عمدت وزارة العدل مؤخرا إلى التضييق على عمل المحامين وبخاصة فيما يتصل بزيارة موكليهم ممن يتهمون في قضايا الرأي ومنهم زملاء لهم، وذلك في موازاة تزايد الخروقات الإجرائية في العديد من المحاكمات. وقد أدّى ذلك إلى تعميق حالة الامتعاض وسط عموم المحامين وإضعاف جانب المحاماة الرسمية ممثلة في عميد المحامين مهدي مزيو والتي كانت تجاهر قبلا بدعم السلطة ومسارها السياسي بحجة أن ذلك سيمكنها من تحقيق مكاسب مهنية. وقد أكدت تدخلات المشاركين في الجلسة العامة للهيئة الوطنية للمحامين التي انعقدت يوم 06-09-2024 هذا التوجه، بما كشفت عنه من ارتفاع عدد المطالبين بالدفاع عن دولة القانون و الاضطلاع بالمسؤولية الوطنية وت\ور في خطاب فئة واسعة من المحامين كانت ترفض سابقا انتقاد ممارسات السلطة معتبرة إياه توظيفا سياسيا للمهنة.
وفي هذا السياق، دفع تصاعد هجمة السلطة على المحاماة، المترافق مع عدم تحصيل الهيئة الحالية لأي مكاسب “مهنية”، مجلس الهيئة الوطنية للمحامين لمراجعة خطابه و إعلان سلسلة تحركات احتجاجية طيلة الأسبوع المتزامن مع بداية السنة القضائية 2024-2025 . تمثلت بداية هذه التحركات في حمل الشارة الحمراء ومقاطعة التساخير والإعانات العدلية لتصل في قمة تصعيدها إلى تنظيم وقفة احتجاجية، الأربعاء 10 سبتمبر 2024، في باحة قصر العدالة بالعاصمة وأمام المحاكم الابتدائية مرجع الفروع الجهوية. وإذ عمدت الأجهزة الأمنية إلى محاصرة هذه التحركات قدر الممكن، سنتوقف في هذا المقال عند أهم محطات هذه التحركات وما اثارته من ردود أفعال.
حصار وقفة المحامين
إذ انتظمت الوقفة الاحتجاجية بقصر العدالة بتونس، فرضت المصالح الأمنية أن يكون مكان الصحفيين الذين توافدوا لتغطيتها خارج السور الحديدي للمحكمة، مما وضع فواصل بين المحتجين والإعلام و أبعدهم عنهم مسافة كبيرة نسبيا. أمر ساء ممثل نقابة الصحافيين الذي طلب من زملائه عدم تغطية كلمة العميد احتجاجًا على المنع متوجهًا لهم بقوله: “البقاء وراء قضبان المحكمة هو ذلّ. عليهم أن يراجعوا حساباتهم، نحن لا نطلب منّة نحن نريد العمل”. واقعة أربكتْ العميد الذي اكتفى في مرحلة أولى وفي بداية كلمته بالدعوة لتمكين الصحفيين من الدخول للباحة قبل أن يضطر بعدها وقد فاجأته ردّة فعل الإعلاميين إلى أن يخرج من القصر ويتوجّه للصحفيين أمام المحكمة ليدلي بكلمة “تعويضًا” عمّا فاتهم بسبب المنع.
واللافت هو تأكيده أنه سبق واتفق مع وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية على تمكين كل صحفي حامل لبطاقة مهنية من الولوج لقصر العدالة لتغطية الوقفة، وهو الاتفاق الذي تمّت مخالفته واقعًا من أعوان المحكمة أنفسهم دون تبيّن إن كان ذلك بتعليمات وكيل الجمهورية أو تعليمات غيره. مثال آخر يوجز، في العمق، واقع تسيير مرفق العدالة اليوم.
والمنع من تمكين الصحفيين من تغطية الوقفة لا يعدّ، في ذاته، استهدافًا لحرية الصحافة والنشر، بل أيضًا استهدافًا للمحامين عبر تضييق نطاق احتجاجهم ومنع إطلاع الرأي العام عليه. هي محاولة لإسكات صوتهم تؤكد مجددا واقع أن الانتهاكات، خاصة في ظلّ السياق الحالي، هي توليدية. إذ أن انتهاك حقّ يتعلق ظاهرًا بفئة ما مُنتج لانتهاك حق يتعلق بفئة أخرى. فإن اختلفت مواضع اعتداءات السلطة بحقّ المحامين والقضاة والصحفيين، فهي جامعة من حيث غاية استهدافها للحريات العامة وشروط المحاكمة العادلة.
العميد وخطاب التحذير قبل التصعيد
استعاد العميد المزيو في كلمته واقع التضييقات على المحامين كعدم تمكين عدد منهم من حق الاطلاع على الملفات، وحق الترافع وحقّ زيارة موكّليهم. وكان بيان الهيئة قد تحدّث بالخصوص أيضًا عن تعمّد إهانة المحامين والاعتداء عليهم والمساس من كرامتهم واعتبارهم أثناء قيامهم بمهامهم لدى الوحدات الأمنية والسجنية. هو “وضع حساس وخطير” نتيجة تعليمات “واضحة” بحسب العميد.
حديث أيضًا عن “دولة المذكرات اليومية” في إشارة لمذكرات العمل التي تصدرها وزيرة العدل بعد تعمّد تجميد المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، بما حال دون إصدار الحركة السنوية للعام القضائي الجديد. وكذلك حديث عن “قضاة أنفسهم يقرّون بأنهم يفتقدون للأمان” في إقرار بواقع مناخات الترهيب داخل أسوار العدالة، على نحو ما كشفته المذكرات اللاحقة ببعض القضاة ممنّ تعهدوا بعدد من المحاكمات السياسية. والدعوة كانت تركيز المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية.
وقطعًا، لم يتجاوز العميد التشديد، في الوقفة وفي تدخلاته الإعلامية اللاحقة، على المماطلة الكبيرة في تنفيذ الإصلاحات المهنية المطلوبة وهي: قانون جديد للمهنة، والأمر المتعلق بصندوق الحيطة والتقاعد الذي يهمّ 30 ألف عائلة وفقه والأمر المتعلق بتامبر المحاماة. في بداية شهر جويلية المنقضي، التقى العميد مع وزيرة العدل حول هذه المطالب وفق بلاغ نشرته الوزارة حينها واكتفت هيئة المحامين بإعادة نشره من دون تخصيص بيان مستقلّ كان يُنتظر أن يتناول واقع استهداف حق الدفاع خاصة بعد “محنة ماي”. ولكن لم يتحقّق أي مطلب. “الزيارات ليست الصورة ولكن للاستجابة للمطالب والتفاعل”، كان واضحًا بهذا التصريح الأخير للعميد إقراره أن لقاء جويلية لم يكن مفيدًا البتّة للمحاماة في نهاية المطاف.
والوزارة، من جهتها، كانت قبيل الوقفة الاحتجاجية الأخيرة أصدرت بيانًا لتنفي أي انتهاكات مسلّطة على المحامين بل أكدت “تمسّكها المطلق بضمانات استقلاليّة القضاء وحق الدفاع”. وفي الجانب الآخر، أكدت حرصها “على الإيفاء بتعهّداتها والتزاماتها السابقة مع الهياكل المهنية الممثلة للمحامين والتفاعل إيجابيا في حدود الإمكانيّات المتاحة”. إذًا نفي مطلق لأي اعتداءات من أي نوعها على المحامين، وتأكيد جازم على التفاعل الإيجابي مع المطالب المهنية.
ولكن واقع الحال، وإثر بلاغ الوزارة، هو بالخصوص تواصل تقييد حق المحامين في زيارة موكّليهم الموقوفين في المحاكمات السياسية وذلك بحصر عدد الممكن زيارتهم في اثنين فقط على غرار ما فرضته الوكالة العامة بمحكمة الاستئناف بتونس في قضية “التآمر على أمن الدولة” منذ أشهر. أحد أعضاء هيئة الدفاع في القضية قدم مطلبًا كتابيًا للوكالة العامة لتمكينه من حق الزيارة، رغم أن الإجراء الكتابي هو “بدعة مستحدثة” مرفقًا إياه بنسخة ضوئية من بلاغ الوزارة كمؤيد. صورة مغرقة في الطرافة تكشف التمايز بين الخطاب الرسمي من جهة والممارسة الواقعية من جهة أخرى. مثال آخر هو عدم تمكين الوكالة العامة أيضًا لأحد أعضاء هيئة الدفاع عن مريم ساسي، القيادية بالحزب الدستوري الحرّ الموقوفة مع رئيسته عبير موسي، من حق زيارتها.
اللافت، في الأثناء، أن خطاب العميد ظلّ محافظًا على مبدأ موجّه وهو مواصلة انتظار “تفاعل إيجابي” من السلطة قبل تصعيد كان بيان الهيئة تحدّث أنه سيشمل الإضراب والمقاطعات. والسؤال هنا هل أن التفاعل المطلوب واقعًا محدّد في مجال الإصلاحات التشريعية وتحديدًا راهنًا في الأمرين المتعلقين بصندوق “الكابرا” (صندوق الحيطة والتقاعد للمحامين) والترفيع في قيمة تامبر المحاماة، أم أنه يمتدّ حقيقة إلى إيقاف التضييقات على المحامين في أداء أعمالهم، وأيضًا إنهاء التتبعات القضائية ضدّ المحامين على خلفية ممارستهم لحرياتهم، أم يأنه متدّ أكثر لإيقاف نزيف تدخل السلطة التنفيذية في إدارة المسارات المهنية للقضاة وفرض ضمانات المحاكمة العادلة؟ يوجد تقدير متصاعد أن تحقيق المطالب المتعلقة بتسيير مهنة المحاماة هي البوصلة الموجّهة للجمع الغالب داخل مجلس الهيئة إن ما كانت في الحساب قبالة بقية المطالب المهنية والحقوقية.
خطاب العميد توجّه ضمنيًا إلى رأس السلطة السياسية لكن في قالب استدراكي محض عبر التأكيد أنّ المحاماة “لا تريد الذهاب في أجندة أيّ طرف ولكن لها أجندة وطنيّة وتريد من السلطة سماعها”، وأن “المحاماة لا تقبل أيّ تدخل أو تأثير خارجي ولكن ستقوم بدورها لأنّ المحامين وطنيون”. هو إعادة لصدى خطاب السلطة السياسية التي احترفت توجيه اتهامات الخيانة والارتماء في أحضان الخارج لكل صوت لا يسير على خطّها. ولعلّ ضمن هذا المضمار أيضًا، صرّح العميد، إبان الوقفة، أن “كل من حكم طيلة العشرية السابقة وأيضًا بعد 25 جويلية لم يقم بدوره كاملًا في بناء قضاء مستقل وناجز”. وعليه، يكون عمد إلى اعتبار “الجميع” متساوين في الأداء والمسؤولية بما ينكر التباين الشاسع بين مكاسب الاستقلالية الهيكلية والوظيفية للقضاء في سنوات “العشرية” رغم شوائبها و”محنة القضاء” بعد 25 جويلية 2021. وربمّا حريّ، في هذا السياق، أيضًا التذكير بتفادي الهيئة مطالبة هيئة الانتخابات بتنفيذ قرارات المحكمة الإدارية لفائدة ثلاثة مرشحين للانتخابات الرئاسية مكيفّة الانحراف بأنه “سجال بين مؤسستين”. بيان “تعويمي” لم يكن حاسمًا في تحميل المسؤولية المطلوبة لهيئة الانتخابات، على خلاف ما عبّر عنه القضاة عبر جمعيتهم، أو ما عبّر عنه جمع كبير من أساتذة القانون العام في الجامعة التونسية.
محدودية العدد: الإحباط من الهيئة أولًا؟
انتظمت وقفة الهيئة في قصر العدالة، في الأثناء، بمشاركة محتشمة من عموم المحامين في حدود مائة محام. ومردّ محدودية هذا العدد هي محدودية وقع تأثير خطاب المحاماة الرسمية اليوم على جمع المحامين خصوصًا أولئك الذي يقودون رسالة الدفاع في المحاكمات السياسية والمتضرّرين واقعًا من الاعتداءات والملاحقات القضائية. لا يتعلّق الأمر بمجرّد الحديث عن استفاقة متأخرة وحاسمة، بل باتت الشكوك حول مخرجات هكذا حراك ومدى قدرة الهيئة على توظيفه في مواجهة السلطة. في هذا الإطار يُنظر اليوم أن “وقفة الغضب” التي نظمتها الهيئة في ماي الفارط، على خلفية الاعتداء المتكرّر على دار المحامي للقبض على المحاميين سنية الدهماني ومهدي زقروبة خارج الضوابط القانونية، وبخلفية كيدية، وبما تضمّنته حينها من مشاركة واسعة، هي فرصة فوّتتها الهيئة لتوجيه رسالة حازمة للسلطة لتقليص نزيف اعتداءاتها. تفويت تبيّن بمواصلة استباحة حق الدفاع بل تصاعدها لاحقًا، فلم يكن حرمان المحامين من الترافع في الأصل في ملف زميلتهم سنية الدهماني مؤخرًا، إلا القطرة التي أفاضت الكأس مجددًا، بعد أن بلغ منتهاه في “محنة ماي”.
