ شكلا يعود إلى إيداع نسخة إلكترونية في شكل PDF، رغم أنّه أرفقها  بنسخة أخرى في صيغة Word إذ ينصّ القانون الانتخابي في فصله 46  أنّ عريضة الطعن يجب أن تكون مصحوبة بنسخة “رقميّة” منها حين إيداعها لدى كتابة المحكمة، ولم ينصّ القانون على صيغة هذه النسخة، وما إذا كان يجب أن تكون في شكل PDF أو Word. وقد نشر المترشح عماد الدائمي تدوينة على صفحته بفايسوك قال فيها إنّ: “الخلل الشكلي الذي تم إسقاط الطعن بسببه هو أننا سلّمنا العريضة للمحكمة في شكل PDF رغم أننا أرفقناه فيما بعد بنسخة word من العريضة والتقرير في خصوص رد الهيئة”، فيما يقول القاضي الإداري السابق عصام الصغير للمفكرة القانونية إنّ “مسألة طبيعة النسخة الالكترونية وما إذا كانت في صيغة Word أو PDF هي مسألة مُفتعَلة”، مُضيفًا أنّ هيئة الانتخابات “لم تكن محايدة مع المترشحين ولم تتعامل معهم بنفس الطريقة”، فيما يخصّ التثبّت من التزكيات. 

 وقد وضّح مبروك الحريزي عضو الفريق القانوني للمترشح عماد الدايمي للمفكرة القانونية أنّ هناك تعقيدًا وتعطيلًا في الحصول على التزكيات لضمان عدم وصول أي طرف غير الّذي في السلطة أو المترشحين الآخرين الّذين أطلَق عليهم توصيف “مترشحي الديكور”، مُشيرًا إلى أنّ القرار الترتيبي الّذي أصدرته الهيئة يتحدّث عن إمكانيّة تَصحيح الإجراءات قبل النظر في الملفات بصفة نهائية، إلا أن تركيز هيئة الانتخابات كان مُنصَبًّا على البطاقة عدد 03، بشكل أربك المترشّحين، في حين أنّ سبب إسقاط الملفّات كان يتعلّق بالأساس بالتزكيات الشعبية، وفق ما ذكَرَته الهيئة نفسها في الندوة الصحفية، ووفق ما أكّده للمفكرة عضو هيئة الانتخابات بلقاسم العياشي في تصريح سابق للمفكرة القانونية. 

“هذا عمل سلبيّ لإضعاف حظوظ المترشحين، والهيئة راسلتهم بخصوص بطاقة السوابق العدلية على سبيل التحذير لا التصحيح”، يُلخّص عضو الفريق القانوني لحملة عماد الدايمي مبروك الحريزي. وفي الأثناء لم يتمّ نشر قرار المحكمة الإدارية إلى حدود كتابة هذا المقال فيما يخصّ كلا من عبير موسي ومنذر الزنايدي، اللَّذين رُفضت ملفاتهما من حيث الأصل. وقد سعت المفكرة القانونية إلى التواصل مع عضو الفريق القانوني للمترشح منذر الزنايدي المحامية ليلى الوسلاتي، إلا أنّها اعتذرت “لعدم إلمامها بتفاصيل الملفّ”.

أمّا المترشح عبد اللطيف المكّي، فقد نظّم حزبه “عمل وإنجاز” ندوة صحفيّة -واكبتها المفكرة القانونية- ردًّا على قرار المحكمة الإدارية بخصوص رفض ملفّه، بسبب إخلالات شكليّة في التزكيات، رغم تجميع 17137 تزكية موزعة على 153 دائرة انتخابية، وفق ما ذكره محمود الرصاع، عضو الحملة الانتخابية. وذكَرَ أعضاء الحملة خلال هذه الندوة أنّ الدوائر المشمُولة بالنزاع الانتخابي أُسقِطَت فيها 149 تزكية بسبب أخطاء تتعلق بتاريخ إصدار بطاقة الهوية أو عدم تطابق لقب الأم المنصوص عليه في بطاقة الهوية مع لقبها في استمارة التزكية، أو بسبب إحجام بعض المزكّين عن ذكر أسمائهم الثلاثية أو عدم ذكر اسم الأم لأسباب ذاتية، ومخاوف من تضييقات قد تطالهم بسبب تعبيرهم عن مساندة مترشح مُعارض للسلطة، وفق تعبير أعضاء الحملة.

