تشكل الضمانات الممنوحة للمجموعات الطائفية، وخصوصا في مجال ضمان تمثيلها وفق معادلات متفق عليها في السلطات السياسية، إحدى سمات النظام اللبناني. ولكن، هل تنسحب هذه الضمانات على القضاء، بمعنى هل يقتضي الالتزام بمعادلات مماثلة في المجال القضائي؟
المادتان 12 و95 من الدستور اللبناني تجيبان على هذا السؤال بالنفي. ففيما تؤكد الأولى أن “لكل لبناني الحق في تولي الوظائف العامة” وأن “لا ميزة لأحد على الآخر إلا من حيث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينص عليها القانون”، تلغي الثانية صراحة “قاعدة التمثيل الطائفي” مؤكدة على وجوب اعتماد معايير “الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء… وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني”.
ولكن رغم وضوح الدستور على هذا الوجه، فإن الممارسات ذهبت في اتجاهات معاكسة، علما أن هذه الاتجاهات تعمقت وتوسعت أطرها على ضوء اشتداد المحاصصة السياسية/ المذهبية. ويظهر التدقيق في التشكيلات والمساومات الحاصلة في مناسبتها أن القوى السياسية “الطائفية” السائدة حرصت ليس فقط على اكتساب المراكز المهمة من حيث المسؤوليات المناطة بها، بل بشكل خاص المراكز الواقعة ضمن مناطق نفوذها.
وعليه، تكتسب الصورة التي كنا باشرنا في تكوينها في مقالين سابقين حول تكوين مجلس القضاء الأعلى والتشكيلات القضائية أبعادا إضافية. ففضلا عن أنه بات بإمكان القادة السياسيين تعيين مقربين منهم في المراكز القضائية العائدة للطوائف التي يمثلونها، فإنهم يعينونهم في مناطق نفوذهم، مما يضمن لهم قوة ونفوذا إضافيين. ومن هذه الزاوية، تخرج مسألة توزيع المراكز القضائية عن كونها تطبيقا لقاعدة المناصفة لتتحول إلى تقسيم المحاكم إلى دوائر نفوذ، مع ما يستتبع ذلك من ارتياب مشروع حول حياديتها ومن مخاطر على ضمانات استقلال القضاء.
مراسيم التشكيلات: أجوبة مختلفة حول المناصفة؟
يمكن اختزال هذه الإجابات في ثلاثة:
الجواب الأول، وهو ضمان معادلات مرنة بالنسبة إلى عدد من المراكز الهامة. فلا يهيمنّ قضاة من لون طائفي واحد على المراكز القضائية الهامة ولا يحصرنّ بالمقابل قضاة من ألوان طائفية أخرى في المراكز الأقل اجتذابا، من دون أن تتقيد التشكيلات بالمقابل بمبدأ المناصفة بصورة صارمة. ومن حيث المبدأ، يبدو هذا الجواب الأكثر انسجاما مع مقتضيات الكفاءة. وتجدر هنا الإشارة إلى أن هذا الجواب لا ينفي بالضرورة امكانية اعتماد درجات مختلفة من المرونة، بحيث تكون المرونة وقفا على حساسية المركز والنفوذ الذي يفترضه، فتزيد أو تقلّ في حال قلّت أو زادت هذه الحساسية. وباستثناء عدد قليل من المراكز المحفوظة تقليديا لطوائف معينة (مثلا رؤساء غرف التمييز)، اعتمدت المرونة بمعناها الواسع في فترة التسعينيات على العديد من التعيينات القضائية وبخاصة في تشكيلات 1993. وفيما هدفت تشكيلات 2003/2004 إلى إبقاء المرونة مع التخفيف من مظاهر اللاتوازن الفاقع في عدد من المراكز، فإن هذه المقاربة المرنة شهدت انحسارا كبيرا في أول تشكيلات شاملة بعد انهيار فترة الوصاية السورية وعودة الزعماء المسيحيين إلى الحكم، أي في 2009، لنعود إلى تطبيق قاعدة المناصفة.
ختاما في هذا الخصوص، يشار إلى أنه قد يكون لهذه المرونة تجليات أخرى في التشكيلات القضائية، كأن تعتمد مرونة في توزيع بعض المراكز القضائية بين المذاهب التابعة لنفس الطائفة وإن التزمت بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين في شأنها. وهذا ما نجد شواهد كثيرة عليه أدت أحيانا إلى تطور خطاب حول مظلومية بعض هذه المذاهب، ومنها مظلومية الكاثوليك والمسيحيين عموما تبعا لتشكيلات 2003-2004 أو مظلومية الشيعة التي برزت بشكل خاص في سياق الإعداد لتشكيلات 2017.
