بعد أن وثقت تفاصيل مجريات الجلستين الأولى والثانية للدائرة الجنائية الابتدائية في قطب مكافحة الإرهاب المخصصة لنظر الملف المصطلح على تسميته بتونس بالمؤامرة 1 والذي يحاكم فيه أبرز رموز المعارضة التونسية بتهم إرهابية على خلفية اتهامهم بالتوافق بغاية الإطاحة بحكم رئيس الجمهورية قيس سعيد. تعود المفكرة لتقدّم لقرائها ما رصدت من وقائع اخر جلسات تلك المحاكمة والتي أجريت بتاريخ 18 -10-2025 وكانت القاعة عدد 06 بقصر العدالة بالعاصمة تونس مسرحا لها.
وتأمل المفكرة أن يسهم عملها في فصوله الثلاث في توثيق تاريخ هذه المحاكمة السياسية الهامة وفي إبراز أهمية الالتزام باستقلالية القضاء في بناء دولة القانون (المحرر).
صباح 18 -10-2025، وقبالة قصر العدالة لم يكن الحضور بذات الأهمية العددية لما كان بنفس المكان في تاريخ الجلسة السابقة. قادة جبهة الخلاص المعارضة ومعهم عائلات المتهمين وعدد من الناشطين يرفعون شعارات تطالب بالمحاكمة العلنية. غير بعيد عنهم مجموعات صغيرة من السياسيين ومنهم المعارض البارز حمة الهمامي وجمع من الحقوقيين والمحامين تلتفّ في حلقات جميعها تتجادل فيما يتوقع أن يكون من شدة أنذر بها ما شاهدوه من حشد أمنى كبير وحواجز غطّت كل الرصيف المقابل لمدخل المحكمة من شارع باب بنات ومنعت على غير القضاة وموظفي المحكمة من الدخول لها من بابها المطل على شارع 09 أفريل.
يتقدم المتهمون المحالون بحالة سراح ومعهم افراد العائلات والصحافيين والمساندين نحو الحاجز المنتصب قبل الباب الخارجي للمحكمة، والسؤال الذي يتردد هل سيسمح بالدخول؟ يقول أحدهم بصوت مرتفع: “ممثلو المنظمات الحقوقية الدولية والسفارات يغادرون انظروا… إنهم يغادرون لقد منعوا من الدخول”.. يرد الآخر: “لماذا غادروا في العادة التعليمات تسندهم أولوية في الدخول؟” ينادي أمني: “يجب أن نتعاون لنسهل علينا جميعا، فقط المتهمون وفرد عن كل عائلة متّهم والسادة المحامون يسمح لهم بالدخول، تلك هي التعليمات”. “والصحافيين نحن الصحافيين؟” يتساءل أحدهم. يرد الأمني: “من سيدخل سيعرف أنه سيدخل” قبل أن يعود للحديث مع أعوانه في تجاهل تامّ لكل من حوله.
لم يطل الانتظار: كلّ الصحافيين ممنوعون من الدخول إلى رحاب المحكمة باستثناء ثلاثة منهم، اثنان يمثّلان صحيفتين يوميتين والثالث وكالة الأنباء الرسمية. احتجاجا منهم على ذلك، تجمّع عددٌ من الصحفيين عند الحاجز. خطبت فيهم العضوة المستقيلة من المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحافيين أميرة محمد. فقالت: “حتى في عهد بن علي لم يحدث مثل هذا. في عهد بن علي، كانت الصحافة تواكب الجلسات حتى السياسية منها … اليوم نحن كصحافيين ممنوعون من الدخول ومواكبة الجلسة. منع الصحافة من الحضور يضرب مبدأ المحاكمة العادلة لأن المحاكمات التي تجري خلف أبواب مغلقة ليست محاكمات عادلة. اليوم هناك توجّه للتعتيم على الجلسة. قضية في حجم قضية التآمر تمنع الصحافة من حق مواكبتها يطرح أكثر من سؤال. ماذا يريدون إخفاءه؟ لماذا لا يرغبون في أن تنقل الصحافة ما سيحدث؟ هذا أكيد ما سنعرفه فيما بعد متى تصدر الأحكام”.
انتفاضة الصحافيين وقد كانوا قلة، غطّت عليها حركة المتقاضين حولها ممن منعوا من دخول المحكمة ولا يعلمون كيف سيكون أمرهم وقد فرض عليهم دون سابق إعلام التخلف عن جلسات لهم في محكمة خرجت فعليّا عن خدمتهم. وتفرّغ أمنها لمن دخلوا من بابها الخارجي واتجهوا صوب قاعات الجلسات.
