لا ريب أنّ انطلاقة المسار المهني في أيّ عمل حرّ ليس يسيرًا، إذ سرعان ما يواجه الملتحقين الجدد صعوبات جمّة في تثبيت أقدامهم في أجواء تسودها حدّة التنافسية وسيطرة كبار المهنة. المحامون الشباب، بالخصوص ممّن لا زالوا مرسّمين في قسم التمرين، ليسوا خارج هذه القاعدة، بل ربّما هم نموذج عن صعوبات شباب المهن الحرّة على نحو يعرّضهم غالبًا لهشاشة مادية، ولكن أيضًا يجعلهم موضع استغلال باعتبارهم الحلقة الأضعف في الوسط المهني. وفي هذا المضمار، يبدو أن الدفاع عن مصالحهم ليس أولوية جديّة لدى الهياكل الرسمية للمحاماة مع محدودية نجاعة أداء جمعية المحامين الشبان في هذا الجانب.
المحامي المتمرّن: اسبح في اليمّ إننا نراك
بعد الحصول على شهادة الكفاءة لممارسة المحاماة، ولاستكمال ملفّ الترسيم بجدول المهنة، يجب على طالب الترسيم الإدلاء بشهادة من أحد المحامين المباشرين إمّا لدى التعقيب أو لدى الاستئناف لمدّة لا تقلّ عن خمس سنوات تفيد بأنه يسمح له التمرين بمكتبه. طالبو الترسيم الذين ليست لديهم معارف أو ارتباطات بأوساط المحامين يواجهون صعوبة في إيجاد مكتب تمرين. وهي صعوبة يتمّ تلمّسها، في البداية، عند البحث عن مكتب لمباشرة التربص الإعدادي ضمن النظام الدراسي بالمعهد الأعلى للمحاماة[1]. تباعًا، يفضّل لاحقًا جلّ طالبي الترسيم البدء بالتمرين بذات المكتب الذي باشروا فيه التربص.
في الأثناء، ينصّ الفصل 9 من مرسوم المحاماة أنّ لطالب الترسيم رفع الأمر لرئيس الفرع الجهوي لمساعدته على إيجاد مكتب، ويقتضي الفصل 77 من النظام الداخلي للمحاماة مسك رئيس الفرع الجهوي كشفًا يضمّ المحامين الذين يرغبون في قبول متمرّنين. إلاّ أنّ الإشكال هو في أنّ هذه المساعدة غير منظمة بشكل شفاف يضمن نجاعتها. ولذلك يكون من الأفضل أن تعمّم الفروع الجهوية في مقرّاتها قائمة للمحامين الراغبين في قبول متمرّنين مع قائمة الباحثين عن مكتب تمرين، بحيث يتضمّن كل طلب أو عرض، العناصر المطلوبة (الاختصاصات المفضّلة/طريقة العمل/سير ذاتية للمتمرّنين إلخ). هذه الطريقة مفيدة للطرفين، إذ تمكّن المحامي المتمرّن من اختيار مكتب تمرين مناسب لطموحاته على نحو لا يجعله في موضع الملزَم بقبول أيّ مكتب، وأيضًا تمكين المشرف على التمرين من ضمان حسن اختيار المتمرّن بحسب انتظاراتِه.
إلا أنّ صعوبة إيجاد مشرف على التمرين تبقى ثانويّة بالمقارنة مع الصعوبات الجدّية خلال فترة التمرين على مستويات عدّة. أولّها عدم توفير ظروف عمل لائقة في المكتب. إذ يوجب الفصل 86 من النظام الداخلي للمحاماة على المشرف على التمرين أن يوفّر لزميله المتمرّن مكتبًا يمكّنه من استقبال حرفائه بصفة طبيعية ومن المحافظة على السرّ المهني. كما يتعيّن عليه تمكين المتمرّن من استعمال أدوات المكتب فيما أعدّت له ومن الاستعانة بالعاملين بالمكتب. واجبات لا يلتزم بتأمينها عديد المشرفين على التمرين بحسب الواقع المُعاين، بل يجد متمرّنون صعوبة في تمكينهم حتى من استقبال حرفائهم بكل حريّة، إمّا لأسباب تتعلق بالإمكانيات المتوفرة في المكتب ذاته أو لسلوك مشرفين يفضّلون الاستفادة من المتمرّن أكثر من استفادته هو من التمرين.