الجواب الثاني وهو ترسيخ معادلة المناصفة الصارمة بين المسيحيين والمسلمين، فضلا عن معادلات معينة بين مذاهب كلا من الطائفتين المسيحية والإسلامية.
الجواب الثالث، وهو غالبا ما يقترن بالثاني أو ينتج عنه، وقوامه تخصيص مراكز قضائية لطوائف معينة، وهو ما ساغ تسميته بتطييف المراكز القضائية أو بالأحرى مذهبتها. بمعنى أنه لا يتمّ إعمال المناصفة في توزيع فئة معينة من المراكز وحسب، إنما يتمّ تحديد اللون الطائفي لكل من هذه المراكز بصورة مسبقة. ومن الأمثلة الواضحة في هذا الصدد، هو أن القيمين على التشكيلات القضائية لا يراعون عند اختيار رؤساء الغرف في محكمة التمييز مبدأ المناصفة (5 مسيحيين و5 مسلمين) وحسب، بل يلتزمون في تعييناتهم باللون المذهبي لهذه المراكز. ومؤدى ذلك مثلا هو اشتراط أن يكون رئيس الغرفة التجارية لمحكمة التمييز والتي يفترض أن تطور وتوحد الاجتهاد في هذا المجال، قاضيا درزيا. وعليه، ومنذ 2010، تم تعيين ثلاثة رؤساء لهذه الغرفة، لم يمارس أي منهم في أي مرحلة من مسيرته القضائية، القانون التجاري.
ويؤدي هذا التخصيص إلى غايتين متلازمتين: أولا، أنه يحدد بوضوح حصة كل مذهب بموجب أعراف راسخة. ومن شأن هذا الأمر أن ينهي امكانية المساومات بين المذاهب المختلفة، سواء لتحسين حصتها أو لرفع ما تراه مظلومية (غبنا) بحقها. وهذا ما قد يحصل مثلا في حال ادّعت إحدى الطوائف أنه على الرغم من تساوي المراكز عدديّا، فإن المراكز الممنوحة لها أقلّ أهمية من المراكز الممنوحة للطوائف الأخرى مما يؤدي إلى الإخلال بمبدأ المناصفة فعليا. أما النتيجة الثانية لمذهبة المراكز، هو أنها تحصر عمليا المرجعية السياسية المختصة في تسمية المرشح بمرجعية سياسية واحدة وفق الأعراف المعتمدة في إجراء التشكيلات القضائية، مما يبسط عملية الاختيار ويزيل العديد من الألغام منها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تخصيص المراكز على هذا النحو غالبا ما يترافق مع توجه إلى إعلان “حساسية” هذه المراكز أو على الأقل أهميتها، بحيث يأتي تخصيصها طائفيا كتكليل لهذا الإعلان وكنتيجة طبيعية له.
ويلحظ أنه منذ حوالي عقد، وبخاصة منذ تشكيلات 2009-2010، تشهد مجالات تنظيم القضاء كافة توجها نحو تعزيز الاعتبارات الطائفية بشأنها وتاليا نحو اعتماد الإجابات الأكثر صرامة في هذا الخصوص، أي الجوابين الثاني وأو الثالث. وهذا ما أكده بوضوح كلي وزير العدل سليم جريصاتي الذي صرّح في حفل افتتاح السنة القضائية 2017-2018 الحاصل في 17 تشرين الأول 2017 أن أحد المعايير التي انبنت عليها التشكيلات هو المناصفة. وقد جاء هذا التصريح، وهو الأول من نوعه، ليقطع مع الخطاب السّابق الآيل إلى تغليب اعتبارات الكفاءة على اعتبارات الطائفية.