ما بين القاعة والحاجز.. مشاهد مكررة وأخرى غير مسبوقة
عند الباب الخشبي الفاصل بين البهو الداخلي للطابق الأرضي لقصر العدالة وقاعتي الجلسة 5 و6، كان عدد من الأمنيين في انتظار من نجحوا في اجتياز حواجز البوابة الخارجية. يرحبون بالمحامين ويطالبون غيرهم أن يدلوا ببطاقات هويتهم. هذه المرة كانوا أكثر تشدّدا ممّا سبق. استوقفوا زوجة المتهم الصحبي عتيق وافتكّوا منها قميصا رسمت عليه صورة زوجها. طالبت باستعادته. قال لها الأمني بمجرد نهاية الجلسة بإمكانك استعادته. تحاول نعيمة بن عاقلة القاضية الإدارية وزوجة السجين رضا بالحاج الدخول. يمنعها الأمنيون من دون تبرير فتصاب بحالة انهيار عصبي. تصرخ بصوت عالٍ وهي تسأل عن علّة حرمانها من حضور محاكمة زوجها قبل أن تنهار وتكاد تسقط أرضا لولا إسنادها ممن كانوا قربها ومنهم الجامعيّة سناء بن عاشور. يرتبك الأمنيون ويفسحون المجال قليلا لتستلقي نعيمة أرضا ويحاول من معها سقيها بعض الماء فيما يوجه لها من كان منعها من الدخول خطابه قائلا: “بإمكانك الدخول. لا إشكال في دخولك القاعة”. تتمالك وتتكّأ على يديْ أختها صوفية القاضية العدلية وزوجة المحامي غازي الشواشي المتّهم في ذات القضية وتدخل قاعة الجلسة دون أن تردّ بكلمة تاركةً خلفها عددًا قليل من الناشطين الذين منعوا من المواصلة نحو المحكمة منهم الجامعيتان سناء بن عاشور ومنية بن جميع.
في قاعة الجلسة …أجواء أمنية.
كانت الساعة تشير إلى الساعة 9 صباحا و40 دقيقة حين رنّ الجرس. تدخل هيئة المحكمة القاعة يتبعها أمنيّ يحمل سلاحا ظاهرا. كان مشهدا غير معهود ولا مفهوم: “لماذا السلاح في قاعة المحكمة وممن الخوف؟” يسال محام يصل صوته لمن في القاعة. يضرب القاضي على منصته طلبا للصمت وينادي على قضايا رصفت أمامه وشملها جميعا قرار المحاكمة عن بعد. كان في كل مرّة محامٍ يطلب التأخير مبرّرا ذلك بكون موكله جاهزًا للمحاكمة، لكن لم يمكّن من الحضور فيستجاب سريعا لطلبه. تتمّ المناداة على القضية المتعلقة باغتيال الموساد للشهيد محمد الزواوي والتي يحاكم فيها متهمون بحالة فرار. يقدم نائبو القائمين بالحق الشخصي طلباتهم الرامية لأبحاث تكميلية قبل أن يتدخّل المحامي طاهر يحي عضو الهيئة الوطنية للمحامين موجّها كلامه للمحكمة: “هذا الإرهاب الحقيقي هذا هو الإرهاب وليس غيره”. يشيح القاضي عنه بنظره قبل أن ينادي على الملفّ المرتقب.
المناداة على الملف 53856
في تمام الساعة العاشرة صباحا و47 دقيقة، يرصّف حاجب المحكمة 13 علبة أرشيفية فوق المنصة فيتقدّم المحامون وعددهم 214 إلى الصفوف الأمامية، وينشد من كانوا في القاعة النشيد الرسميّ ويرفعون بعده شعار: “نريد جلسة حضورية”. يُنادي القاضي القضية عدد 53856. قبل أن يرفع نظره صوب آخر القاعة قائلا بنبرة غاضبة: “كلّ من يتعمّد التشويش سيتمّ إقصاؤه من القاعة. صمتا”. ومن ثمّ، ينادي على أسماء المتهمين الموقوفين ويملي في كلّ مرة على كاتب الجلسة: “وتبيّن بالمكتوب الوارد من إدارة سجن المرناقية عدد.. أن … (اسم أحد المتهمين) رغم إعلامه شخصيا بالاستدعاء إلا أنه امتنع عن الحضور في القاعة المعدّة دون ذكر الأسباب”. شملت قائمة من نسب لهم رفض الحضور كمال اللطيف، ومحمد خيام التركي، وعصام الشابي، وغازي الشواشي، ورضا بالحاج، وعبد الحميد الجلاصي وجوهر بن مبارك، ونور الدين البحيري والسيد الفرجاني والصحبي عتيق وكمال البدوي، فيما تبين من الشاشة المثبتة في القاعة وممّا دوّن القاضي في محضر الجلسة أن المتهمين حطاب سلامة ورضا شرف الدين حضرا وقبلا بمبدأ أن يحاكما عن بُعد.
من المتهمين بحالة سراح حضر العياشي الهمامي وشيماء عيسى ومحمد لزهر العكرمي ونور الدين بوطار وكريم القلاتي وشكري بحرية ومحمد البدوي. وقفوا في المكان المخصّص لهم وفي الكراسي التي خلفهم والتي هي في العادة مخصّصة للمتهمين الموقوفين. يجلس أمنيون عددهم كبير تحوّلوا بفعل تراصهم وتلاصقهم لما يشبه الحاجز البشري بين المحكمة والمتّهمين الحاضرين من جهة ومن هم في القاعة من محامين وغيرهم من جهة أخرى.
يتوجّه منسّق الدّفاع رئيس الفرع الجهوي لهيئة المحامين بتونس العروسي زقير للمحكمة بخطابه: “سيدي الرئيس نطلب منكم التنصيص في محضر الجلسة على مراسلات موكلينا المعتقلين الموجهة لمحكمتكم… سيدي الرئيس الموكلين وجهوا للمحكمة مراسلات وإدارة السّجن بلغتها لكم وهم طلبوا منكم فيها احترام حقّهم في أن يُحاكموا حضوريّا. هم يطلبون الحضور أمام محكمتكم ولا يقبلون بحرمانهم من حقهم هذا… سيّدي الرئيس، يجب التنصيص في محضر الجلسة على مراسلاتهم وموقفهم ويجب تلاوة مراسلاتهم لنسمعها جميعا”. ثم يضيف: “نلاحظ أن هناك إعلامات نيابة جديدة من زملاء محامين وإعلامات بتوسّع في نيابات متهمين من زملاء ينوبون في الملف ونحن جميعا نطلب التأخير احتراما لحقّ الدفاع طبعا بعد تلاوة المراسلات”.
يتجه الأمني الذي يرتدي زيّا مدنيّا ويبدو أنه مكلّف في الإدارة الأمنية لقاعة الجلسة إلى رئيس الجلسة. يتحادثان بصوت لا يسمع ولا يقطع حديثهما إلا تدخّل المحامي بوبكر ثابت الاحتجاجي: “الصحافيون يمنعون من دخول قاعة الجلسة هذا فيه تعتيم على محاكمة تهم الرأي العام … منع الصحافيين من حضور الجلسة لا سند قانوني له … الإعلاميون لا يخضعون لواجب تحصيل ترخيص إلا فيما يتعلق باستعمال أجهزة التسجيل والتصوير والنقل في غير ذلك لا… من اتخذ مثل هذا القرار؟”.
يتكلم أحد الحضور: “لم يُسمح إلا لصحافيين من صحف معينة بالدخول” شخص آخر يقول “عائلات المتهمين الموقوفين منعت من الدخول”.
يتفاعل المحامي ثابت ويتدخل مجدّدا: “نعم والعائلات منعت من الدخول. لماذا منعت خاصة وأن القاعة ما زالت تتسع؟ هذا غير معقول. دوركم هو ضمان العلنية خاصة في محاكمة غير عادية تهمّ الرأي العام”. يطلب محامٍ شاب الكلمة. يرد القاضي بنبرة غاضبة “آش حاشتك؟”. يعود ثابت وهو من المحامين الناشطين في هياكل المحاماة ليتدخل قائلا: “هذا خطاب لا يليق بالمحكمة ولا بمكانة الدفاع”.
يستعيد رئيس فرع المحامين منسق الدفاع الكلمة ويقول: “نحن نطلب الاطّلاع على المكاتبات التي وردت من إدارة السجون.. هذا طلب أساسيّ.. تجاهله وعدم الاستجابة له مماطلة ونعتبره مساسا بحق الدفاع.. لدينا مطالب شكلية نطلب الاستماع لها وفسح المجال لنا للمرافعة فيما تعلق بها”.
تتحدث المحامية دليلة بن مبارك: “نريد الاطلاع على المكاتيب”. يعاضدهما المحامي عبد العزيز الصيد: “سيد الرئيس هل وردت مراسلة موكلنا جوهر بن مبارك؟”.
يتعالى ضجيج من خارج القاعة يعلق سمير ديلو في حديث للمحكمة: “كنا نترافع من أجل حضور المتهمين والآن أصبحنا نترافع من أجل العلنية. سيد الرئيس، أنت المسؤول عن العلنية وليست وزارة الداخلية”.