فالتمرين، الذي يدوم نظريًا لمدّة أدناها سنة قبل الترسيم في جدول الاستئناف، هي مرحلة تمهيدية لعمل المحامي على نحو ما يقتضيه تأطيره علميًا وصناعيًا وأخلاقيًا لتحمّل المسؤولية وحسن مباشرته لمهنته. وخلال فترة التمرين، إن كان له الحقّ في النيابة والترافع في القضايا الجزائية أمام جميع المحاكم عدا محكمة التعقيب، فليس له الحقّ في النيابة باسمه في القضايا المدنية التي تستوجب إنابة محام، باعتبار أنه مازال في مرحلة تأهيلية، فلا ينوب إلا باسم المشرف على تمرينه على نحو يضمن مرافقته له. والمتمرّن خلال فترة تمرينه مطالب بمباشرة أعمال المحامي وعلى وجه الخصوص الأعمال المكتبية مثل إعداد العرائض والتقارير، وأعمال بالمحاكم تتمثّل في الحضور في الجلسات. ملفّات المكتب أساسيّة إذًا في تدريب المحامي المتمرّن، حيث يفترض أن يحصّل استفادة عمليّة. لكنّها تصطدم بعقبة أساسيّة، وهي محدودية قدرة عديد المحامين المشرفين على تخصيص الوقت اللازم للتأطير على المستوى البيداغوجي والتطبيقي في ظل انشغالهم بدرجة أولى بملفّاتهم.
أمّا المعضلة الأكبر، فترتبط بتكليف عديد المتمرنّين أحيانًا بأعمال هي أقرب للاستغلال من التكوين. تتعلّق الصورة بقيام المتمرّن مثلا بالحضور في الجلسات ومباشرة الإجراءات مع كتابات المحاكم بشكل يومي ومكثّف وذلك على حساب الأعمال المكتبية. تقول محامية متمرّنة في هذا المضمار للمفكّرة أنّ بعض المشرفين يريدون “كاتب بالروبة”، في إشارة لتكليف المتمرّن بأعمال كتبة المحامين بدرجة أولى. هذه الطريقة يفضّلها بعض المشرفين لتفادي انتداب كاتب محكمة ثان. فعلى الرغم من أهمية مباشرة المتمرّن لأعمال الكتابة من باب شموليّة التكوين، فإنّ ذلك لا يجب أن يؤسس لتحويل المتمرّن لأشبه بكاتب في بعض الأحيان. فالكثير من المحامين المتمرّنين يشعرون بأنّ تمرينهم تحوّل إلى تسخير مقنّع. وفي هذا السياق، تمنح بعض المكاتب منحًا مالية وذلك حسب القدرة المادية للمشرف ومهامّ المتمرّن وأدائه غايتها التحفيز على البذل والعطاء. ولكن هذه المنحة قد لا تكون أحيانًا إلا غطاءً على تسخير المتمرّن للقيام بالأعمال “اليومية” لفائدة الأستاذ المشرف خاصة في المحاكم، وهي التي قد تشمل مصاريف التنقّل والنسخ. منحة لا تتجاوز في كثير الأحيان 300 أو 400 دينار مقابل التكفّل بأعمال مضنية.
وفي الصورة المقابلة، يباشر بعض المتمرّنين المحظوظين التمرين في ظروف جيّدة، عبر تكليفهم أساسًا بأعمال المحامي بدرجة أولى وندرة تكليفهم بأعمال الكتابة، ومع مباشرتهم لملفات تضمن تعميق معارفهم في مجالات قانونية مختلفة مع منحة مالية تُعطى على سبيل التحفيز بدرجة أولى. صورة مثالية ولكنها ليست الغالبة في الواقع.
استقالة هياكل المهنة
تتعزّز صعوبات المتمرّن، في الواقع، بغياب اهتمام هياكل المحاماة بالموضوع، عبر الاكتفاء بالنصوص النظرية الواردة في النظام الداخلي على وجه الخصوص من دون إعمال الرقابة الداخلية على احترامها. إذ يسود الاعتقاد بحريّة الأستاذ المشرف على إدارة فترة التمرين من دون أي رقيب، باعتبار أنّ مجرّد قبول المشرف بمتمرّن، يعدّ في حدّ ذاته امتيازًا للأخير. اعتقاد يتناقض ومفهوم التمرين القائم على التزامات متبادلة بين الأستاذ المشرف من جهة (واجبات توفير مكتب لائق والتأطير والعناية واحترام واجبات الزمالة مع المتمرّن) وبين المتمرّن.
ويتغذّى الاختلال الواقعي للعلاقة بين المشرف على التمرين والمتمرّن من استقالة الجمعية التونسية للمحامين الشبان، التي يشمل نطاقها بداهة المتمرّنين، عن ممارسة الأدوار المطلوبة منها. من هذه الأدوار رصد مشاكل المتمرّنين وفق آليات محددة وبشكل منهجي، والضغط على هياكل المهنة لفرض إرساء رقابتها على تنفيذ واجبات الأساتذة المشرفين باعتبارها حقوقًا بالنسبة للمتمرّن. ممارسة هذه الأدوار تفترض مواجهة مجموعة المحامين الذين يتولون عادة الإشراف على التمرين أو المحامين الذين اكتسبوا شروط الإشراف عمومًا، وهم عدديًا قوة مؤثرة داخل الوسط المهني وفاعلة داخل الهياكل تحديدًا.