الامتحان الصعب للمحكمة الإدارية

إثر رفْض مختلف الطّعون ابتدائيًّا لأسباب شكليّة وأصلية، تسلّلَت بعض المخاوف حول جدوى المقاربة الإجرائية الصرفة للدوائر الاستئنافية للمحكمة الإدارية، الّتي تلُوح موغلة في الشكلانيّة على حساب التأسيس لحياة ديمقراطية -على غرار ما أشارت إليه قراءة سالفة للمفكرة القانونية لبعض قرارات الطعن- وتَضرب الحقّ في الترشّح كحقٍّ دستوريٍّ يكفله حتى دستور 2022 في فصله 39 الّذي ينصّ على أنّ “حقوق الانتخاب والاقتراع والترشح مضمونة طبقا لما يضبطه القانون”. 

في هذا السياق نَسّبَ بعض القضاة الإداريين السابقين الحكم على النزوع الإجرائي للمحكمة الإدارية،  باعتبار أنّ هنالك فرصة أخرى للنظر في طعون المترشحين في طور ثان للتقاضي أمام الجلسة العامّة للمحكمة الإدارية المتكوّنة من 27 قاضيًا، على اعتبار أنّ قرارات الدوائر الاستئنافية قد صيغت في مناخ يشوبه الخوف والتوجّس، وربّما ستتعدّل في إطار الجلسة العامّة التي يُنتظَر منها أن تُقدّم الحقّ في الترشح على بعض الأخطاء الشكلية المتعلّقة بتاريخ إصدار بطاقة الهوية أو لقب الأم، أو بعض النقائص الأخرى التي لا تضرّ جوهر التزكية. في حين عبّر أستاذ القانون العام وعميد كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس وَحيد فرشيشي في حوار مع المفكرة القانونية عن تفاجئه بالقرارات الصادرة عن المحكمة الإدارية والقاضية برفض كل الطعون المُقدَّمة، إذ يقول في هذا الصدد: “عوّدتنا المحكمة الإدارية على فقه قضاء مستقرّ منذ إحداثها في أواسط السبعينات، باعتبارها نصيرة للحقوق. الآن أغلب الأحكام تقضي برفض المطالب التي قُدّمت لها، وما أرجوه أن تواصل المحكمة الإدارية في توجّهها الحامي للحقوق والحريات وأن يتمّ تدارك هذه الأحكام في الاستئناف”. 

من جهته ذكَر مصدر قضائي مطّلع للمفكرة القانونية أنّ الطّابع “التقني” كان طاغيًا على قرارات المحكمة الإدارية، حتّى فيما يتعلّق بإسقاط اشتراط بطاقة السوابق العدليّة، مقارنةً بقرار المحكمة الصادر في 2014 الّذي تأسّس على مفهوم الاستقلالية وعلى معايير النزاهة، ورفض كلّ قاعدة من شأنها أن تعطي فرصة لمن في الحكم لاستغلال الإدارة للتضييق على المترشّحين. ويضيف المصدر: “هناك تأسيس ديمقراطي لقرار المحكمة الإدارية في 2014، ولكن الآن القرارات جافّة لا روح فيها، وتتضمن وأْدا للتنافسيّة وحدا لها، وقد أصبح القاضي تقنيًّا”. 

وفيما يتعلّق بالتزكيات يقول محدّثنا إنّها أُسقطت رغم أنّ المعطيات الواردة في الاستمارات كافية للتعريف بالمُزكّي، مُشيرًا إلى وجود “تشدّد كبير” في تطبيق القواعد والإجراءات: “القاضي الشكلاني ليس قاضيًا لتطبيق قيم الديمقراطية. والتزكية في جوهرها هي ضمان عدم تقدّم مرشّحين غير جدّيين، والحال أنّنا إزاء مترشحين قدّموا أكثر من عشرة آلاف تزكية فيما قدّم آخرون تزكيات من نوّاب الشعب. هناك تشدّد في الإجراءات يتعارض مع التعدّدية والتنافس التي تُعدّ من قيم الديمقراطية”، يُلخّص محدّثنا. 

وقد انطلق اليوم الخميس 22 أوت الجاري الطور الثاني للتقاضي في النزاعات الانتخابية من خلال عقد جلسات ترافع في قضيّتَين منشورتَين أمام أنظار المحكمة الإدارية في إطار النزاع الانتخابي، على أن يتمّ التصريح بمآلهما يوم 27 أوت القادم، فيما أعلنت المحكمة إيداع أربعة طعون في الأحكام الابتدائية الصادرة عن الدوائر الاستئنافية، حدّدت المحكمة تاريخ 25 أوت للترافع بشأنها، على أن يتمّ التصريح بالأحكام يوم 30 أوت المقبل، وفق بلاغ المحكمة. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم إدارية ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني