كان حمل الحجاب والنقاب قبل ثورة 14جانفي بتونس ممنوعا منعا باتّا حيث اعتبرهما نظام بن علي "زيّا طائفيّا" وهو مصطلح أطلقه النظام آنذاك على كل من يرتدي النقاب أو الحجاب أو أيّ لباس آخر له مغزى ديني وسنّ لهذا الغرض منشورا عرف بالمنشور 108 الذي يمنع إرتداء الزيّ الطائفي في الأماكن العامة وفي الشوارع و المدارس والجامعات وأعطت التعليمات من خلاله بحظر إرتداء النقاب والحجاب والتعرّض لكل من ترتدي هذا النوع من اللباس، غير أنّه بعد ثورة 2011 انتشرت ظاهرة حمل النقاب في صفوف شريحة واسعة من النساء التونسيات ليكون حمل النقاب داخل الجامعات محلّ جدل مجتمعي وقانوني لم ينته إلاّ بصدور الحكم في القضية 125265 عن المحكمة الإدارية بتاريخ 3 ديسمبر 2014[1].
1- الجدل المجتمعي والقانوني حول حمل النقاب بالجامعات:
نتج عن تنامي ظاهرة حمل النقاب في الشراع التونسي بعد الثورة نقاش مجتمعي حول ارتداء النقاب في الجامعات خاصّة مع حادثتين قسمتا الشارع التونسي إلى قسمين: الأولى جدّت في سبتمبر 2011وحصلت مع الطالبة مروى السعدي التي منعت من إستكمال إجراءات تسجيلها في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة ورافق ذلك إقتحام بعض السلفيين للجامعة المذكورة[2]. أمّا الحادثة الثانية فقد جدت في كليّة الآداب بمنوبة بالعاصمة التونسية في أواخر نفس السنة وتمثّلت في منع طالبة منقبة من إجراء إختبار كتابي ورافق ذلك تنفيذ الطلبة السلفيين إعتصاما داخل الكلية مطالبين بالسماح للمنقبات بدخول الجامعة[3].
ردود الأفعال على ما حصل في أروقة الجامعات التونسية كانت متعدّدة و متباينة إنقسم على إثرها الشارع التونسي إلى فريقين: الأول يرى أن النقاب زيّ دخيل على العادات والتقاليد التونسية يقصي أهمّ مقومات العيش الجماعي وهي التعرف على الأخر والتفاعل معه داعيا إلى منعه.أما الفريق الثاني فيمثله بعض المنظمات الحقوقية كجمعية حرية وإنصاف والمجلس الوطني للحريات، يرى أن النقاب حرية شخصية تندرج ضمن الحريات الفردية المكفولة للفرد داعين إلى حمايتها وعدم المساس بها.
انتقل الجدل حول مسألة النقاب إلى أروقة المحاكم عند لجوء الطالبة مروى السعدي إلى المحكمة الإدارية وتقديمها مطلبا في توقيف التنفيذ تحت عدد 413983 تمّ البتّ فيه بتاريخ 28 ديسمبر 2011 وأقرّت ضمنه المحكمة مبدأ أنّ:"وحيث لئن كان إختيار اللباس مظهر من مظاهر الحريّة الشخصيّة فإنّ ممارسة تلك الحرية، شأنها شأن كافّـة الحريات والحقوق الأساسية الفردية والعامة، تقتضي مراعاة تنظيم المرافق العامّة وحسن سيرهـا"…واعتبرت أنّ قيام العون المكلّف من إدارة المؤسّسة الجامعية بالتثبّت في هوية الطالبة عند إجراء الترسيم من خلال التّأكّد من مدى تطابق الأوراق الثبوتيّة المقدّمة مع شخصها إنّما يندرج، في ظلّ التراتيب الجاري بها العمل، "في نطاق الضوابط الّتـي يقتضيهـا حسن سير المرفق العمومـي للتعليم والحفاظ على مصالح الطلبة أنفسهم"[4] ورفضت الرئيسة الأولى للمحكمة آنذاك مطلب توقيف التنفيذ على هذا الأساس.
غير أنّ رفض قرار توقيف التنفيذ لم يحسم المسألة من الناحية القانونية باعتبار أنّ توقيف التنفيذ يندرج ضمن التدابير الإستثنائية والتحفظية ويتّخذ بناء على ظاهر أوراق الملفّ ودون تحقيق معمّق في القضيّة.
كما طرحت المسألة أمام القضاء الإداري ثانية بمناسبة طلب الإستشارة الخاصّة التي توجّهت بها الحكومة من الدوائر الإستشارية للمحكمة الإدارية حول إمكانية تنظيم حمل النقاب داخل الحرم الجامعي بمقتضى تدابير و تراتيب داخلية والتي صدر فيها رأي إستشاري تحت عدد 491 بتاريخ 10 جانفي 2012 وأكّدت فيه المحكمة أنّ تنظيم مسألة حمل النقاب داخل الجامعات يرجع لعمداء الكليات مؤكدة على ضرورة إيجاد توازن بين ضرورات سير المرفق و"حرية المعتقد واللباس الراجعة لمستعملي المرفق العمومي" ولم تحسم الإستشارة المسألة رغم ما أثارته من جدل حينها لأنّ موضوعها كان يقتصر على تحديد السلطة المختصة بتنظيم مسألة حمل النقاب أو حظره داخل الجامعات فضلا عن أنّ الآراء الإستشارية للمحكمة غير ملزمة لا للحكومة وللدوائر القضائية بالمحكمة نفسها[5].
2- الحكم الإبتدائي عدد 125265 وتكريس حقّ المنقبة في التعليم:
لم تحسم مسألة حمل النقاب بالجامعات إلاّ بصدور الحكم الإبتدائي عدد 125265 عن الدائرة الإبتدائية الثانية بالمحكمة الإدارية بتاريخ 3 ديسمبر 2014 في القضيّة التي رفعتها الطالبة مروى سعدي ضدّ عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة قصد إلغاء قرار رفض ترسيمها بالكلية تطبيقا لقرار المجلس العلمي لها الصادر في 6 أكتوبر 2011 والقاضي بمنع قبول المنتقبات بالفضاء الجامعي.
وتتمثّل وقائع القضيّة في أنّه على إثر نجاح المدّعية في امتحان الباكالوريا تولّت التوجّه لاستكمال إجراءات الترسيم بكلية الآداب بسوسة في اختصاص إجازة أساسية في اللغة والآداب والحضارة العربية إلا أنّ إدارة الكلية رفضت ذلك نظرا لارتدائها النقاب بتعلّة استحالة التعرف على هويتها وانه وبالرغم من توليها الاستظهار بملفها الدراسي وبطاقة تعريفها الوطنية وقبولها الكشف عن وجهها لأي امرأة أصرت الإدارة على موقفها الرافض لترسيمها وتولّى المجلس العلمي لكلية الآداب بسوسة اتخاذ قرار بتاريخ 6أكتوبر 2011 يقضي برفض قبول الطالبات المنتقبات في الفضاء الجامعي بما ذلك عملية الترسيم وحضور الدروس واجتياز الامتحانات وهو وما حدا بها للطعن فيه بالإلغاء وذلك بالاستناد أساسا على مخالفة القرار المطعون فيه للدستور والمواثيق الدولية بمقولة أن ارتداء النقاب يدخل ضمن حرية اللباس وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية المكفولة في كافة الدساتير والمواثيق الدولية ولاسيما المادة 18من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي اقتضت أنه لكل شخص الحق في الإعراب عن ديانته أو عقيدته بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان سرا أو مع الجماعة وكذلك المادة 26التي تقر لكل شخص الحق في التعليم. فضلا عن خرق مبدأ المساواة أمام المرفق العام بمقولة أن قرار المنع من الترسيم حرم فئة من التونسيات من حقّهن المشروع في الدراسة .
وأكّدت المحكمة في حيثيّة مبدئيّة أنّه"وحيث أنه وفي غياب نصّ يخول للجهة الإدارية منع المنقبات من الترسيم في الجامعات … يكون…قرارها القاضي بمنع العارضة من الترسيم غير مؤسس واقعا وقانونا ويتجه قبول الدعوى على هذا الأساس وإلغاء القرار المطعون فيه".