فالعلاقة بين المحامين المتمرّنين والمشرفين، تبقى محكومة بتنازع مصالح وبموازين قوى مختلّة. فالدفاع عن حقوق المتمرّنين بل الاعتراف بمبدأ اكتسابهم لحقوق أصلًا، لا يبدو مشاعًا في أوساط مشرفين يرون أن المتمرّن بمنظار علاقة عمودية بدرجة أولى. تنازع مصالح يفترض من جمعية المحامين الشبان خوض “معارك نضالية” ضد “الحيتان” يبدو أنها لا تعتبرها أولويّة. فالامتيازات التي تعمل الجمعية على تحصيلها، من قبيل التخفيضات في معاليم الإقامة بالنزل التي تستقبل أنشطة هياكل المهنة، لا تفيد المحامي المتمرّن بقدر ما يفيده اهتمام الهياكل نفسها بحقوقه الأساسيّة للارتقاء بوضعيته الهشّة داخل المهنة.
في سياق متصّل، يكتسي ملف مكافحة “السمسرة”، التي تتمثّل في استجلاب الحرفاء بطريقة غير مشروعة، كالانخراط في شبكة علاقات زبونية مع أمنيين وغيرهم، أولوية مطلقة للمحامي المتمرّن على وجه الخصوص، باعتباره المتضرّر الرئيسي من هذه الظاهرة. فظاهرة السمسرة تعسّر إدماج المحامي المتمرّن في المهنة، بما يؤثر على استقراره المهني والمعيشي. تغوّل المحامين السماسرة ونفوذهم داخل بعض الهياكل أحيانًا، يزيد بالنهاية من صعوبات المتمرّن الذي يظلّ يكابد بين تحصيل ملفاته الخاصة في وسط تنافسي من جهة وتحصيل استفادة مرجوّة من أستاذه المشرف على تمرينه.
إنّ غياب عناية الهياكل بفترة التمرين، لا ينفي إمكانيّة التدارك إذا ما توفّرت الإرادة، عبر جملة من المقترحات:
- توعية المشرفين على المتمرنين، عبر الأنشطة الداخلية للهياكل، بالواجبات المحمولة عليهم طبق النظام الداخلي للمهنة.
- إرساء الفروع الهيئة الجهوية لخلية إصغاء ورصد قارّة لمشاكل المتمرّنين خصوصًا تلك المشتركة فيما بينها، والعمل على حلّها ليس فقط على المستوى الفردي بل أيضًا هيكليًا وجماعيًا.
- إعداد هيئة المحامين دليل الإشراف على التمرين، يكون نتاج حلقات نقاش، لا يقف على تحديد واجبات الأستاذ والمتمرّن على حدّ السواء، بل يتضمّن عناصر توجيهية تساعد الأستاذ المشرف على تحقيق أهداف التمرين وضمان التزامه بواجب التأطير على وجه الخصوص. وللهياكل لاحقًا ممارسة رقابتها على المشرفين استئناسًا بهذا الدليل.
- إرساء الفروع الجهوية آلية رقابة داخلية على المشرفين على التمرين تتضمّن توصيات، يمكن أن تقود مثلا إلى عدم تمكين المشرفين المخلين بواجباتهم من قبول متمرّنين جدد بمكاتبهم.
- مطالبة المتمرّنين بتعمير إفادات للتمرين ضمن ملف الترسيم في الاستئناف، تتضمّن رصدًا للإيجابيات والسلبيات في فترة التمرين. إفادة ستحفّز المشرفين على الالتزام بواجباتهم خشية من تقييم سلبي لصورتهم أمام الهياكل وفي الوسط المهني بوجه عامّ.
- ضمان الشفافية المطلقة في تمكين المتمرنين من التساخير سواء أمام الدوائر الجناحية ومكاتب التحقيق، وبالخصوص أمام باحث البداية على نحو يضمن المساواة والنفع الشامل.
ختامًا، باتت تفتقد فترة التمرين، في غالب الأحيان، لميزتها الرئيسية: التأطير والتكوين. إذ تحوّلت لمجرّد تربّص صوري تفرضه التراتبية في جدول المهنة. فيجد المتمرّن نفسه محاصرًا بين مشرفين يعملون على “تسخيره” لفائدة ملفاتهم خصوصًا عبر الحضور في الجلسات أحيانًا من دون تحفيز مالي، أو بمقابل زهيد، وهياكل مهنة يظهر أنها مستقيلة على القيام بما يلزم لتحسين وضعية المتمرّنين بشكل ناجع، رغم أنّ شعارات دعم المحامين الشبان دائمًا ما تغزو الحملات الانتخابية لتحصيل أصواتهم.
[1] يدوم هذا التربص مدة 3 أشهر وفق الفصل 7 من قرار من وزير العدل وحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية ووزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكنولوجيا المعلومات والاتصال مؤرخ في 9 سبتمبر 2014 يتعلق بضبط برنامج الدراسة ونظام الامتحانات بالمعهد الأعلى للمحاماة.