ومن الأمثلة الواضحة على التحولات الحاصلة في 2009 هو مذهبة للمسؤوليات القضائية الكبرى أي المراكز الثلاثة الأعلى في محاكم الاستئناف الست وهي تباعا الرئيس الأول للمحكمة والنائب العام الاستئنافي وقاضي التحقيق الأول. فرغم الالتزام بالمناصفة في توزيع هذه المسؤوليات منذ 1993 على الأقل (9 للمسلمين مقابل 9 للمسحيين)، سُجّل خلال التسعينيات التعامل بشيء من المرونة في توزيع هذه المسؤوليات بين المذاهب التابعة للطائفة نفسها مما أدى إلى تجريد الكاثوليك من أي مركز منها في سنة 2004، بخلاف المذاهب الرئيسية الأخرى التي حظيت باثنين أو ثلاثة على الأقل. ولمعالجة الأمر، اتفق القيمون على مشاريع التشكيلات على أن توزع هذه المراكز الثمانية عشر على المذاهب الرئيسية، بحيث يحصل كل مذهب على مراكز رئيس أول ونائب عام استئنافي وقاضي تحقيق أول. ولا يستثنى من ذلك إلا مراكز قاضي التحقيق الأول، حيث تحصل الطائفة الشيعية على اثنين منها مقابل لا شيء للدروز. وربما يجد هذا الاستثناء مبرره في احتفاظ الطائفة الدرزية بمركز قاضي التحقيق العسكري الأول، وهو مركز يعدّ مهما جدا في التراتبية القضائية للمراكز القضائية.
جدول 1: مذهبة المسؤوليات الكبرى في القضاء
|
|
جبل لبنان
|
|
|
|
|
|
رئيس أول لمحكمة الاستئناف
|
|
|
|
|
|
كاثوليكي
|
نائب عام استئنافي
|
|
|
|
كاثوليكي
|
|
|
قاضي تحقيق أول
|
|
أرثوذكسي
|
ماروني
|
|
كاثوليكي
|
|
وبمراجعة تشكيلات 2017، أمكن تسجيل اعتماد مبدأ المناصفة في العديد من المراكز القضائية، مع توسيع مداها والمراكز القضائية التي تشملها. فهي لا تقتصر على رئاسة غرف محكمة التمييز أو المسؤوليات الكبرى في المحاكم أو قضاة النيابة العامة والتحقيق أو رؤساء الغرف على اختلاف درجاتها، إنما باتت تشمل القضاة المنفردين. وهذا ما سنحاول تبيانه بالأرقام بشأن مختلف هذه الفئات أدناه.
- على صعيد قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق:
لا يختلف اثنان على الطابع الحساس لمراكز النيابة العامة والتحقيق، على أساس أن للذين يتولونها صلاحية واسعة في احتجاز حرية الأفراد أو الإفراج عنهم. وعليه، بعدما سادت مرونة معينة في توزيع هذه المراكز في التسعينيات، اتجه واضعو تشكيلات 2017 إلى إخضاعها للمناصفة، في موازاة مذهبتها. ويلحظ هنا توجه إلى اعتبار مركزي المحامي العام وقاضي التحقيق متساويين على نحو يسمح بالمقايضة بينهما وصولا للمناصفة.
وعليه، نلحظ أن المناصفة التامة تحققت في مراكز المحامين العامين العسكريين (3/3) والماليين (3/3)، إلى جانب المناصفة في النيابة العامة التمييزية (5/5). وفيما نلحظ تفاوتا في عدد المحامين العامين في بيروت وجبل لبنان (أي منطقتي النفوذ المشترك) بمعدل 8 للمسلمين و9 للمسيحيين، فإن هذا القارق يتم تعويضه من خلال زيادة معاكسة في عدد قضاة التحقيق في هاتين المحافظتين لصالح المسلمين (10/9)، بحيث يعود مجموع قضاة التحقيق والمحامين العامين العاملين في هذه المنطقة ليتوافق مع مبدأ المناصفة (18/18). بالمقابل، فإن التوزيع الطائفي لمراكز قضاء التحقيق والنيابات العامة في بقية المحافظات يصبح خاضعا لقواعد أكثر مرونة، فلا نصل إلى المناصفة إلا بعد توسيع إطارها ليشمل عددا من المراكز القضائية الهامة.
وهذا الأمر إنما يجد تفسيره في ارتباط حساسية المراكز بمدى اهتمام القوى السياسية الطائفية بالتمتع بنفوذ في المناطق التي تشملها صلاحياتها: ففيما تهتم جميع القوى بالتمتع بنفوذ معين في بيروت وجبل لبنان حيث تتمركز الحياة الاقتصادية مما يجعل جميع المراكز في هاتين المحافظتين ذات طابع حساس، فإن لهذه القوى مصالح متفاوتة في بقية المناطق مما يجعل حساسية المراكز الواقعة فيها نسبية.
