“المحتوى غير الأخلاقي” تحت رقابة القضاء في تونس .. جدل تقليدي ومتجدّد


2024-10-30    |   

“المحتوى غير الأخلاقي” تحت رقابة القضاء في تونس .. جدل تقليدي ومتجدّد

ثلاثية القانون والأخلاق والحريّة أو أكثر تدقيقًا قدرة القانون الجزائي على الموازنة بين الحفاظ على “الآداب العامّة” وضمان ممارسة الحريات الفردية. هو جدل تقليدي يرتبط بما يُسمى “صناعة المحتوى” في المنصات الإلكترونية التي يتصاعد استعمالها مع تراجع جاذبية الإعلام التقليدي. وهي صناعة جديدة وبديلة طرحت إشكاليات مستجدّة منها التصوّر التجاري المحض للهوية الرقمية بخاصّة في ظل إغواء الربح السريع، وصناعة التفاهة، والانتهاك المفرط للخصوصية، وأيضًا تيسير استباحة النظام العام الأخلاقي بغض النظر عن جدل مضمونه ونطاقه. وهو ما يجعل هذه المنصّات أداة ميسّرة ليس فقط لانتهاك ضوابط مجتمعية، ولكن بما يمكن تكييفه أيضًا كجرائم. 

كان لافتًا، في هذا الجانب، إعلان وزارة العدل التونسية في بلاغ مؤخرًا ما اعتبرته “انتشار ظاهرة تعمد بعض الأفراد استخدام شبكات التواصل الاجتماعي وخاصة “تيك توك” و”انستغرام” لعرض محتويات معلوماتية تتعارض مع الآداب العامة أو استعمال عبارات أو الظهور بوضعيات مخلة بالأخلاق الحميدة أو منافية للقيم المجتمعية من شأنها التأثير سلبا على سلوكيات الشباب الذين يتفاعلون مع المنصات الإلكترونية المذكورة”. ليستتبع الإذن للنيابة العمومية باتخاذ الإجراءات القانونية للتصدي للممارسات وفتح أبحاث جزائية ضد المحتوى الرقمي المتعلق بـ”مضامين تمس من القيم الأخلاقية”.

وهو بلاغ لاقى احتفاءً ملحوظًا كما تبيّنه التفاعلات مع البلاغ الوزاري خاصة في ظلّ انتشار ما ظهرت “فضائح” مؤخرًا في المنصات الإلكترونية المذكورة. وهو احتفاء وإن يظهر، في جانب أوّل، الحاجة لإنفاذ القانون في الفضاء الرقمي، خاصة ما يتعلّق بالجرائم الأخلاقية هنا، فهو يثير، في جانب ثان، الخشية من سوء إعمال مبدأ الملاءمة، بما يؤدّي إلى تمدّد عصا السلطة بعد واقع الانتهاك الممنهج للحريات العامة. فلا يمكن قراءة البلاغ الوزاري بالضرورة خارج السياق الحقوقي في البلاد.

الجرائم الإلكترونية والآداب العامّة: وقفة ضرورية

عدا ما طرحته الاستعمالات الجديدة للفضاء الرقمي خاصة عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي مثل “تيكتوك” و”انستغرام” من واقع صناعة التفاهة وتسطيح الوعي وسلعنة التفاعل البشري، فإنها طرحت أيضًا واقع توظيفها في ممارسة أشكال جديدة من الجرائم. إذ مثّلت بالخصوص التطبيقات القائمة على صناعة الفيديو ساحة لممارسة الجرائم الأخلاقية على نحو استحدث مثلًا مفهوم “الدعارة الإلكترونية” (cyberprostitution) القائمة على عرض الجسد عبر الإنترنت دون عن التجاهر بأفعال تندرج ضمن ما يتعارض مع مفهوم الآداب العامة . وهو مفهوم وإن طالما مثًل تفسيره موضعا دائمًا في التطبيق القضائي، فهو يظلّ قارًا لتأسيس الحدّ من الحرية الفردية. إذ ورد في الفصل 55 من دستور 2022 كهدف مشروع لتقييد الحرية، على نحو ما ورد في دستور 2014، وكذا في الفصل 19 من العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية.

