أصدرت عدد من الجمعيات الأمازيغية في المغرب بلاغًا بعد اطّلاعها على قرار تأديبي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية قضى بتوقيف قاضٍ عن العمل بعدما ظهر في صورة رفقة عددٍ من نشطاء سياسيين إلى جانب العلم الأمازيغي في احتفالٍ خاصّ بتخليد رأس السنة الأمازيغيّة.
القرار الذي تنشره المفكرة القانونية يؤكد أهمية نشر القرارات التأديبية الصادرة عن المجلس الأعلى للقضاء وإتاحتها للعموم -والذي كان مطلبا من مطالب نادي قضاة المغرب– بما يكفل المعرفة بتوجهات المجلس ويخضعها للنقاش العام انطلاقا من أن القضاء وضمنا الآداب القضائية شأنٌ مجتمعيّ.
ملخص القضية
تعود فصول القضية إلى تاريخ 17 يناير 2020 حينما توصّلت المفتشية العامة للشؤون القضائيّة بمعلومات مفادها أنّ أحد القضاة حضر يوم 11 يناير 2020 لقاءً نُظّم من طرف أحد الأشخاص على شرف ناشط في الحركة الأمازيغيّة. كما حضره ناشطون آخرون من نفس الحركة من بينهم عضو عن اللجنة التحضيرية لمشروع حزب سياسي أمازيغي، وأن القاضي المعنيّ بالأمر تابع دراسته العليا بالجامعة وكان وسط الجمعية الأمازيغية، ورغم تعيينه بالسلك القضائي بقي متشبثا بالوسط الأمازيغي، كما أنّ صفته كقاضٍ تفرض عليه التجرُّد المطلق والالتزام بواجب التحفّظ حيال الميدان السياسي والجمعوي.
وبناء على ذلك قامت المفتشية العامة بالاطلاع على منشورات بالجرائد الإلكترونية عبر الإنترنت، بخصوص انتماءات عدد من الحاضرين للقاء المذكور. كما قامت بالاستماع إلى القاضي المعني بالأمر حيث أفاد أنه قبل ولوجه سلك القضاء كان ناشطا في إحدى الجمعيات التي تُعنى بالقضية الأمازيغية، وأنه قطع صلته معها بمجرد التحاقه بالسلك القضائي لكنه ظل محتفظا ببعض العلاقات الإنسانيّة التي تجمعه ببعض أعضائها. وأضاف أنّه تلقّى دعوة من صديقه الذي يعمل كمهندس للحضور إلى بيته صحبة أبنائه لتناول وجبة الكسكس يوم السبت 11 يناير 2020. إلا أنه فوجئ بحضور شخصين آخرين، من بينهم أحد النشطاء في الحركة الأمازيغية، موضحا بأن الحفلة لم تكن على شرف هذا الأخير، و بأنه لا يتقاسم معهم أفكارهم، وأن رؤيته كانت دائما مختلفة عنهم حتى في الوقت الذي كان معهم عضوا نشيطا في الجمعية، وأن صلته بهم انقطعت منذ سنة 2000، أي قبل دخوله إلى السلك القضائي.
وعرضت المفتشية على القاضي المعنيّ بالأمر صورة فوتوغرافيّة يظهر فيها إلى جانب صديقه المهندس صاحب البيت وناشطين آخرين في الحركة الأمازيغية ومن خلفهم العلم الأمازيغي، حيث أوضح أن الصورة التقطت لهم صدفة ويجهل من التقطها، موضحًا أنه أول من حضر إلى بيت الضيافة ثم التحق بعده الآخرون دون أن يكون له علم مسبق بحضورهم.
وأضاف أنه ليس لديه أي انتماء، وأنّ حضوره تلك الوليمة كان في سياق عائليّ، مسترسلا أنه “لم يحسن التصرّف بعد حضور باقي الضيوف وتنصيب الراية الأمازيغية، إذ كان عليه مغادرة المجلس”، مضيفًا أنه “يجهل مصدر الراية الأمازيغية ولا علاقة له بها وأنها نصبت تزامنا مع وضع وجبة الغذاء”.
موقف المجلس الأعلى للسلطة القضائية
تمّت متابعة القاضي المعني بالأمر من أجل “الإخلال بواجب التحفظ والوقار”. وبعد مثوله أمام المجلس الأعلى للسلطة القضائية، أكّد أنّه اطّلع على ملفّه التأديبيّ وأنه مستعدّ لمناقشته، حيث أعاد تأكيد نفس التصريحات التي أدلى بها أمام المفتشية العامة، وقرر المجلس بعد المداولة، مؤاخذة القاضي من أجل المنسوب اليه، بعدما تبين له أن:
- القاضي المعني بالأمر ظهر في صورة فوتوغرافية إلى جانب أشخاص معروفين بأفكارهم “الإيديولوجية” وبمواقفهم السياسية المتطرفة، وبانتقادهم لبعض ثوابت الوطن؛
- الصورة تظهر القاضي إلى جانب أحد الأشخاص وهو “مؤسس لحزب تمّ حظره لنوازعه العرقية المخالفة لمبادئ الدستور ولا سيما العلم الوطني والدين الإسلامي”؛
- الصورة تظهر القاضي إلى جانب مجموعة من الأشخاص “ملتفين حول مائدة وخلفهم قد نصبت الراية الأمازيغية”، وهو الشيء الذي لم ينكره القاضي المتابع عند الاستماع إليه، كما ثبت أن القاضي المتابع على علم بهوية الأشخاص الحاضرين معه في اللقاء وبمواقفهم السياسية المتطرفة والمتشددة.
