بعد ردّ محكمة الاستئناف المدنية الناظرة بالقضايا النقابية في بيروت برئاسة القاضي أيمن عويدات الطعنين في قرار مجلس نقابة المحامين بتعديل نظام آداب المهنة، قدّم عشرة من المحامين الطاعنين دعوى مداعاة الدولة أمام الهيئة العامّة لمحكمة التمييز على أساس أنّ محكمة الاستئناف ارتكبت أخطاء جسيمة في حكمها.
وكانت محكمة الاستئناف المدنية المؤلفة من خمسة أعضاء هم القضاة: أيمن عويدات وكارلا معماري وحسام عطالله إضافة إلى عضوين من مجلس نقابة المحامين هما مايا زغريني ووجيه مسعد، قد أصدرت حكمها في القضية في 12 أيّار. وبرّرت رفضها للطعنين باعتبار التعديلات على نظام آداب المهنة لناحية فرض الإذن المسبق للظهور الإعلامي “منسجمًا مع صلاحية مجلس النقابة بتعديل النظام المذكور وكذلك منسجمًا مع التطوّرات التقنية والواقعية والفقهية والقانونية لما قضى به، وكذلك منسجمًا مع حالة الضرورة والملاءمة نظرًا للظروف التي بسببه قد اتخذ”. كما اعتبر الحكم أنّ “الخطر المتمثل بالتأثير الكبير لوسائل الإعلام على مسار المحاكمات الجارية والرأي العام، يوجب أن يكون المحامي خاضعًا لقواعد صارمة تحدّ من حرّيته الإعلامية”.
حكم يشرّع القيود ويشيطن الحرّية
استبق المحامون الـ 13 مقدمو الطعنين الخطوة القانونية الجديدة ببيان وصفوا فيه قرار مجلس النقابة بـ “عديم الوجود ولو أيّده ألف حكم أو أثنت عليه الدنيا بأسرها”، وذلك في ضوء ما انطوى عليه الحكم “من أخطاء جسيمة وتشويه فاضح وذهول عن أحكام الدستور والقانون، ولأنّ الحرّيات تنتزع ولا تمنح ووجودها لصيق بكيان الإنسان”. وشرح البيان أنّ القرار الاستئنافي صدر “مخيّبًا للآمال ومشرّعًا للقيود في ما خصّ الطعن بالتعديلات الأخيرة المتعلّقة بالظهور الإعلامي للمحامين”.
كما اعتبر المحامي نزار صاغية، أحد مقدّمي الطعنين الأوّلين، أنّ ما يجري هو شيطنة للحرية وتركيز على خطورتها مع تغييب لإيجابيتها، لا سيما أنّ الحرية هدفها تكوين الرأي العام، مضيفًا أنّ هذه المقاربة لا تتوقّف على حرية المحامي بل قد تطال الأستاذ الجامعي أو الإعلامي أيضًا.
وكان المُحامون قد تقدمّوا بلوائح تبرّر ضرورة إلغاء التعديلات لخروج مجلس النقابة عن اختصاصه ولانطواء التعديلات على تعدّ على اختصاص السلطة التشريعيّة. فالتعديلات التي حصلت في 3 آذار 2023 على نظام آداب مهنة المحاماة اتصلت بالمواد المتعلّقة بعلاقة المحامي مع وسائل الإعلام وبحقه في إبداء الرأي والتعبير عبر وسائل الإعلام وسواها من الوسائل وفرض عليها نظام الإذن المسبق. كما اعتبر الطاعنون أنّ قرار النقابة يُخالف الدستور والاتفاقيّات الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذين كرّسوا حق المحامي في إبداء الرأي والتعبير وفرضوا شروطًا لكيفية تقييده. فاعتبروا أنّ قرار مجلس النقابة يّقيّد حرية التعبير من دون احترام شروط الضرورة والتناسب المنصوص عليها في المعايير الدولية.
وأثار ردّ الطعن استنكارًا في الأوساط الحقوقية، حيث اعتبرت 14 منظمة ضمن “تحالف حريّة الرأي والتعبير في لبنان” في بيان أنّ قرار محكمة الاستئناف المدنية “يشكّل فرصة مهدورة لترسيخ حكم القانون وحقوق المحامين الإنسانية في لبنان”. وقال أعضاء التحالف: “إنّ رفض محكمة استئناف بيروت للطعنَيْن بالتعديلات الجديدة على نظام آداب مهنة المحامين هو نكسة لحكم القانون وحرية التعبير في لبنان، ما من شأنه تعزيز البيئة القمعية المتنامية ومنح نقابة المحامين في بيروت الأداة لممارسة المزيد من السيطرة على قدرة المحامين على المشاركة في النقاشات العامّة البنّاءة وتزويد الجمهور بالمعرفة وفضح مخالفات المسؤولين”.
وأصدر ائتلاف استقلال القضاء بيانًا اعتبر فيه أنّ “الهيئة المُختلطة لدى محكمة الاستئناف قد أخلّت بوظيفة القضاء الأساسيّة التي هي حماية الحقوق والحريات، وذهبت أبعد من ذلك في اتجاه اجتراح حيثيّات تمهّد لمزيد من قمع الحريات”. وما أسهم في جسامة هذا الإخلال بحسب الائتلاف، “هي التركيبة الهجينة لهذه الهيئة، التي تضمّ اثنين من أعضاء المجلس، أي ممّن شاركوا في اتّخاذ القرار المطعون فيه ممّا يجعلهم في موقع الخصم والحكم في آن”. وعليه اعتبر الائتلاف الحكم دليلًا إضافيًا على فشل العديد من الهيئات القضائية في الدفاع عن المجتمع، وكمحفّز للإسراع في إقرار قانون استقلالية القضاء.
على المقلب الآخر، أثنى نقيب المحامين ناضر كسبار على القرار في مؤتمر صحافي يوم الجمعة 12 أيّار معتبرًا أنّه من “القرارات الكبرى التي أرست مبادئ مهمة في مجال ممارسة الحرية الإعلامية مستندًا إلى أحكام ومبادئ معتمدة في بعض الدول الرائدة في مجال حقوق الإنسان”.
ماذا عن تعطّل الهيئة العامّة لمحكمة التمييز؟
تقدّم 10 من المحامين الطاعنين بدعوى لمخاصمة الدولة أمام الهيئة العامّة لمحكمة التمييز، وهم المحامون: نجيب فرحات، مريم بوتاري، واصف الحركة، ديالا شحادة، حسن بزي، ملاك حمية، علي عباس، عروبة الحركة، جاد طعمه ومحمد لمع. ومع تقديم الطعن، يصبح محظورًا على أعضاء محكمة الاستئناف المدنية النظر بأي دعوى يرد فيها أحد أسماء الطاعنين.
ومن بين الأخطاء التي استند إليها الطاعنون في الدعوى: خروج المحكمة عن مضمون إدلاءات الخصوم في عرضها الوقائع، ومقارنة الواقع بنقابة المحامين في باريس رغم عدم إدلاء أي فريق بهذه المقارنة مع فهم خاطئ لواقع الحال هناك وتفسير مغلوط لترجمة الأنظمة النقابية.
واعتبر المحامي نزار صاغية أنّ الحكم تضمن أخطاء جسيمة لجهة تشويه الوقائع ونظام نقابة المحامين في بيروت وانتهاك مبدأ الوجاهية، مذكراً أن مجلس النقابة لم يبد أي حجة دفاعًا عن قراره حيث اكتفى بإثارة مسائل شكلية ورفض أي نقاش في مضمون القرار أمام القضاء.
يشار إلى أنّ الهيئة العامّة لمحكمة التمييز معطّلة بقرار سياسي منذ بداية العام 2022 نتيجة الشغور في بعض مراكزها وامتناع السلطات عن إصدار التشكيلات القضائية. وقد أدّى ذلك إلى تعطيل عدد من القضايا بسبب دعاوى المخاصمة ونهج استعداء القضاة، أبرزها التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت. وهو ما وصفه المحامون بأنّه أداة لقمع أي قضيّة حقوقية واجتماعيّة لا تسير على أهواء السلطة السياسيّة. ويجد فرحات أنّ تعطيل الهيئة مقصود، وأنّ عرقلة ملف تعديلات نقابة المحامين يصب في مصلحة المستفيدين من هذا التعطيل. ويؤكد فرحات أنّ المحامين يتداولون في الآليّات المتاحة لتفعيل هذه الهيئة، مستنكرًا تعطيل أعلى هيئة قضائيّة بهذا الشكل.