عميد المحامين: من خارج القاعة إلى داخلها.. صوتٌ خافت رغم الضجيج
أمام القاعة، كان الأمني يٌخاطب الجامعية سناء بن عاشور المصرّة على الدخول والتي كانت وزميلتها منية بن جميع قد تمكنتا من تجاوز الحاجز الأمني أثناء إنجادهما لنعيمة بن عاقلة .. “لا يسمح لك بالبقاء هنا. أنت تجاوزت الباب. لن أرجع لك بطاقة هويتك إلا إذا خرجت من هذا المكان”. يصادف ذلك حضور عميد المحامين حاتم مزيو. يطلب العميد من الأمنيّ فيما يشبه الأمر بالسماح للأستاذتين بالدخول. يرفض الأمنيّ متمسكا بكون التعليمات تمنع ذلك. ينفعل من كان يظنّ أن له مكانة تجيز منح الاستثناء ويلج داخل القاعة ويتقدّم مسرعا إلى كراسي المحامين.
يفسح له من بالقاعة المجال وسط فرح لدى بعضهم واستغراب من حضور وصف بالمتأخّر لدى آخرين، فيصل إلى الصف الامامي ويخاطب المحكمة بصوت لا يكاد يسمع. يصرخ من في القاعة: “نريد سماع العميد. إنه عميد المحامين يجب منحه المصدح”. لا يستجيب القاضي فيعود العميد للترافع قائلا: “تمّ منعي من دخول القاعة..”. تتعالى أصوات بين الحضور بعضها يعبر عن الاستنكار وبعضها يضحك ساخرًا.. يقول القاضي فيما يشبه التهديد: “لا أريد أيّ تعليق”. يقول مزيو: “تم منع أساتذة وجامعيين من الدخول للقاعة معي. هذا مسّ بالعلنية. علاقتنا بالقضاء هي علاقة شراكة. لماذا تشترط النيابة الصفة لدخول القاعة؟ منع شخص واحد هو مسّ بالعلنية. من حق كل تونسي الحضور”. وبعد صمتٍ لثوانٍ، يواصل: “أتمسّك بما قاله الزملاء من مسائل أوليّة. ونحن الدفاع منظّمون ورئيس الفرع هو من ينظّم الدفاع. والعميد دائمًا ما يكون على رأس الدفاع …ما الذي أوصلنا إلى هذا؟ يمكن للملف أن يمرّ بطريقة سلسة باحترام شروط المحاكمة العادلة. المتهمون يريدون الحضور. هل تريدون الحقيقة؟ بدون الخوض في الأصل، هل سترتاح المحكمة للحكم دون سماعهم؟ هذه قضية تهمّ البلاد. نريد معرفة الحقيقة. ستظلّ وصمة عار عدم إحضار المتهمين”.
يدعو القاضي محاميا آخر للترافع. يزيد غضب العميد الذي تمّت مقاطعته. ويصرخ المحامون: “لا نقاطع العميد. لا نقاطع العميد”. يعتذر القاضي ويقول: “كنت أظن أنه قد أكمل مرافعته.” لا يعقب العميد ويقول بنبرات لا يخفى ما فيها من افتخار بدعم يبدو أنه كان يطلبه: “المحاكمة عن بعد ارتبطت بجائحة كورونا. هل أنتم مرتاحون لهذا الوضع؟ أنا عميد تهمّني سمعة بلادي لا أقبل محاكمة عن بعد من دون سبب حقيقي وجدي. نحن نريد الحقيقة وكل شخص يتحمل مسؤوليته”.
يتمّ العميد مرافعته ويخرج من قاعة الجلسة مسرعا وهو يردّ على تحيات عدد من المحامين شكروا حضوره فيصادفه في الباب كاتب عامّ هيئة المحامين حسان التكابري الذي اختار أن يبقى بعيدا يراقب ما يحدث في صمت.