وعلى صعيد المعادلات بين المذاهب داخل كل طائفة، يسجل أنه أضيف مركزان للشيعة في النيابة العامة الاستئنافية في تشكيلات 2017 في جبل لبنان والنبطية، مما أسهم في تحقيق المساواة التامة بين الشيعة والسنة في أعضاء النيابة العامة على اختلاف أنواعهم بحيث بلغت 14/14. الأمر نفسه مع قضاة التحقيق في جميع المحافظات حيث تعادل الشيعة مع السنة (8/8)، ولم يخرج عن قاعدة التساوي بين هذين المذهبين إلا مركز قاضي التحقيق في الشمال حيث بقي عدد السنة غالبا (3/1). وقد سجّل الصحافي رضوان مرتضى أن أعضاء مجلس القضاء الأعلى ربطوا تحقيق التوازن والمناصفة في الشمال بإنشاء ملاك قضائي في محافظة بعلبك الهرمل.
على الصعيد المسيحي، المعادلة معبرة أيضا. ففيما يظهر أولا تفاوت بين الكاثوليك والأرثوذوكس في مراكز النيابة العامة بحدود مقعد لصالح الكاثوليك، فإن التساوي التام يحصل بين الطائفتين عند جمع مراكز النيابات العامة وقضاء التحقيق (حيث ورد مقعد زائد لصالح الأرثوذكس). وعليه، تظهر هذه المعادلة مرونة معينة لجهة تطبيق قاعدة المناصفة على أكثر من مركز قضائي.
جدول 2: التوزيع الطائفي لقضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق
(المسلمون بالترتيب: سني/ شيعي/ درزي والمسيحيون بالترتيب ماروني/ كاثوليكي/أرثوذكسي/أقليات)
|
مسلمون/ مسيحيون
|
المسلمين
|
المسيحيين
|
المجموع
|
مجموع أعضاء النيابات العامة
|
32/33
|
14/14/4
|
22/6/5
|
65
|
مجموع قضاة التحقيق
|
29/21
|
13/12/4
|
12/4/5
|
50
|
المجموع
|
61/54
|
27/26/8
|
34/10/10
|
115
|
- على صعيد رؤساء غرف الاستئناف ورؤساء مجالس العمل التحكيمية:
في هذا المجال، نلقى أيضا مسعى إلى تحقيق المناصفة وتخصيص المراكز. وهذا ما نتبينه من تطور التوزيع الطائفي بين المسلمين والمسيحيين من جهة وفيما بين المسلمين. واللافت أنه تم استحداث ثماني غرف في تشكيلات 2017 لهذه الغاية بالذات، مما أدى إلى تحقيق التساوي التام بين الشعية والسنة في المراكز المتواجدة في محاكم بيروت وجبل لبنان، فضلا عن المناصفة التامة بين القضاة المسلمين والقضاة المسيحيين المعينين بصورة أصلية في هذه المراكز بمعدل 33/33.
جدول 3: تطور التوزيع الطائفي لمراكز رؤساء الغرف الاستئنافية ومجالس العمل التحكيمية المعينين بصورة أصلية
(المسلمون بالترتيب: سني/ شيعي/ درزي والمسيحيون بالترتيب ماروني/ كاثوليكي/أرثوذكسي/أقليات)
السنة
|
2017
|
المنطقة
|
المركز
|
مسلم/
مسيحي
|
مسلمون
|
مسيحيون
|
بيروت وجبل لبنان
|
18/23
|
8/8/2
|
13/3/7
|
بقية المحافظات
|
15/10
|
8/6/1
|
7/2/1
|
المجموع
|
33/33
|
16/14/3
|
20/5/8
|
- على صعيد المحاكم الابتدائية:
أما على صعيد المحاكم الابتدائية، وفيما كانت المناصفة محققة منذ 2010 (11/11)، مع وجود تفاوت في توزيع مقاعد المسلمين (6 للسنة/4 للشيعة/1 للدروز). وقد نجح هذا الفريق بموجب تشكيلات 2017 إلى تقليص هذا الفارق إلى مقعد واحد، بعدما تم استحداث غرفتين ابتدائيتين: الأولى في الشمال يرأسها ماروني والثانية في الجنوب يرأسها شيعي. ويبدو في هذا المجال أن ثمة اتفاقا على إرجاء المساواة التامة بين الشيعة والسنة إلى حين توفر عدد إضافي من القضاة أو إلى حين إنشاء محاكم استئنافية في المحافظات.