وقد اعتمد المجلس الأعلى للسلطة القضائية في قراره، على العلل التالية:
- إنه من المفروض على القاضي أن يبتعد عن إقامة علاقاتٍ غير ملائمة قد تولّد التباسًا لدى الرأي العام فيصنفه ضمن الفئة المنتمين إليها، أو تولد الاعتقاد لدى الغير بخضوعه لتأثيرها أو تشبعه بأفكارها؛
- يتعين على القاضي ألا يسمح لعلاقاته الاجتماعيّة أو الأسريّة بأن تؤثّر في سلوكه ومواقفه القانونية، وعليه أن يتجنب في سلوكه الظهور بمظهر يخرجه عن واجب التحفظ المفروض عليه بشكل يتنافى مع صفته القضائية؛
- إن واجب الوقار والتحفظ يحثّ القضاة على الاتّزان والتوازن في علاقاتهم التي يجب أن تتّصف بالانتقائيّة، كيلا تخلق لبسا لدى المواطن من شأنه المساس بالثقة في استقلال وحياد القضاء.
وقد خلص المجلس تبعا لذلك إلى أنّ “القاضي المُتابع بحضوره اللقاء المذكور وجلوسه في مكان منصب فيه شعارات فئة تخالف مبادئ الدستور المتعلقة بوحدة المغاربة، ومنع التمييز بينهم لأسباب العرق أو الجنس أو اللون… ، وكذلك جلوسه رفقة الأشخاص المشار إليهم أعلاه والمتبنين للأفكار المذكورة التي يمنعها الدستور يكون قد تصرف تصرفا منافيا للأخلاقيات الواجب على القاضي التحلي بها، وخرق واجبي الوقار والتحفظ المفروضين عليه بحكم صفته القضائية، ويستلزم مؤاخذته تأديبيا”.
وعليه، واستنادا إلى مبدأ التناسب بين الأفعال المرتكبة والعقوبة التأديبية[1]، قضى المجلس الأعلى للسلطة القضائية بإدانة القاضي المذكور من أجل ما نسب اليه من خروج عن واجب الوقار والتحفظ ومعاقبته بالتوقيف المؤقت عن العمل لمدة شهرين.
بيان بشأن التعليل المعتمد من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية
على إثر نشر المجلس الأعلى للسلطة القضائية لعدد من القرارات التأديبية الصادرة في حق القضاة ومنها القرار المذكور، أصدرت عدد من الجمعيات الأمازيغية[2] بيانا بشأن التعليل المعتمد من طرف الهيئة التأديبية للمجلس. وقد أكّدت فيه أنّ القرار التأديبي هو خارج عن السياق الدستوري بعد ترسيم اللغة الأمازيغية واعتبارها بعدا أساسيا من أبعاد الهوية الوطنية وملكا مشتركا لجميع المغاربة، كما دعا المؤسسات الدستورية إلى استعادة توازنها الفكري والابتعاد عن التقييمات الأيديولوجية، و”أن تنأى بنفسها عن الدخول في تأويلات سياسية تخرج عن اختصاصاتها”.
تعليق على القرار التأديبي
يعيد هذا القرار الذي تنشره المفكرة القانونية الى الواجهة أهمية نشر القرارات التأديبية الصادرة عن المجلس الأعلى للقضاء للعموم، كخطوة تهدف الى إقرار مزيد من الشفافية على عمل هذه المؤسسة الدستورية وإحاطة القضاة علما بالتوجهات السلوكية للمجلس والتي ينبغي عليهم أخذها بعين الاعتبار، وإتاحة الرقابة المجتمعية على أعمال المجلس تدعيما لكون القضاء شأنا مجتمعيا.
يلاحظ أن القاضي المعني بالأمر تنازل عن حقه في الدفاع، و اعترف ب”الخطأ” المنسوب اليه وذلك بتلبيته دعوة من بعض أصدقائه، وعدم مغادرته المكان بعد اكتشافه هوية بعض ضيوف اللقاء من النشطاء في الحراك الثقافي الأمازيغي.