ما بعد خروج العميد مرافعات ومرافعات
“حسنا من التالي..”يقول القاضي. يجيب منسّق الدفاع: “للمحاماة تقاليد ومن تقاليدنا أن نكبر عمداءنا السابقين ونعطيهم أولوية الترافع في القضايا العادلة.. عميدنا شوقي الطبيب من سيترافع الآن”. يفتح الطبيب هاتفه ينظر فيه ويقرأ دون اكتراث بما أظهر القاضي من تعجّب: “حين اشتغلت في الدوائر الجزائية كنت أنتظر مثول المتّهم أمامي لأفحص فيه كل تعبيرات وجهه وانكسارات عينه وتلعثمه في الإجابة وصموده أمام التمسك ببراءته ونظراته المرتعبة من بعض الأسئلة وتيقنه من بعض الأجوبة وهروبه من أسئلة حارقة ونظرته التي تحكي اعتذارا أو أملا في رحمة بعد ارتكاب جرم. لم أكن قادرة على تكوين أيّ رأي قبل ان أستوعب شخصية المتهم وأسباب ارتكابه لجرمه وان أقف على شعوره بالذنب لما اقترفته يداه أو استبساله في الذود عن براءته كمن يتمسّك بآخر جرعة أوكسيجين قبل الاختناق. لذلك أنا عاجزة عن استيعاب قدرة القاضي الجزائي على الحكم على متهم من خلال شاشة لا يرى فيها تقاسيم وجه المتهم ولا يسمع فيها اختلاجات نفسه ولا تسارع دقات قلبه ولا يدقق فيها في عمق نظراته. الحكم يتكون من مشهد كامل متكامل بدءًا بأوراق الملف للإنصات للمتهم وتفحّص تصريحاته وتقليبها على جوانبها ومكافحته بما يؤسّس لإدانته وبتقليب ملابسات الفعل ومسبّباته والاستماع للسان الدفاع ودفوعاته والوقوف نهاية على الأدلة والقرائن التي قد تقلب براءته المفترضة إلى إدانة، كلّ ذلك مع الأخذ بعين الاعتبار مشهديّة كاملة لسوابق حياة المتهم الشخصية وتجاربه ومعاركه، الضرر الذي تسبب فيه وفداحته، روح المسؤولية لديه وعمق شعوره بالذنب من عدمه، وإمكانية ردعه دون تحطيم حياته وتمكينه من فرصة للبدء من جديد. الحكم الجزائي لا يمكن أن يكون عادلا ومنصفا وأنت تلتقط صورة هامشية للمتهم عبر شاشة رقمية”. يغلق الطبيب الهاتف. يضعه أمامه ثم ينظر إلى القضاة في صمت، كأنه يقصد زيادة فضولهم قبل أن يقول لهم في صيغة جواب عن سؤال لم يطرح: “هذه تدوينة كتبتها قاضية ونشرتها على صفحتها للتواصل الاجتماعي … قاضية كتبت هذا وأنا حرصت أن أقرـ كل ما كتبت علّكم تستمعون.. قائلة هذا الكلام قاضية.. قاضية كثيرون ممّن هم هنا يعرفونها شجاعتها وكفاءتها.. قالت لكم ولنا الرئيسة ما يجب أن يقوله كل قاضٍ يحترم مهنته.. سيدي الرئيس نحن نتجه إلى محاكمة سريّة. ليكن للمحكمة جرأة إعلان ذلك ….”
يترافع بعد الطبيب محامي المتّهم كمال اللطيف. يتمسّك بكون موكله لم يرفض الحضور بل يتمسّك بالحضور ويطلب إرجاء كل نظر في الأصل لحين إحضار موكله الذي يتمسك بحقه في محاكمة حضورية يدافع فيها عن نفسه ويرد فيها الاتهام والإشاعات التي تطاله. ويتكلّم تاليًا المحامي محسن السحباني الذي كان أول ما قال وهو ينظر الى القاضي: “منطوق حكمك لا يعنينا في أيّ شيء، ولا يعني المتهمين في السجن أو خارجه، لكن ما يعنينا ضمان الحق الكامل في محاكمة عادلة وتطبيق مجلة الإجراءات الجزائية تطبيقًا حرفيًا. نريد الحقوق الدنيا كحق المتهم في المثول أمامكم في قاعة الجلسة هذا ما نطلبه وليس كثيرا.. سيدي الرئيس في ذات السياق، أعلمكم أني أوسّع إعلام نيابتي ليشمل المتهم رياض الشعيبي. ونيابة عن موكلي هذا أقدّم لكم ما يفيد أنه طعن بالتعقيب في قرار دائرة الاتهام … هذه شهادة نشر على ذلك … الآن يجب أن تصرحوا بكون نشر القضية سابقًا لأوانه ويجب عليكم انتظار قرار محكمة التعقيب … أطلب التشطيب على القضية لكن قبل ذلك من واجبكم إطلاعنا على مراسلات المتهمين وتضمين ما فيها بمحضر الجلسة. هم يتمسّكون بحقهم في الحضور لماذا لا يقال ذلك؟”
يؤول دور الترافع بعد ذلك للمحامية آسيا حاج سالم التي تقول: “نحن شركاء، وأنا أدافع عن شريكي أي عن القضاء وعنّي أي عن الدفاع وعن حقّ موكلي أي من وجّه إليه الاتهام … القضاء الجزائي هو قضاء وجدان وأنتم وحماية لحقكم في وجدانكم عليكم واجب الدفاع عن ركن العلنية لجلساتكم … سيدي الرئيس لماذا لا تعطينا المصدح لنبلغ صوتنا في أريحية مثل بقية القضايا؟ ولماذا تمنعون المتهمين من الحضور… هذه قاعة التي نحن نترافع فيها مثل فيها أخطر المتهمين في تاريخ بلدنا… نعم لقد أحضروا إلى هذا المكان من دون خوف منهم … أخطر من اتهموا بالإرهاب … لماذا الان لا يحضر المتهمون … من يفرض عليكم هذا الشرط ويصطنع المشاكل؟ من يدفعكم لهذا الحرج؟ دافعوا عن أنفسكم. دافعوا عن القضاء. دافعوا عن الحق لأن الله اصطفاكم من سابع سماوات لإقامة العدل”.