انتظمت الوقفة أيضًا بحضور للمحامين فقط دون إسناد من المجتمع المدني وذلك على خلاف “وقفة الغضب” قبل بضعة أشهر. ويعود هذا الغياب بشكل خاص إلى إصرار هيئة المحامين على عزلتها وفرض القطيعة مع بقية مكونات المجتمع المدني والحقوقي. قطيعة تأكدت أيضًا بعدم انضمام الهيئة للشبكة التونسية للحقوق والحريات، التي كونتها منظمات بينها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وأحزاب مؤخرًا، بعد تصاعد هجمة السلطة على الحريات خاصة في ظل تراجع مقوّمات نزاهة المسار الانتخابي. عزلة تعزّز التقدير حول خيار الهيئة تحديد مربّع مواجهتها مع السلطة بأولوية الإصلاحات التشريعية المطلوبة وذلك على حساب الدور الطلائعي للمحاماة في الدفاع عن الحقوق والحريات وهو للتذكير منصوص عليه في الفصل الأول من المرسوم المنظّم للمهنة.
تصعيد بعيْد آخر جلسة سنوية: حان حصاد “الحسم والإنجاز”
الأسبوع الاحتجاجي للهيئة جاء بعد أسبوع ونيّف من عقد الجلسة العامة السنوية للهيئة الحالية، وهي آخر جلسة عاديّة ليبدأ عدّاد العام الأخير قبل نهاية العهدة وتنظيم الجلسة العامة الانتخابية قبل انتهاء السنة القضائية الجديدة 2024/2025. وكانت قد انتظمت الجلسة مجدّدًا خارج موعدها الذي سرت عليه هياكل المهنة طيلة عقود (أي قبيل بدء العطلة القضائية) عبر الدعوة إليها في نهاية العطلة (أي بداية شهر سبتمبر قبيل العام القضائي الجديد)، وهي بدعة استحدثها العميد السابق إبراهيم بودربالة عام 2022 وقتها في سياق توظيف المحاماة لفائدته عبر تفادي تنظيم الجلسة في صيف 2022 قبل موعد الاستفتاء على الدستور، والذي كان العميد أحد المنخرطين في مسار إعداده. جلسة أيضًا انتظمت هذا العام بعدم توفير الهيئة للتقريرين الأدبي والمالي على ذمة المحامين في الآجال القانونية قبل موعد الجلسة، تطبيعًا مع حقيقة تجاهل الهيئات السابقة أيضًا لحق المحامين في الاطلاع المسبق، والحال أنه شرط لنقاش ثريّ يضمن نجاعة تقييم الأداء قبل المصادقة.
وكان الحضور في الجلسة العامة السنوية ضعيفًا ليس فقط لتزامنه مع يوم عمل بل بما يعكسه من واقع استقالة القواعد عن متابعة أداء الهيئة رغم خصوصية السياق المهني والوطني خاصة بعد “محنة ماي” التي طرحت من شدّتها وقتها فرضية الدعوة لجلسة عامة خارقة للعادة. وكان بما يعكس الإقرار حتى من داخل هياكل المهنة للطابع البروتوكولي المحض للجلسة، تنظيم جمعية المحامين الشبان و8 فروع جهوية دفعة واحدة لـ”رحلة استطلاعية إلى جزيرة قرقنة” وذلك على الساعة الثانية بعد الزوال من نفس يوم عقد الجلسة العامة التي انطلقت على الساعة الحادية عشر صباحا. كأنه بدت ثلاث ساعات كافية لعرض التقريرين الأدبي والمالي والمصادقة عليهما، وأيضًا لنقاشات المحامين وذلك في تقييم الأداء إثر عام استثنائي في تاريخ المهنة بكل المقاييس.