يعتبر طعمة أنّ الذهاب إلى “مداعاة الدولة هي الوسيلة الوحيدة المتاحة، وبعد التقدّم بالدعوى سينتظر المجتمع اللبناني نتيجتها ولو تأخرت ريثما يتم تأليف الهيئة لمحكمة التمييز”. وعلى الرغم من تأكده أنّ أي قرار بخصوص مداعاة القضاة سيتأخر إنما يقول: “هذا هو الأمل الوحيد المتوفّر لإصدار قرار يُعيد مسار العدالة إلى سكته الصحيحة”.
المحامون الطاعنون: “قرار في غير محّله القانوني”
يستنكر المحامي نجيب فرحات في حديث مع “المفكرة القانونيّة” ردّ الطعن معتبرًا أنّه في غير “محلّه القانوني الصحيح لناحية ورود مغالطات قانونية فيه، عدا عن أنّه سمح للمجلس بتقييد حرية التعبير بشكل يخالف الدستور”. ويشرح فرحات أنّ هذا القرار الذي استند إلى أنظمة مهنة المحاماة في نقابة المحامين في باريس “أولًا شوّه أنظمة العمل في باريس، عدا عن أنّ نظام آداب المهنة والقوانين اللبنانيّة تبتعد عن الأنظمة في فرنسا، وينسحب ذلك أيضًا على صلاحيات السلطتين التشريعية والتنفيذية التي أيضًا تختلف في كلا البلدين”. ويعتبر فرحات أنّ هذا القرار مرفوض كونه يُخالف الدستور الذي لا يقيّد الحريات ولا يضع ضوابط عليها. ويرى صدور هكذا قرار خطوة إضافية نحو تقييد الحريّات وإسكات المحامين المتحدثين بالشؤون العامّة والقضايا الكبرى.
“القضاء أداة ليس لتحقيق العدالة بل لتنفيذ أهواء من هم في السلطة” بهذا علّق المحامي جاد طعمة على القرار معتبرًا أنّ من يتابع القرارات التي صدرت يوم الجمعة الاستثنائي، يُدرك أنّ النتيجة معدّة مسبقًا وأنّ سرد الوقائع حصل بطريقة تهدف إلى الوصول إلى هذه النتيجة بغض النظر عمّا أدلى به أفرقاء النزاع. ومن القرارات التي يقصدها طعمة قرار نقابة المحامين بخصوص المدير التنفيذي لـ “المفكرة” المحامي نزار صاغية حيث اتخذ مجلس النقابة توصية بعدم شطبه، والذي ينتقده طعمة سائلًا “لمن يُصدر مجلس النقابة توصية؟ لنفسه؟ أم أنّه كان يهدف لإيصال رسالة لجميع المحامين في ذلك اليوم؟”.
وعليه، يضع طعمة المستجدات الأخيرة المتصلة بالحريات ضمن إطار “العودة إلى اليد الحديدية للمنظومة البوليسيّة التي ستدفعنا لنترحّم على أيّام الوصاية السورية. حينها كان هناك مرجع واحد للاستبداد بينما اليوم باتت المراجع متعددة وتتمثل بكل وضيع طامح ليكون له دور في الحياة السياسية في لبنان”. ويأسف طعمة على مواقف بعض المحامين “الّذين عبّروا عن فرحتهم بقمع حرّيتهم”. ودعاهم إلى مطالعة أوراق الدعوى لجهة ما أدلى به الطاعنون وبالمقابل ما أدلت به النقابة وحينها سيصابون بالذهول من الانحراف الخطير لمسار العدالة.