في الاثناء يبدو القاضي منشغلا بحديثه مع المسؤول الأمني الذي دنا منه وأخبره بأمر كان من أثره أن أعلن في تمام الساعة 13 و13 دقيقة عن رفع الجلسة وبرّر ذلك بأسباب صحية لأحد المتهمين”.
استئناف الجلسة: مرافعات في الشكليات والإجراءات
في تمام الساعة 13 و35 دقيقة، يرنّ جرس القاعة ويدخل القضاة مجددا ليجلسوا على أرائكهم وليبادر الرئيس دون انتظار طلب جديد يوجه له في ذلك إلى تسليم حاجب المحكمة وثائق ويطلب منه تمكين رئيس فرع المحامين منها قائلا: “هذه المكاتيب التي طلبتم الاطلاع عليها”. يتصفح زقير الأوراق بسرعة قبل أن يجيب وقد ارتسمت على وجهه بسمة ساخرة: “ليس هذا ما كنا نريد أن نطلع عليه وأن تضمنوه في المحاضر … هذه مراسلة السجن لكم وليست مراسلات الموكلين المحتجزين الموجّهة للمحكمة”. يرد القاضي وهو يقلب في أوراق الملف أمامه: “آه ..هذه هي”. ويمسك ورقات يعطيها مجددا لحاجب الجلسة ليمكن منها زقير.
ينكب زقير ومعه المحامون القريبون على الورقات، يقلّبون فيها وعين القاضي والأمنيين ترقبهم بإمعان.. يقطع صمتا ساد وشمل كل من كان في القاعة صوت الأستاذ عبد العزيز الصيد وهو يتحدث محتجا: “أين مراسلة جوهر ..جوهر في سجن بلي وقد كتب مراسلة”. يجيب القاضي: “هذا ما وصلني”. يرد الصيد: أريد أن تضمّن في المحضر ما قلته لنا الآن. وأنا باسم جميع المتّهمين الموقوفين أطلب إحضارهم ليحاكموا في محاكمة حضورية كما أطلب منكم وقد طعن عدد من المتهمين بالتعقيب في قرار دائرة الاتّهام إيداع الملفّ إلى حين تمام بتّ محكمة التعقيب فيه تطبيقا لمقتضيات الفصل 261 من مجلة الإجراءات الجزائية”. يقاطعه القاضي مرتبكا وموجها خطابه لزقير: “أين الأوراق؟” يجيب زقير: “أنها لدى الزملاء يطلعون عليها”. يرد القاضي: “لكني لا أراها”. يحرك المسؤول الأمني رأسه في ايماءة ظاهرة ينتبه لها القاضي فيأذن القاضي وقد عادت الابتسامة لوجهه للصيد بمواصلة مرافعته. وفي أول كلامه يقول الأخير: “إنها محاكمة سرية”. يسأله القاضي مقاطعا ولكن دون شدّة: “كيف هي سرية؟” فيجيبه المحامي بهدوء: “العائلات والصحافيين منعوا من الحضور سيدي الرئيس. هذا ما قلناه منذ بداية الجلسة ونتمسك به”. يتبسم القاضي وينهي النقاش بشكره المحامي على مرافعته معتبرا أنها كانت “قانونية صرفة” في خطاب ربما كان الهدف منه حثّ غيره من المحامين على الكفّ عن الحديث عن خلفية الملف وطابعه السياسي وهو ما لم يستجب له من ترافع بعد ذلك.