وتخصّص المجلة الجزائية قسمًا خاصًا للجرائم الأخلاقية مثل “التجاهر عمدًا بفحش” (الفصل 226)، و”الاعتداء على الأخلاق الحميدة والآداب العامة” (الفصل 226 مكرّر)، والتحرش الجنسي (الفصل 226 ثالثًا)، وعرض النفس للخناء خارج التراتيب المعمول بها (الفصل 231). فضلا عن أن الإساءة للغير عبر الشبكات العمومية للاتصالات (الفصل 86 من مجلة الاتصالات) بدورها قد تمثّل سندًا للتتبع.

وكانت انتشرت عربيا في السنوات الأخيرة موجة تشريعات لتجريم المحتوى “غير الأخلاقي” في الفضاء الرقمي على غرار قانون الجرائم الإلكترونية في ليبيا عام 2022 الذي يلزم الهيئة المختصة بحجب المواقع والصفحات التي تعرض “مواد مخلّة بالآداب العامة”. فيما أطلقت الحكومة العراقية في فيفري 2023 حملة إيقافات ضدّ مروّجي “المحتوى الهابط” شملت عددا من مشاهير المنصات الرقمية. كما تعرف مصر بدورها سلسلة إيقافات بين الفينة والأخرى لـصنّاع “المحتوى الهابط” بالخصوص من أجل جريمة “الاعتداء على المبادئ أو القيم الأسرية” (الفصل 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات). 

والملاحظ، في هذا السياق، أن المرسوم 54 في تونس المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال حدد أن نطاق التجريم في الفصل 24 تعلق بنشر بيانات تستهدف حقوق الغير، والأمن والدفاع الوطنيين، وبث الرعب بين السكان دون أن يمتد لحماية الآداب العامة، وهو ما يعني مبدئيًا عدم إمكانية توظيف الفصل المذكور في التتبعات القضائية المأذون للنيابة بإثارتها مؤخرًا، وإن تظلّ حقوق الغير بابًا مُشرّعًا على الأقل بالنسبة للتتبّعات المثارة على أساس التشكي من الغير من أجل انتهاك حقوقهم.

وليس موضع اختلاف حقيقة تصاعد توظيف عديد التطبيقات خاصة “تيكتوك” تحديدًا عبر تقنية “البث المباشر” في نشر فيديوهات تتضمّن أفعالًا وأقوالًا خاضعة لمفهوم التجاهر بما ينافي الحياء على سبيل المثال، خاصة من قبل “صنّاع” جلّهم مقيم في الخارج يحظون بمتابعة واسعة على نحو يوفّر لهم الشهرة ويدرّ عليهم أرباحا مادية، وذلك فضلا عن تبادل الشتائم و”غسيل الأعراض”. وهي ممارسات طالما جعلت نداء المساءلة القانونية يتصاعد خاصة في ظلّ أهمية أعداد المستخدمين، وبينهم قصّر خارج إطار الرقابة الأسرية، ممّن يتعرّضون لهذا المحتوى، وفي ظلّ تمثّل هذه الممارسات، بالنسبة لهذه الفئة الهشة بالخصوص، كوسيلة ناجعة للحظوة والربح السريع وذلك فضلا عن تأثيرها على تكوينهم التربوي والنفسي. وفي هذا الإطار، كان ملاحظًا أن البعض ممّن يُعرف بمعارضته السياسية للسلطة في تونس، لم يخفِ صراحة دعمه لبلاغ وزارة العدل، تأكيدًا على الحاجة لإنفاذ القانون الجزائي في الجرائم الأخلاقية في ظل “الفوضى الرقمية”.

التتبعات في السياق الحقوقي: صعوبة الفصل`

لكن بدا صعبًا فصل إذن وزيرة العدل للنيابة العمومية بإثارة تتبعات ضد مروّجي “المحتوى غير الأخلاقي” من جهة والواقع الحقوقي المتعلق بتراجع الحماية القضائية للحريّات وخاصة حرية التعبير والنشر من جهة أخرى. يفرض الربط نفسه من زاويتين الأولى هو دور السلطة التنفيذية في إثارة التتبعات القضائية، وثانيًا ارتباط التتبعات بمحتوى يكيّف في مستوى أول ضمن ممارسة الحريات بوجه عامّ على نحو يعزّز مخاوف أوليّة من تعسّف في التتبعات وفق تأويل موسّع لمفاهيم “التجاهر بما ينافي الحياء” أو انتهاك “الأخلاق الحميدة”. وهو ما يجعل اليقظة حاضرة في هذا المستوى سواء تكييف النيابة العمومية أو الهيئات الحكمية بخصوص مآل هذه التتبعات المنتظرة، وذلك مع ضرورة التمييز بين المحتوى الرقمي الذي يقدم مادة هابطة قيميًا يستند على الفضائحية والرداءة التي وإن لا يمكن قبولها بمعيار الذوق المجتمعي أو الجمالي، فهي تظلّ غير معنية بالتتبع الجزائي الواجب توجهه فقط نحو المحتوى المعني بالتجريم وفق القواعد الصارمة للنص الجزائي فقط. 