جدول 4: التوزيع الطائفي لرئاسات الغرف الابتدائية حسب موقعها الجغرافي
التوزيع الطائفي
|
مسلم/
مسيحي
|
سني/شيعي/ درزي
|
المنطقة
|
بيروت +
جبل لبنان
|
8/8
|
4/3/1
|
بقية المحافظات
|
4/4
|
2/2
|
المجموع
|
12/12
|
6/5/1
|
- على صعيد القضاة المنفردين:
أول ما نلحظه هنا هو اعتماد المناصفة الكاملة في تشكيلات 2017 على صعيد لبنان بما يتصل بالقضاة المنفردين المعينين بصورة أصلية، بما يعادل 56 للمسلمين و56 للمسحيين، رغم وجود تفاوت في عدد القضاة المنفردين المعينين في بيروت وجبل لبنان (32 مسلما/41 مسيحيا). ويجد هذا التفاوت ما يفسره عند النظر في توزيع الاختصاصات بين القضاة المنفردين في هاتين المحافظتين، بحيث نجده يخف بل يضمحل بالنسبة إلى العاملين في المجال الجزائي (وهو المجال الأكثر حساسية) ليكاد ينحصر في المجال المدني. وهذا ما نسهب في تبيانه أدناه.
جدول 5: التوزيع الطائفي للقضاة المنفردين المعينين بصورة أصلية
(المسلمون بالترتيب: سني/ شيعي/ درزي والمسيحيون بالترتيب ماروني/ كاثوليكي/أرثوذكسي/أقليات)
المنطقة
|
العدد/ الطائفة
|
مسلم/
مسيحي
|
مسلمون
|
مسيحيون
|
بيروت وجبل لبنان
|
32/41
|
15/12/5
|
35/3/2/1
|
بقية المحافظات
|
24/15
|
13/9/2
|
8/2/3/2
|
المجموع
|
56/56
|
28/21/7
|
43/5/5/3
|
المناصفة الطائفية = السياسيون يعينون قضاة من طوائفهم في أماكن نفوذهم
في هذا الصدد، سندقق في كيفية التوزيع الطائفي للقضاة من الناحية الجغرافية، وتحديدا في مدى دقة الفرضية القائلة بأن تطييف المراكز القضائية يهدف ليس فقط إلى تحقيق المناصفة التامة، بل أيضا إلى تعزيز النفوذ السياسي للقوى السياسية في مناطق تواجدها، بحيث تفضل القوى السياسية الشيعية أو المارونية أن يكون القسم الأكبر من المراكز العائدة لقضاة شيعة أو موارنة في مناطق نفوذها. ولمعالجة هذا السؤال، قد يكون من المفيد البحث فيما إذا كان توزيع هذه المراكز يخضع لنفس معادلات توزيع المقاعد النيابية بين الطوائف أو اتجاهاتها.
التوزيع الطائفي لقضاة النيابة العامة والتحقيق من الناحية الجغرافية
وهذا ما يتحصل بوضوح عند النظر في كيفية توزيع مجموع مراكز النيابة العامة وقضاء التحقيق. فالطائفة المارونية تحوز على الأكثرية النسبية من هذه المراكز في جبل لبنان (9/23) حيث لها أكبر عدد من المقاعد النيابية (19/35). كما أن الطائفة السنية تحوز على الأكثرية النسبية من هذه المراكز في بيروت (5/17) حيث لها الأكثرية النسبية من المقاعد النيابية (6/19). وفي الاتجاه نفسه، للطائفة الشيعية الأكثرية النسبية من المراكز في محافظات البقاع (5/14) والجنوب (3/8) والنبطية (3/6) حيث لها في كل منها الأكثرية النسبية من المقاعد النيابية (8/23) و(6/12) و(8/11). وفي محافظة الشمال، تتعادل المراكز العائدة للسنة والموارنة (5 لكل منهما من مجموع 15)، حيث يتوفر لهما العدد الأكبر من المقاعد النيابية (20/28) على أساس 11 للسنة و9 للموارنة.
وبالمقابل، في غالبية الحالات، لا يكون للطوائف أي مركز في النيابة العامة وقضاء التحقيق في المناطق التي ليس لها فيها أي مقعد انتخابي. فمثلا، ليس للموارنة أي مركز مماثل في النبطية. وليس للدروز أي مركز مماثل في الشمال أو الجنوب. وليس للأرثوذكس أي مركز مماثل في الجنوب.