ما بعد محاولة التهدئة: مرافعات جريئة
ترفع المحامية يسر حميّد ملفا عاليا قبل أن تسلّمه لحاجب الجلسة ليوصله إلى لقاضي وهي تقول: “قدمنا لكم شهادتي نشر تثبتان طعن موكلينا كمال الجندوبي ونورالدين بن تيشة في قرار دائرة الاتهام بالتعقيب … نطلب منكم التشطيب على القضية … سيدي الرئيس أنت وهيئة المحكمة معيّنون بمذكرات عمل صدرت عن وزيرة العدل، ووزيرة العدل من أثارت التتبعات في القضية. مواصلة نظركم في القضية يجعل من الوزيرة الخصم والحكم”. ينفعل القاضي ويردّ فيما يبدو محاولة منه لإنهاء الخطاب المحرج: “سبق ونظر رئيس المحكمة في التجريح ورفضه وانتهى الأمر”. تتبسم المحامية وتجيب في هدوء: “نحن غيرة على العدالة نطلب منك أن تجرح في نفسك. نحن نطلب منك التجريح في نفسك”، قبل أن تمضي في مرافعتها قائلة في خطاب وجهته لمن كان معها من محامين وحضور: “المعتقلون وجّهوا لكم رسالة عن طريقنا… هم يقولون لكم: إن سُجنا اليوم فالغد لنا… الحرية لا تُقمع والفكرة لا تحاكم. والتاريخ سينصف من كان في صّف الوطن. “مناش خايفين” من وجودنا خلف القضبان لكن نخاف من أن تدار الدولة بمنطق السجون. سيسجّل التاريخ أننا لم نخُنْ وواجهنا وسنبقى أوفياء لقضية هذا الوطن. نحن صامدون”. وبعد صمت شمل كل من كان حاضرا، واصلت لتقول في نهاية حماسية لمرافعتها: “نحن كفريق دفاع صامدون وسنظلّ ندافع عنهم حتى آخر لحظة لأنّنا على يقين أنّهم على حقّ”.
بعد حميد يرافع المحامي يوسف الباجي مستهلا مرافعته بسؤال: “الحكم يصدر باسم الشعب… كيف سيصدر الحكم في هذه القضية باسم الشعب والشعب ممنوع من الحضور والاطلاع؟ موكّلي لم يلتقِ القاضي إلا مرّة واحدة … طرح فيها عليه القاضي أربعة أسئلة فقط… من حينها وهو في السجن. هذا ملفّ استثنائي يُدار بإجراءات استثنائية … سيّدي الرئيس، موكلي لم يرفض الحضور هو يتمسك بحقه في الحضور”.
يصل الدور للمحامي سمير ديلو. وقبل أن يتكلم، يسأله القاضي في حدّة ظاهرة: “هل ستترافع في الشكل؟” يجيب ديلو في هدوء: “وهل يمكن غير ذلك؟ الملف غير جاهز”. يعلق القاضي: “هناك كثير من الأمور قد ذكرت لا فائدة من التكرار”. لا يعقّب ديلو وينطلق في مرافعته قائلا “في شكل الشكل نلاحظ أنه تم تقييد حق الدخول إلى قاعة المحكمة … وإذا كان هناك من يريد الإمعان في انتهاك الحقوق فنحن نقول له نحن هنا لأننا مصرون على التنديد بكل الانتهاكات… ما حصل مع العميد يراد منه تخويفنا. هم يريدون أن يقولوا لنا أنّه لا مكانة لديهم لأيّ كان… من يحكم: وزارة الداخلية أم أنتم؟ في الجلسة الفائتة، منع الصحفيون زياد الهاني وخولة بوكريم ومنية العرفاوي بالاسم نعم بالاسم واليوم لم يسمح الا بدخول صحافيين بعينهم.. لماذا المحاكمة عن بعد ما مبرّر هذا سيدي الرئيس قبل أيام قليلة تمّ جلب نور الدين البحيري للمحكمة لم يحصل أيّ إشكال. لماذا يمنع من الحضور الآن؟”
في الأثناء يتقدم المحامي أحمد صواب ليترافع.. يهمس أحدهم سيدي أحمد طرافته ستخفّف عنا بعض التعب، سنضحك معه بمرارة.. ينظر إليه صواب ويقول اسمع مرافعتي عنوانها “القاضي والقانون والحق”. يتدخّل القاضي موجّها خطابه إلى المحامي الذي يفتخر دوما بكونه كان قاضيا ويؤمن باستقلالية القضاء: “هل ستترافع في الأصل؟ عنوان مرافعتك يوحي بذلك”. يرّد صواب: “لا في الشكل. وسأحدثك فيها عن القاضي العادل سيدي الرئيس. القاضي يجب أن يمتنع عن أيّ انتهاك للحقوق والحريات.. القاضي العادل يكون مع العدل والإنصاف ويربّي شباب القضاة على ذلك… لا نريد القاضي الفاسد ولا يكفينا القاضي التقنيّ: نحن نحتاج القاضي العادل …السلطة لا تدوم سيدي الرئيس”.