ويفهم ضمنيا من الحكم أنّ حرية اللباس مظهر من مظاهر الحرية الشخصية، وممارسة تلك الحرية،شأنها شأن كافة الحريات والحقوق والحريات الأساسية الفردية والعامة التي كفلتها الدستور والمواثيق الدولية، لا يمكن الحد منها إلا بنص قانوني وأكّدت أنّه في غياب قانون يحدّ من حرية حمل النقاب فإنّه لا يمكن الحدّ من هذه الحرية بمجرّد قرار من عميد الكلية أو مجلسها العلمي كما تكمن أهميّة الحكم كذلك في استناده ضمنا إلى الدستور والمعاهدات الدولية التي استندت إليها العارضة في عريضتها مؤكّدة ما دأب عليه فقه قضاء المحكمة الإداريّة من رقابة على مطابقة القرارات الإدارية للمعاهدات الدولية المصادق عليها.
وقد أنهى الحكم المذكور جدلا طويلا في الساحة القانونية والمجتمع المدني التونسي حول حق المنقبة في التعليم باعتباره أوّل إقرار قضائي لذلك الحقّ.
غير أنّ الحكم أقرّ ضمنيّا حريّة اللباس وصراحة حق التعليم مع التأكيد أن الحرية ليست مطلقة بل أنّه يمكن الحدّ شرط أن يكون ذلك بقانون وليس بقرار إداري ويجدر هنا التذكير أنّ الدستور التونسي ولئن أقرّ إمكانية الحدّ من الحريات والحقوق التي تضمّنها إلاّ أنّه إشترط أن لا يمسّ القانون بجوهر تلك الحقوق. كما أقرّت المحكمة ضمنا أنّ ممارسة حريّة اللباس والمعتقد يجب أن تكون في حدود ما تستلزمه ضرورات سير المرفق العمومي وكان أهمّ أسباب إلغاء قرار رفض ترسيم الطالبة إعترافها بضرورة ضمان سير المرفق وقبولها مبدأ الكشف عن وجهها لأي إمرأة من إدارة الكلية أو طالباتها.
وتجدر الإشارة إلى أنّ مسألة حمل النقاب أثارت جدلا مماثلا في فرنسا عند سنّ قانون حظر النقاب بالأماكن العامة وطرحت مسألة شرعية ذلك القانون أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي أقرت في حكمها الصادر بتاريخ 1/7/2014 أنّ قانون حظر النقاب لا يمسّ بالحريات العامة وحقوق الإنسان ووأنّ الحظر يبدو متوازنا مع الهدف المنشود وهو الحفاظ على العيش المشترك. ويجوز للحكومات منع إرتداء النقاب بالأماكن العامّة وهو حكم أثار نقاشا طويلا وكان محلّ إنتقاد من منظّمات حقوقيّة كبرى كهيومن رايتس واتش[6] وكان موقف المحكمة الإداريّة في القضية عدد 125265مغايرا لما تبنّته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بل وأكثر حمائيّة للحقوق والحريات.
ويمكن إعتبار الحكم الصادر في القضية عدد 125265حلقة جديدة في ما دأب عليه فقه قضاء المحكمة الإداريّة من حماية للحقوق والحريّات الأساسية وخاصّة حريّة المعتقد وما يرتبط بها من حريّة لباس ونتمنّى أن يكون حاسما للجدل المجتمعي والقانوني الطويل حول حريّة اللباس وضوابط ممارستها وهو جدل عاد ليطفو على السطح مع قضيّة منع مضيّفة من العمل على متن سفرات الخطوط الجوية التونسية مؤخّرا بتونس[7].
يمكنك تحميل الحكم على الرابط أدناه
للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك الضغط
[2] أنظر المقال المنشور بموقع
france24بتاريخ 8 أكتوبر 2011 تحت عنوان "200 متشدّد يقتحمون كلية في تونس دفاعا عن طالبة منقبة منعت من التسجيل:
http://www.france24.com/ar/20111008.
[3] يراجع المقال المنشور في جريدة الحصري الإلكترونية بتاريخ 28 نوفمبر 2011 تحت عنوان "اشتعلت في منوبة بسبب المنقبات وعميد الكلية محاصر ويفض الخروج إلا بحضور الجيش":
http://www.alhasri.com/.
[6] أنظر مقال موقع أورو نيوز بتاريخ 1 جويلية 2014 "المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تؤيّد قانون حظر النقاب بفرنسا" :
http://arabic.euronews.com/2014/07/01/
[7] أنظر مقال موقع الصباح نيوز بتاريخ 24 أفريل 2015"خاص-بعد-منعها-من-العمل-مضيفة-الخطوط-التونسية-المتحجبة-تتحدث-للـالصباح-نيوز" :
http://www.assabahnews.tn/article/103033