حملة لإسكات المدافعين عن الحقوق
ترى المحامية ديالا شحادة أنّ “المحامين دخلوا في هذا النزاع إيمانًا منهم بأنّ الحقوق الدستورية لا يجوز المس بها من دون الدستور، ومن هنا موقفنا هو تمسّك بسيادة الدولة وتراتبية القوانين في الدولة”. وأكثر ما يهم شحادة كمحامية يتصل بعملها في قضايا تخص المجتمع، إذ تجد أنّ “ما نخشاه هو الاستنسابية في منح هذه الأذونات المسبقة” في هذه القضايا الكبرى. وتعتبر أنّه من المحتمل أن يكون أخذ الإذن من نقيب المحامين أمر شكلي فقط، لكن في حال رفض منح الإذن فيجب أن يكون معلّلًا مع التذكير أنّ قرارات النقابة تقبل الطعن. وتناقش شحادة هذه التعديلات من باب أهميّة التثقيف القانوني والتوعية القانونية في القضايا الكبرى، مشيرةً إلى أنّ تقييد هذه التوعية يحرم المجتمع من الحق في المعرفة. وتلفت إلى أبرز المواضيع التي ساهم المحامون في التوعية بشأنها كحق التظاهر وحق التجمّع وهي حقوق دستورية لا يُمكن إلّا وربطها بحق المعرفة. وتعتبر أنّ مشروع قانون الإعلام الجديد الذي قدّم إلى البرلمان اللبناني تضمّن مادّة تتصل بمسؤليّة الإعلام في تأمين مساحة للتوعية القانونيّة مشيرة إلى دور المحامين في هذه التوعية.
تجد المحامية مريم البوتاري بدورها أنّ قرار المحكمة يؤدّي إلى إسكات المحامين بخاصّة المعنيين بالشأن العام. وتجد أنّ “كل محامٍ يسعى إلى فضح السلطة ومكافحة الفساد بات مزعجًا لأهل السلطة”. وتضع رد الطعن “ضمن سياق عام يهدف إلى إسكات المدافعين عن الحقوق ومكافحي الفساد مثل تعاميم وزير العدل القاضي هنري خوري الأخيرة التي تقيّد حريّة القضاة بالتعبير والتنقل”، وتجد أنّها “سياسة مدروسة من المنظومة السياسية”.
أثر هذا القرار تبحث فيها المحامية ملاك حمية، وهي محامية ناشطة ومتطوعة في حراك أهالي الطلاب في المدارس الخاصّة، وتعمل منذ سنوات في “نشر التوعية القانونية حول حق الطفل في التعليم كما ونشر التوعية القانونية لدى لجان الأهل وأولياء التلامذة حول حقوقهم وحقوق أولادهم في المدارس الخاصة”، على حد قولها. وتجد أنّ هذا القرار لا يتناسب مع هذا النشاط الذي تقوم به، لافتة إلى أنّها تؤدّي دورًا في “الندوات واللقاءات السنوية كما أُلبّي دعوات وسائل الإعلام لمناقشة قضايا التعليم مثال أقساط المدارس والدولرة والحق بالتعليم ومصير التلامذة وغيرها من المواضيع”. وتُضيف “أتى قرار تعديلات مجلس النقابة ومن بعده قرار المحكمة ليقمع حقوقنا الدستوريّة، في التعبير وفي نشر التوعية المجتمعية التي هي من صلب رسالة المحاماة “. وتؤكد على “احترام النقابة والقضاء ولكنّنا ضد المس بحقوقنا الدستوريّة”.
وتشرح حمية أنّه من غير المنطقي أنْ “يأخذ المحامي إذنًا لنشر التوعية المجتمعية وليدافع عن حق التعليم وعن أي حق، كما أنّه من غير المنطق بل من المخجل بالنسبة للمحامي ألّا يستطيع الكلام أو التعبير في القضايا التي تهمّ المجتمع إلّا بعد أن يأخذ إذنًا”. وتُشبّه حميّة حريّة التعبير كـ”الهواء الذي نتنفسه فهل يستأذن الإنسان ليتنفّس؟”.