تاليا، يتكلم المحامي فوزي المعلاوي فيكمل ما بدأه صواب من حديث عن القضاء، وكأنه بدوره يذكّر بكونه انتمى للقضاء وكان من المدافعين عن قيمة القضاء المستقلّ فيقول للمحكمة: “أنتم لا تنظرون في أوراق.. أنتم ستحكمون على أشخاص. حكمكم سيحدد مصيرهم ومصير غيرهم. هذه القضية ليست كما قيل لكم قضية تآمر على أمن الدولة. إنها قضيّة تآمر على القضاء. نبحث فيكم عن القاضي العادل، أي القاضي الذي يطمئن البريء لعدله..”. يطلب القاضي مرافعة في القانون. يجيبه المعلاوي ” ليس هناك في الملف قانون لنترافع فيه..”
من بعده، تتكلم المحامية سامية عبو فتقصر مرافعتها على وقائع طلبت تضمينها بمحضر الجلسة وقالت أنها تتعلق بتجريح من موكلها رضا بالحاج في رئيس الجلسة. “يحاول القاضي ألا يظهر أي ضجر من المرافعة رغم ما فيها من اتّهامات له، لكنه لا يخفي ترحيبه بنهايتها وختم المرافعة فينادي على المتهم الحاضر عن بعد رضا شرف الدين. لا يصل أيّ رد. يسأل: هل تسمعني؟ يرد صوت: نعم أسمع .. يتدخّل المحامي محمد سرحان خليف: “سيدي الرئيس أحضر عن موكلي هو يرغب في أن يحاكم وأنا مستعدّ للمرافعة. لكن نفوض النظر في التأخير استجابة لطلب الزملاء موكلي لم يستمع له طيلة نشر القضية إلا لمرة واحدة ولمدة لم تتجاوز الربع ساعة وقد فوجئ باتهامه في قضية لا علم له بوقائعها ولا تربطه علاقة بأغلب من اتّهم فيها. سيدي الرئيس نحن جاهزون للترافع في الأصل وموكلي مستعدّ لاستنطاقه هو يرغب في اثبات براءته ولا يفهم سبب اتهامه”.
تعددت لاحقا المطالب الشكلية من محامين تمسكوا بكون القضية تحتاج أبحاثا تكميلية ومنها المكافحة مع الشهود محجوبي الهوية الى أن قطعها القاضي في تمام الساعة 15 و11 دقيقة معلنا رفع الجلسة مؤقتا للمفاوضة في المطالب الشكلية.
الفصل الأخير: قرار الحكم..
بعد أكثر من ساعتين من الانتظار، وفي تمام الساعة 17.20 مساء، يعود القضاة وكاتب المحكمة للقاعة، يحيط بهم عدد كبير من الأمنيين أحدهم كان يحمل سلاحا وقف خلف القضاة في وضع تحفّز. يعلم القاضي الحضور بأنّ محكمته قررت التشطيب على أسماء كل من كمال الجندوبي ورياض الشعيبي ونور الدين بن تيشة ومطالبة غيرهم الجواب في أصل التهمة. تتعالى أصوات المحامين من دون نظام وفيما يشبه الجدل: “هذا غير قانوني. محكمة التعقيب متعهدة بالملف برمّته.. لا يمكن التشطيب على متّهمين دون غيرهم.. هذا غير قانوني.. ماذا لو أثارت محكمة التعقيب دفعا يهمّ النظام العام يشمل كل المتهمين.. لم يسبق لمحكمة أن أصدرت حكما كهذا”. يتجاهل القاضي كل من حوله. يفتح ملفه يخرج قرار دائرة الاتهام ويشرع في تلاوته. تتعالى احتجاجات المحامين: “هذا غير قانوني …نريد استرجاع إعلامات نيابتنا … لا نريد أن نكون شهود زور.” يتجمع الأمنيون حول منصة المحكمة فيشكلون حلقة حولها كادت تحجب القضاة عن كل الحضور.. زاد غضب المحامين ورفعوا شعار: “لا لقضاء التعليمات”. ينفعل القاضي ويقول: “حجزت القضية للمفاوضة لتعذر تواصلها.. ويغادر مسرعا”.
خلت بعد ذلك قاعة الجلسة من القضاة وبقي فيها المحامون في حيرة ومعهم صورة المتهمين الحاضرين عن بعد وهم كما يبدو من ملامحهم في حيرة من نهاية لجلسة رغبوا أن يسمع فيها صوتهم ولكن هذا لم يحصل وقد فرض عليهم انتظار أن يصدر الحكم.
فجر اليوم الموالي: وكالة الأنباء تعلن أحكاما بالإدانة للجميع
الساعة الرابعة و55 دقيقة من يوم 19-04-2025، تنقل وكالة الأنباء الرسمية عن المساعد الأول لوكيل الجمهورية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب تصريحا مفاده أن المحكمة أصدرت أحكامًا بالسجن في حقّ جميع المتهمين، بما طوى فصلا أول من فصول محاكمة كانت استثنائية في إجراءاتها وفي كلّ ما أحاط بها.