التقرير الأدبي، في الأثناء، كان إخباريًا وسرديًا حول أنشطة الهيئة على مدار العام القضائي المنقضي دون أي مستجدّ يذكر. ولكن، كان الجزء المخصّص “للشأن العام الداخلي” لافتًا من حيث طبيعة تقييم أداء السلطة السياسية والعبارات الجريئة المستعملة كـ”تحوّل القضاء إلى أداة لتنفيذ قرارات السلطة التنفيذية لإصدار الأحكام الجائرة والجاهزة مسبقًا”، و”سلطة اتخذت من الرأي الواحد والموقف الواحد السّبيل الوحيد لإدارة الأمور” مع دعوة مباشر لـ”حلحلة الأمور ودفعها للانفراج وإرجاع الحياة السياسية العادية وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين من مختلف الأطياف السياسية”. جزء لم يفوّت أيضًا الحديث عن تضييق “لا مثيل له” على الترشحات في الانتخابات الرئاسية.
ظهر هذا الجزء من التقرير أرفع واقعًا من سقف الخطاب الرسمي لأغلبية مجلس الهيئة والعميد تحديدًا. ولكن يحفّز تمريره، في نهاية المطاف، لتبنّيه كأرضية للهيئة في نشاطها خاصة وقد تمت المصادقة عليه في الجلسة العامة على نحو يمكن اعتباره راهنًا مقياسًا لمساءلة الهيئة فيما مضى وما سيلحق من أداء. لكن المعضلة دائمًا هي البون بين الشعارات والممارسات. ففي هذا الجانب، رفعت الهيئة، في وقفتها الأخيرة، شعار استقلالية القضاء مما يدفع للتساؤل حول ما قدّمته من موقعها من أجل هذه الاستقلالية وبخاصة في ظلّ رفضها ترسيم القضاة المعفيين المشمولين دفعة واحدة، بعد انتظار أكثر من عام ونصف، على نحو زاد في فرض مآل التجويع وقطع الأرزاق على القضاة المباشرين إن ما تمسكوا باستقلاليتهم في مواجهة سلطة تملك بيدها سيف إعفائهم بجرّة قلم من دون أي ضمانات. في الختام، كان شعار الحملة الانتخابية للعميد المزيو عام 2022 هو “الحسم والإنجاز” بعناوين في مقدمتها “الانتصار لمبادئ حقوق الإنسان وعلوية القانون والدفاع عن الحقوق والحريات وحماية ضمانات الدفاع ومقومات المحاكمة العادلة” ووعود إصلاحية تشمل قانونا جديدا للمهنة وتنقيح صندوق التقاعد والحيطة (كابرا) مع تأكيد البرنامج الانتخابي وقتها السعي لإصدارهما خلال السنة القضائية الأولى للعهدة أي المفترض قبل نهاية العام القضائي 2022/2023. ولكن لم يكن الحسم معاينًا بشكل جدّي في إسناد الحقوق والحريات وشروط المحاكمة العادلة رغم أن محامين كانوا ضحية المحاكمات المتتالية، ولم يتحقق الإنجاز فيما يتعلق بالإصلاحات الهيكلية والتشريعية، التي يعوّل عليها العميد، راهنًا، لإنقاذ عهدته في عامها الأخير. إنقاذ يبدو ظاهرًا بيد السلطة، ولكن يظلّ، وحتى في صورة تحقيق جزئي للمطلوب خاصة ما يتعلق بالأوامر المنتظرة، مشوبًا في المقابل بشبهة التفريط في استحقاق الدفاع الصارم عن رسالة المحاماة وقيمها، وهو استحقاق سيظلّ مطروحًا دائمًا في تقييم أداء الهيئة الحالية. وقد أثبت تاريخ المهنة أن تقييم العمداء يتصدّره دائمًا تقييم مدى وفائهم لما يُوصف في الأدبيات بالدور الوطني للمحاماة وتحديدًا من زاوية علاقتهم مع السلطة السياسية، التي طالما كانت معادية للحريات ومقومات المحاكمة العادلة خلال التاريخ المعاصر للبلاد.