استند المجلس الأعلى للقضاء في تعليل قراره بإدانة القاضي المذكور على موجب التحفظ، والذي تعرفه مدونة الأخلاقيات القضائية بأنه يعني “حرص القاضي في سلوكه وتعبيره على الاتزان والرصانة، وعدم ابداء آراء ومواقف من شانها المساس بثقة المتقاضين في استقلال وحياد القضاء”. معتبرا أن “تواجد القاضي المُتابع في مكان منصب فيه شعارات فئة تخالف مبادئ الدستور المتعلقة بوحدة المغاربة، ومنع التمييز بينهم لأسباب العرق أو الجنس أو اللون… ، وكذلك جلوسه رفقة الأشخاص المشار إليهم أعلاه والمتبنين للأفكار المذكورة التي يمنعها الدستور يكون قد تصرف تصرفا منافيا للأخلاقيات الواجب على القاضي التحلي بها، وخرق واجبي الوقار والتحفظ المفروضين عليه بحكم صفته القضائية، ويستلزم مؤاخذته تأديبيا”.
قرّر المجلس اتخاذ عقوبة التوقيف لمدة شهرين، وهي عقوبة تبدو قاسية بالنظر الى الفعل المرتكب والذي يبدو أنه ارتكب بدون قصد، وبالنظر إلى آثارها المالية والاجتماعية حيث تؤدي الى توقيف أجرة القاضي فورا وما يترتب عن ذلك من أضرار تتعدى القاضي المعني لتمس أيضا أسرته وهو ما يطرح أكثر من سؤال حول مدى احترام مبدأ التناسب بين الفعل وبين العقوبة.
اعتبرت الجمعيات الأمازيغية المنتقدة لقرار المجلس أنه يعكس عدم فهم للسياق الدستوري بعد ترسيم اللغة اللأمازيغية واعتبارها رافدا من روافد الهوية الوطنية وملكا مشتركا لجميع المغاربة، وليست أداة للمس بوحدة المغاربة كما جاء في القرار.
وتجدر الإشارة إلى أن العلم الأمازيغي شعار ثقافي يرمز الى الهوية الأمازيغية في منطقة شمال أفريقيا ويجسد القيم التضامنية والنضال المشترك من أجل الحقوق اللغوية والثقافية، ولا يعتبر علما سياسيا لأي كيان، حيث يُعبر اللون الأزرق عن البحر الأبيض المتوسط، أسفله اللون الأخضر الذي يعبر عن السهول وجبال الأطلس وغاباته، ثم اللون الأصفر الذي يعبر عن الصحراء الأمازيغية التي يعيش فيها الأمازيغ منذ القدم من المغرب وموريتانيا إلى واحة “سيوا”.
وإن كان القرار الذي تنشره المفكرة القانونية يحتمل أكثر من قراءة بحسب مضامينه فإن إمكانية عرضه على الرقابة القضائية اللاحقة من خلال ممارسة الحق في الطعن في القرارات التأديبية الصادرة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية طبقا لأحكام الدستور من شأنها أن تسهم في تفسير أوضح لمفهوم واجب التحفظ.
للاطلاع على نسخة من القرار التأديبي
مواضيع ذات صلة
قراءة في نتائج المجلس الأعلى للقضاء المغربي في مايو (2): التأديب بسبب كلمة أو صورة نقدية
هل يشكل انتقاد القضاة لمشاريع القوانين خروجا على واجب التحفظ؟ رأي على هامش قضية آمال حماني
رئيس نادي قضاة الجزائر أمام مجلس التأديب بتهمة المس بموجب التحفظ: “إنه وسام شرف… وسأطلب علانية المحاكمة”
قرار تاريخي لمجلس تأديب القضاة الفلسطيني ينتصر لحق القضاة في التعبير
المحكمة الدستورية بالمغرب تقر قانون اللغة الأمازيغية
تدريس الأمازيغية للملحقين القضائيين بالمغرب
الأمازيغية في مشروع التنظيم القضائي الجديد
هل تصبح الأمازيغية لغة مقبولة للترافع والمناقشات أمام المحاكم المغربية؟
ملاحظات “المبادرة الأمازيغية” حول مشروع تعديل قانون المسطرة المدنية في المغرب
المحكمة التجارية في المغرب تقضي بصرف شيك محرّر باللغة الأمازيغية
مقترح قانون جديد لتسريع ترسيم اللغة الأمازيغية بمحاكم المغرب
اشكالية تسجيل المواليد الجدد بالأسماء الأمازيغية بالمغرب
مقترح قانون جديد بشأن تسجيل الأسماء الأمازيغية في سجلات الحالة المدنية بالمغرب
مطالب متجددة في المغرب بجعل بداية السنة الأمازيغية يوم عطلة رسمي بالمغرب
بعد تكريس تمازيغت لغة رسمية في التعديل الدستوري الأخير: الإعتراف برأس السنة الأمازيغية في الجزائر
[1] تم التنصيص على مبدأ التناسب في المادة 99 من القانون التنظيمي رقم 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة.
[2] يتعلق الأمر بالجمعيات التالية: كونفدرالية الجمعيات الثقافية الأمازيغية بشمال المغرب-جمعية ايمال مراكش، المرصد الأمازيغي للحقوق والحريات، الفدرالية الوطنية للجمعيات الأمازيغية، هيئة شباب تامسنا الأمازيغي، جمعية أدوسكا للثقافة والتنشيط الثقافي.