التوزيع الطائفي لقضاة الحكم من الناحية الجغرافية
ولكن، ماذا بشأن قضاة الحكم؟ هل هم يخضعون للتوجه نفسه، أي لتعيينهم في مناطق نفوذ الطوائف التي ينتمون إليها؟ بمراجعة الأرقام المبينة في الجدولين أدناه، نلحظ أن التوزيع الطائفي في المحافظات لمسؤوليات قضاء الحكم يختلف وفق عاملين اثنين:
- الهوية الطائفية للقوى السياسية الأكثر نفوذا في المحافظة المذكورة،
- ماهية هذه المسؤوليات وتحديدا فيما إذا كانت في المجال المدني أو الجزائي.
بمعنى أن القاعدة التي أثبتنا اعتمادها في مجالي قضاء النيابة العامة وقضاء التحقيق تنطبق بدرجة كبيرة بالنسبة لمسؤوليات الحكم في المجال الجزائي، فيما تتراجع بالنسبة للمسؤوليات في المجال المدني.
وهذا ما نتبينه مثلا في مناطق النفوذ المشترك كمحافظتي بيروت وجبل لبنان. ففي هاتين المحافظتين، فيما تعتمد المناصفة الكاملة بما يتصل بتوزيع المسؤوليات في المجال الجزائي بين المسيحيين والمسلمين (30/30)، تتوزع المسؤوليات بشكل أكثر مرونة في المجال المدني (38 للمسلمين/49 للمسيحيين). الأمر نفسه بخصوص توزيع المسؤوليات بين القضاة وفق مذاهبهم: ففيما يقارب عدد القضاة السنة الذين يتولون مسؤوليات مدنية ضعف عدد القضاة الشيعة الذين يتولون مسؤوليات مماثلة (23/13)، فإن عدد القضاة من هذين المذهبين الذين يتولون مسؤوليات جزائية يكاد يكون متساويا بل مع أفضلية ضئيلة للشيعة (11 للسنة/12 للشيعة). الأمر نفسه نلحظه بشأن القضاة الدروز حيث يتولون 17,5% من مجموع المسؤوليات الجزائية العائدة لقضاة من مذاهب إسلامية، فيما أن نسبتهم لا تتجاوز 5,5% فيما يتصل بالمسؤوليات المدنية في هاتين المحافظتين. وهذا الأمر إنما ينسجم مع تمركز النفوذ السياسي للقوى الدرزية في هاتين المحافظتين. وبالنسبة إلى التوزيع المذهبي للقضاة المسيحيين، نلحظ أن نسبة القضاة الموارنة الذين يتولون مسؤوليات جزائية تبلغ 80% من مجموع القضاة المسيحيين الذين يتولون مسؤوليات مماثلة، فيما أن هذه النسبة تهبط إلى 67,5% بالنسبة إلى المسؤوليات المدنية. وهذا الأمر إنما ينسجم مع كون القوى السياسية المارونية الأكثر انخراطا من بين القوى السياسية المسيحية في صراع النفوذ السياسي.
الأمر نفسه نتبينه عند النظر في المحافظات التي يكون فيها النفوذ محصورا بمذاهب معينة دون أخرى. ففي الشمال حيث تتقاسم قيادات ثلاثة مذاهب (السنة والموارنة والأرثوذكس) النفوذ السياسي، يتولى قضاة من هذه المذاهب الثلاثة مسؤوليات في المجال الجزائي تصل إلى 85,5% (18/21). واللافت أنه في هذه المحافظة، نلحظ أن مسؤوليات الحكم في المجال المدني حتى تكاد تنحصر في قضاة ينتمون إلى هذه المذاهب الثلاثة (15/16).
أما في محافظتي النبطية والجنوب، حيث يتضاءل نفوذ القوى السياسية المسيحية، فإن نسبة المسؤوليات التي يتولاها قضاة الحكم المسيحيون تصل إلى 11% في المجال الجزائي فيما هي 40% في المجال المدني. وهذا الأمر إنما يؤكد الفرضية أعلاه لجهة وجود رابط قوي بين مذهب القضاة الذين يتولون مراكز جزائية ومذهب القوى السياسية النافذة في المجال الجزائي، فيما أن هذا الرابط يتراجع في المجال المدني من دون أن يختفي تماما.
أما في محافظتي البقاع وبعلبك/الهرمل، فإن الأمور تبقى أكثر وضوحا. ففيما أن النفوذ السياسي مشترك في مركزها (زحلة)، فإن نفوذ القوى المسيحية تتراجع في المقابل في المناطق الأخرى من هذه المحافظة.