ولكن الخشية واقعًا هي في توظيف هذه الملاحقات، سياقيًا، بهدف إشباع نداء جمعي يعكسه مزاج عامّ، هو ذاته، للمفارقة، يوفّر أداة لتحفيز انتشار المحتوى المستهدف، وأيضًا بهدف التغطية على الملاحقات التي تستهدف الناشطين في الفضاء العام على خلفية تعبيرات تجرّمها السلطة. إذ يُخشى بالخصوص أن الاستدعاء المعلن لاستعمال القضاء خاصة عبر الإيقافات والعقوبات السجنية سيساهم في تعزيز قناعة جمهور واسع للحاجة الحتمية لعصا السلطة بغاية الزجر والردع داخل الفضاء العامّ. والقناعة المتصاعدة لدى هذا الجمهور تتقاطع مع السعي التقليدي لأجهزة الدولة للتمدّد في الفضاء العامّ لبسط نفوذها وفرض سطوتها.

في ضرورة الحذر وتفكيك المعقّد

إن مسألة معالجة المحتوى الرقمي المتضمّن لما هو متعارض مع الآداب العامّة وإن على أهمية مستواها القضائي ظاهرًا من زاوية إنفاذ القانون، فهي تستدعي معالجة معمّقة مرتبطة بأخلاقيات الاستخدام الإلكتروني ودور الإعلام التقليدي مع الحذر من السقوط في إسهال تتبعات تتضمّن مساءلة لما هو خارج التجريم. على نحو يستدعي إبداء الملاحظات الآتية:

  • أولًا، التنبّه من السقوط في الشعبوية القضائية القائمة على ادعاء وجود إجابات واضحة وصحيحة لمشاكل معقدة وقابلة للنقاش، عبر رفضها “الفوضى المتأصلة في الديمقراطية التعددية” وتبسيطها للقضايا. فالردع القضائي على ضرورته في مكافحة الجريمة الإلكترونية الأخلاقية كما صورة الحال، لا يجب أن يمتدّ لمحاسبة سوء الاستعمال للفضاء الرقميّ باعتبار أن صناعة الرداءة مثلًا ليست وليدة مروّجيها بل أيضًا مسؤولية متابعيهم وهم الجمهور العام الذي، في نفس الوقت، يبدو متحمّسًا لمدّ عصا الرقابة القضائية على من يروّجون لهم. مع الملاحظة لفرضية التقاطع بين ممارسة الشعبوية القضائية مع المحافظة المجتمعية للسلطة السياسية، وهو يعزز أهمية الرقابة الحقوقية على التطبيق القضائي خاصة على مستوى النيابة بوصفها جهة التتبع.
  • ثانيًا، حقيقة الشبهات المرتبطة بمعالم السياسة الجزائية للدولة فيما يتعلق بالجريمة السيبرانية وذلك في ظل الممارسة القضائية الممنهجة بعد 25 جويلية 2021 المستهدفة لحرية التعبير في الفضاء الرقمي سواء عبر القوانين الموجودة أو المستحدثة أساسًا المرسوم 54 وتحديدًا الفصل 24 الذي تم توظيفه لاستهداف الناشطين المعارضين للسلطة. هذا ما يجعل الإذن بإثارة الأبحاث الجزائية حول المحتوى غير الأخلاقي مشوب بانبنائه على عقل لا ينطلق من إعمال مبدأ الحرية أو تشوّف له، وهو المبدأ القابل للتقييد وفق ضوابط منها “الآداب العامة”، ولكن الخشية أن يكون التقييد غير ضروري أو غير متناسب تتبعًا وتجريمًا وعقوبة.
  • ثالثًا، الحذر من سقوط النيابة العمومية في إنفاذ تمييزي للقانون خاصة في ظلّ محدودية إثارة أي تتبعات على سبيل المثال ضد مروّجي الخطاب العنصري المتصاعد خاصة في الفضاء الرقمي والحال يوجد قانون خاصّ يجرّم التحريض على الكراهية والعنف والتفرقة على أساس التمييز العنصري، ويجرّم نشر الأفكار القائمة على التمييز العنصري أو حتى الإشادة بممارستها. عدم إثارة التتبعات على أساس قانون القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري الصادر عام 2018، كان قد أدى، لانتشار واسع لهذا الخطاب فعلًا وخاصة ضد المهاجرين السود من إفريقيا جنوب الصحراء. كما يُستذكر توظيف عديد الصفحات الإلكترونية في سحل ناشطين سياسيين وحقوقيين بالمساس بأعراضهم وتشويه سمعتهم. ولذلك، لا ريب أن التطبيق التمييزي للقانون يتعارض واقعًا مع مبدأ المساواة في القانون.
  • رابعًا، الحذر من توظيف النداءات المتصاعدة بـحجب المواقع والتطبيقات والصفحات بتعلّة تعارضها مع الآداب العامة أو لمجرّد مشاركتها في صناعة الرداءة والتفاهة، في تقييد حرية النشر بوجه عامّ، بما قد يؤسّس لحجب المحتوى السياسي في وقت لاحق بوجه خاصّ. يُذكر أنه على سبيل المثال حجبت الأردن، في وقت سابق، تطبيق “تيكتوك” بشكل مؤقت “بعد إساءة استخدامها وعدم تعاملها مع منشورات تحرّض على العنف ودعوات الفوضى” تحديدًا بعد تداول مظاهرات احتجاجية على ارتفاع أسعار البنزين في ديسمبر 2022. مع الإشارة، هنا، إلى أن تطبيق “تيكتوك” بالخصوص ليس بخارج عن الصراع الرقمي بين الصين راعية التطبيق والولايات المتحدة التي أقرّ مجلس نوابها في أفريل 2024 مشروع قانون لحظره في صورة عدم بيع الشركة الصينية المالكة لحصّتها في ظلّ ادّعاء تأثيره على الأمن القومي الأمريكي. وبذلك يجب أخذ الصراع على الفضاء الرقمي بين الدول الكبرى في عين الاعتبار في تناول خلفيات دعوات الحجب المتصاعدة بين الفينة والأخرى أيضًا.
  • خامسًا، التنبّه للمعايير المتحيّزة لشبكات التواصل الاجتماعي في ضبط قواعد الاستخدام عبر السياسات الترويجية للنشر خاصة عن طريق الخوارزميات التي تعزّز ترويج محتوى ما بغض النظر عن مضمونه بغاية توسيع دائرة المتابعة مقابل تقييد دائرة نشر محتوى آخر أو حتى منعه بعنوان أنه عنيف أو إرهابي على سبيل المثال وذلك بمعيار غير متلائم بالضرورة مع قناعات المستخدم. هذا التحيّز يجعل التطبيقات ذاتها ليست بمنأى عن المسؤولية، سواء ما يتعلّق بالمحتوى الداخل في نطاق التجريم أو خارجه، باعتبار أنها ليست مجرّد منصات عرض محايدة، بل هي منصات ربح تجاري قائمة على تكثيف الولوج إليها.
  • سادسًا، الإقرار إن تردّي المحتوى الرقمي لا ينفصل استتباعًا عن تردّي المحتوى في وسائل الإعلام التقليدية بما أنتج “الصحافة الصفراء” و”تلفزيون القمامة” التي تقوم على عرض مضامين سطحية ورديئة تستفرغ إشباع مزاج عامّ للتلصّص والفضائحية واختلاق تناول استعراضي لقضايا ثقافية ومجتمعية، وذلك بغاية الترفيع في نسب المشاهدة من أجل الربح التجاري فقط. لا يمكن، بالنهاية، معالجة المحتوى الرقمي “الهابط” دون العودة لأزمة جودة المضمون في الإعلام التقليدي. مع التأكيد أن معالجة رداءة المحتوى هو خارج نطاق المساءلة القانونية، وأدوات معالجته متعددة الأبعاد من عناوينها ما هو تربوي وما هو إعلامي.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني