طرحت الحراكات الشعبية، أقلّه منذ العام 2011 وقبله بكثير أيضاً، العديد من الأسئلة حول إمكانيّة وسبل وحدود التغيير السياسي في لبنان. وقد تطوّرت محاولات التغيير وأساليبها تدريجياً بدءاً من الاعتقاد بضرورة تحقيقه من داخل النظام (الترشّح إلى الانتخابات، تولّي مناصب وزارية…)، مروراً بالمطالبة بتغيير النظام الطائفي، وصولاً إلى الدعوة إلى تعليق مشانق أفراد الطبقة السياسية غداة تفجير بيروت في 4 آب 2020. كلّ هذه الأساليب تصبّ، بشكل أو بآخر، في خانة المحاسبة السياسية لنظام ما بعد الطائف الذي شُيِّد أصلاً بعدما تمّ القضاء على مفهوم المحاسبة من خلال قانون العفو العامّ رقم 84/91 (1991) الذي عفى عن الجرائم المرتكبة خلال الحرب الأهلية لصالح زعماء وأمراء الحرب. نتيجة لثقافة “الحصانة” و”الإفلات من العقاب” التي أنتجها هذا القانون، وسيطرة الطبقة السياسية على الدولة ومواردها، والضعف التنظيمي لقوى الاعتراض، تحوّلت المحاسبة السياسية مع الوقت إلى مطلب فضفاض مُفرَغ من معناه بدليل أنّ الطبقة السياسية نفسها راحت مراراً تطالب بالمحاسبة أيضاً. وعقب انفجار بيروت في 4 آب 2020، وفي ظلّ انعدام الثقة في مؤسّسات الدولة، كيف استغلّت الطبقة الحاكمة مفهوم “المحاسبة” وطوّعته من أجل تدعيم حصانتها؟ وما هي شروط توفّر محاسبة حقيقية من شأنها أن ترفع الحصانة عن نظام ما بعد الطائف؟ تحاجج هذه المقالة بأنّ المحاسبة السياسية – كخطاب – هي مدماك نظام ما بعد الحرب يقابلها كنتيجة لذلك، على الرغم من كلّ المحاولات، استعصاء تحقيق محاسبة حقيقية في ظلّ غياب مشروع سياسي معارض يحمل الأمل للناس ويُخرجها من اعتقادها باستحالة التغيير، ويعيد إليها الثقة بقدرتها على أخذ المبادرة. تنقسم المقالة إلى ثلاثة أجزاء. يقدّم الجزء الأوّل قراءة نقدية في مقاربة النظام للمحاسبة السياسية بعد انفجار بيروت. يتناول الجزء الثاني بعض أساليب التغيير والمحاسبة التي طُرحت بعد الانفجار ويناقشها على ضوء تحكّم النظام بالحياة السياسية. أمّا الجزء الثالث والأخير، فيعرض تصوّراً لتوفّر شروط محاسبة سياسية منتِجة تحمل الأمل بالتغيير (أي الأمل بصفته مشروعاً سياسياً).
أوّلاً: المحاسبة الرسمية بصفتها تهرّباً من المسؤولية وتجهيلاً للفاعل ولَوْماً للآخرين
من غير الصائب القول إنّ الطبقة الحاكمة، طبقة نظام الطائف، تتهرّب من مفهوم المحاسبة. عملياً، إنّها تطوّع المحاسبة لمصلحتها وهي تمرّست على ذلك منذ عقود ممّا أمّن لها مرّة أخرى حصانة سياسية بعد انفجار بيروت. فعلياً، المحاسبة التي تمتهنها وتطالب بها الطبقة الحاكمة تقوم على ثلاثة عناصر مكمِّلة وهي: التهرّب من المسؤولية، تجهيل الفاعلين ولَوْم الآخرين. وهذا ما تجلّى بشكل واضح في تصريحات أركان هذه الطبقة بُعَيْد تفجير بيروت.
من جهة أولى، أكّد رئيس الجمهورية ميشال عون، في تعليق له حول الانفجار، أنّه لم يكن على علم بالموادّ المتفجّرة التي دخلت إلى لبنان في العام 2013 “ولا بمدى خطورتها”، كما أكّد أنّ صلاحيّاته لا تسمح له “بالتعاطي المباشِر بالمرفأ… هناك تراتبيّة يجب احترامها وعليها تحمّل المسؤوليّة”. فالرئيس عون الذي يمكن تصنيف عهده وممارسته للحكم بأنّه عهد محاولة “استعادة صلاحيّات رئيس الجمهورية” (طبعاً من باب الموقع الطائفي وليس الدستوري)، يُعيد من خلال التصاريح مفهوم الصلاحيّات السياسية إلى موضوع بيروقراطي هرمي بحت ويتناسى أنّ الصلاحيّات كما المحاسبة ليست فقط تقنية، بيروقراطية أو قانونية-قضائية إنّما هي خصوصاً محاسبة سياسية. أي تحمّل المسؤولية السياسية. إذاً، نتهرّب من المسؤولية، ونلقي اللوم على الآخرين (في هذه الحال الهرمية البيروقراطية).
من جهة ثانية، لم يتردّد رئيس الوزراء اللبناني حسّان دياب في تقديم استقالة حكومته، ليس من باب تحمّل المسؤولية السياسية (أو حتّى القضائية)، لكن من باب عجزه عن القيام بالمحاسبة خلال ولايته، بحسب تصريحاته. ففي بيان أوّل بعد الانفجار يقول إنّه لن يسمح “أن تمرّ هذه الكارثة من دون محاسبة المسؤولين عنها”. وهو يؤكّد ” و”بحزم” أن “لا خيمة فوق رأس أحد. ولا مظلّة تحمي أحداً”. أمّا في بيان استقالته بعد أيّام، يحاول دياب أن يستقلّ وينأى بنفسه عن الطبقة السياسية (التي عيّنته رئيساً للحكومة)، يتوجّه بشكل مباشر – لكن من دون تسمية أحد – إلى أركان الطبقة الحاكمة: “هؤلاء لم يقرأوا جيّداً ثورة اللبنانيين في 17 تشرين الأوّل 2019. تلك الثورة كانت ضدّهم، لكنّهم لم يفهموها جيّداً… بيننا وبين التغيير جدار سميك جدّاً، وشائك جدّاً، تحميه طبقة تقاوم بكلّ الأساليب الوسخة، من أجل الاحتفاظ بمكاسبها ومواقعها وقدرتها على التحكّم بالدولة”. دياب على الرغم من أنّه يشدّد على المحاسبة، بشقّيها القضائي والسياسي، وينتقد “الطبقة الحاكمة”، لكنّه يجهل في الوقت نفسه الفاعل. لا نعلم مَن عرقل حكومته أو مَن ساهم في نشر الفساد الذي نتج عنه انهيار تامّ وغير مسبوق للاقتصاد والعملة الوطنية. ولا نعلم من المسؤول عن الانفجار خصوصاً أنّ إدارة المرفأ تعاني من الفساد الإداري المستشري منذ عقود، ما مهّد الطريق إلى الانفجار. وعلى الرغم من هذه التصريحات ومطالبته المتكرّرة بإعلاء شأن دولة القانون لم يمتثل دياب لاحقاً أمام المحقّق العدلي في جريمة المرفأ. إذاً، المحاسبة هنا فضفاضة: نجهل الفاعل، نتهرّب من المسؤولية، ونلقي اللوم، مرّة أخرى، على الآخرين.
أخيراً، لم يتردّد وزير الداخلية محمّد فهمي في المطالبة صراحة بمحاسبة المسؤولين عن تفجير بيروت. قالها بشكل مباشر: “المسؤول عن هذه النكبة سيتحاسب”، وبحسب تصريحه حينها، أكّد بصيغة اليقين أنّ التحقيق سينتهي بعد خمسة أيّام “ماكسيموم”، بشكل يعكس استخفاف النظام بالمسار القضائي. يبدو أنّ محمّد فهمي، كغيره من السياسيين، وجد في مفهوم المحاسبة باباً للخروج من المأزق الذي وُجدت فيه حكومته ومعها الطبقة السياسية الحاكمة مجتمعة. هذا جزء من نص الحوار:
- “الصحافي: هل من ضمن “المتّهمين” وزراء سابقين ورؤساء حكومات؟
- الوزير محمّد فهمي: “لأ، لأ. أكيد لأ… على كلّ، في مسؤولين. في تحقيق… من هلّق لخمسة أيّام بيطلع مين المسؤول… في تحقيق شفّاف. أؤكّد على هذا الشيء… المسؤول سيتحاسب. مين ما كان”.
في هذا التصريح أصدق تعبير عن مفهوم ومقاربة النظام لمفهوم المحاسبة: في ردّ فعل عفوي أوّلي يعكس روحيّة المحاسبة السائدة وحدودها، يؤكّد فهمي أنّ المحاسبة لا يمكن أن تطال “وزراء سابقين ورؤساء حكومات”. وهذه المقاربة ليست وليدة الصدفة إنّما نتاج لحظة ما بعد الحرب وبعدها من لحظات رسّخت نهجاً مبنياً على أنّ السياسيين يتمتّعون بحصانة عالية لا يُتخيَّل لنا يوماً أنّهم سيخضعون للمحاكمة. فنبرّئ ذمّتهم قبل أيّ تحقيق.
في ظلّ مقاربة النظام السائد للمحاسبة، ظهرت تجلّيات أخرى بعد الانفجار – مجتمعية هذه المرّة – تطالب أيضاً بالمحاسبة من أجل تقديم بديل عن الطبقة السياسية الحاكمة.
ثانياً: المحاسبة المجتمعية وتجلّياتها بعد الانفجار: استعصاء الحالة اللبنانية؟
شكّلت لحظة 17 تشرين 2019، ذروة المطالبة بالمحاسبة السياسة وقد تمثّلت بشعارات ومطالب، منها شعار “كلّن، يعني كلّن” أو “المطالبة باستقلاليّة القضاء”، أو شعار “نحن الثورة الشعبية، وإنتو الحرب الأهلية” (أي أنّ الثورة هي نقيض نظام الحرب الأهلية الذي حكم البلد من التسعينيّات وحتّى يومنا هذا). إلّا أنّ هذه الشعارات لم ترتبط حينها بمشروع سياسي يؤمّن لها حياة خارج لحظة ومساحة 17 تشرين. كلّ هذه الشعارات تعكس عملياً الطلاق بين الطبقة الحاكمة والمجتمع اللبناني (أو قسماً منه)، وهي تتراوح بين المطلب المؤسّساتي (خصوصاً إصلاح القضاء) والعدالة الخاصةّ (رمزيّة المشانق). فبعد انفجار 4 آب، ارتفع منسوب الغضب ومعه انعدام الثقة بمؤسّسات الدولة أو حتّى بفكرة لبنان بشكل عامّ (تمثّلت بموجات الهجرة الكبيرة إلى الخارج…). لكن، وفي نفس الوقت، طرحت العديد من الأفكار حول سبل المحاسبة. وفي ما يأتي بعض أساليب المحاسبة التي بقيت من دون مشروع سياسي، أو أقلّه من دون رافعة سياسية تترجمها على أرض الواقع.
- المحاسبة السياسية من باب القنوات الرسمية: شرعنة النظام؟
بطبيعة الحال، تبقى المحاسبة السياسية من خلال القنوات الرسمية (أي الانتخابات والعمل مع البرلمان من أجل تمرير قوانين إصلاحية، كقانون استقلاليّة القضاء…) من الأمور المطروحة من أجل تحقيق الإصلاح المنشود بشكل سلمي. ومن أبرز هذه النقاط، المطالَبة بقانون انتخاب عادل وشفّاف يؤمّن صحّة التمثيل ويسمح لقوى الاعتراض بنيل مقاعد نيابية تخوّلها أن تشكّل بديلاً برلمانياً عن السلطة القائمة. في الواقع، حاولت العديد من مجموعات أو أفراد الاعتراض أن تخوض الانتخابات منذ العام 1992. لكن في ظلّ اضمحلال الديمقراطية في لبنان، يبقى التغيير ولو حصل خجولاً. فالنظام متمسّك بمفاصل الدولة وآليّات اشتغالها، وهو ما زال قادراً على تطويع قانون الانتخابات لمصالحه من أجل تأمين استمراريّته في الحكم. ناهيك بأنّ الانتخابات ونتائجها لا ترتبط حصراً بالقانون، إنّما بطريقة خوض الانتخابات (الماكينات الانتخابية، تحفيز أو ترهيب الناخبين على الاقتراع…) وكلّها آليّات يمتهنها النظام من خلال عنف رمزي يمارسه على المقترعين… إذاً، قد تشكّل الانتخابات فرصة لفوز بعض قوى الاعتراض تحت شعار تحقيق المحاسبة السياسية، إلّا أنّها من الممكن أن تعطي فرصة كبيرة لإضفاء شرعية قانونية على الطبقة الحاكمة بعدما خسرت شرعيّتها الشعبية في 17 تشرين وبعدها في 4 آب.
- لا حلّ إلّا بالعنف الثوري: “يا نحنا. يا هنّي”!
في ظلّ الطلاق التامّ بين من يريد تغيير النظام ومن يحكم ويتحكّم بالدولة، وفي ظلّ عدم تمكّن التظاهرات أو الحراك المجتمعي من إحداث تغيير مباشِر في النظام (بغضّ النظر عن المكاسب الكبيرة للحراك)، ظهر خطاب يطالب بالعنف الثوري وسيلةً وحيدةً لتحقيق أهداف الثورة (أيّاً تكن هذه الأهداف). ففي وجه البطش الأمني المتزايد أحياناً بوجه المتظاهرين، والسرقة التي تعرّض لها المودعون من قبل المصارف، والدمار الذي ولّده انفجار بيروت للمنازل والمحلّات التجارية، راحت تتعالى الأصوات بضرورة العنف الثوري حيث لم يعد ممكناً التعايش مع الطبقة السياسية ومناصريها. تجلّت أنواع متعدّدة من هذا العنف، أكان في مواجهة المصارف (ليلة المصارف)، أو المواجهات في ساحة النجمة، وصولاً إلى تعليق المشانق، ولو رمزياً، في بيروت بعد الانفجار. إنّ العنف الثوري هو نفسه فعلٌ تحرّريٌ من سلطة قمعية تتجلّى معالمها يوماً بعد يوم إلّا أنّ هذا العنف في الواقع اللبناني يمكن له أن يؤدّي إلى عنف مجتمعي (حرب أهلية ربّما) خصوصاً أنّ النظام ما زال متحكّماً إلى حدّ كبير في مفاصل العنف المجتمعي وله مناصروه من شبّيحة، وقبضايات ومدافعين عن كرامة الزعيم، وهم مستعدّون للمضيّ بعيداً في الدفاع عن مقام الزعامات من خلال العنف. ولقد عرف لبنان تجارب عدّة (1958، 1975…) أدّت إلى حروب دموية لم يستفد منها في نهاية المطاف إلّا الزعماء على حساب الأيديولوجيات والقناعات السياسية ومصالح المواطن العادي. إذاً، العنف الثوري، ولو كان تحريرياً، يُرجَّح أن ينتهي إلى انقسامات تترسّخ تدريجياً من خلال الاقتتال المجتمعي (الطائفي…) وهذا ما سيؤدّي أيضاً إلى شرعنة النظام الذي يستمدّ أصلاً قوّته وصموده من العنف الرمزي أو الجسدي.
- الدعم الخارجي: الخلاص الزائف
في شقّ آخر، ومع استعصاء المحاسبة الداخلية، يرى البعض أنّ الحلّ الوحيد للتخلّص من الطبقة الحاكمة هو في الدعم الخارجي (كمطالبة البطريرك الراعي عقد مؤتمر دولي بشأن لبنان تحت رعاية الأمم المتّحدة، أو العقوبات الخارجية على بعض السياسيين…). أحد أبرز تجلّيات التعويل على الدعم الخارجي جاء عقب مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي أطلقها بمناسبة زيارته إلى بيروت غداة انفجار 4 آب. لكن، سرعان ما تبدّدت الآمال من هذه المبادرة ليس بسبب تعنّت القادة اللبنانيين في تعاملهم معها فقط (كما تسوّق لها أوساط الرئاسة الفرنسية) إنّما خصوصاً لأنّ مقوّمات نجاحها لم تكن متوفّرة من الجانب الفرنسي. طبعاً، أدّت هذه المبادرة إلى نتائج عكسية على الداخل اللبناني، حيث امتصّت غضب الشارع اللبناني ضدّ الطبقة الحاكمة في لحظة كان لهذا الغضب شأن كبير في إمكانيّة إحداث تغيير ما في شروط اللعبة لصالح المجتمع. فالمبادرات الخارجية تشلّح اللبنانيين القدرة على المبادرة وتكون بغالبها منسجمة مع مصالح الطبقة الحاكمة. فالتحقيق الفرنسي أو السويسري في حقّ رياض سلامة، مثلاً، يبدو للبعض بمثابة الأمل الوحيد لمحاسبته، لكنّه في آن يسلب المجتمع قدرته على محاسبة سياسييه، أو حتّى إمكانيّة محاسبة الغرب على أخطائه في الداخل اللبناني وتقديمه الدعم المباشِر أو غير المباشر للطبقة الحاكمة أقلّه منذ الطائف (التمويل السياسي المباشر، مؤتمر باريس 1، 2، 3 إلخ وصولاً إلى ظلال سيدر عشيّة انتخابات 2018). عملياً، لا تخدم آليّات اشتغال المحاسبة الدولية في نهاية المطاف إلّا مصالح الدول المبادرة إليها، ومعها في غالب الحالات بشكل مباشر أو غير مباشر مصالح الطبقة الحاكمة.
إذاً، وعلى أهمّيّتها، تبقى الأساليب المذكورة تحت سيطرة الطبقة الحاكمة التي لا تتوانى عن ترسيخها خدمةً لمصالحها الضيّقة فقط. وهذه الأساليب لن تفلح في غياب مشروع سياسي لا يهدف بالدرجة الأولى إلى تولّي الحكم بقدر ما يهدف إلى إعادة الثقة بالمجتمع وقدرته على التغيير.
ثالثاً: الأمل: مشروع سياسي أصيل
وصل المجتمع اللبناني إلى مكان لا يُمكن له فيه التعويل التامّ على المحاسبة القضائية ولا على السلطة السياسية للمبادرة لأخذ خطوات جريئة تحاسب المسؤولين عن الانهيار المؤسّساتي والمالي والأمني في لبنان. هذا الشعور باليأس والعجز عن التغيير أنتجه النظام من أجل تركيع المجتمع وتأمين ولائه التامّ له. لكن، وعلى الرغم من الانهيار الكبير الذي يشهده لبنان واليأس المتزايد، ما زلنا نشهد على مقاومات يومية، عفوية أو منظّمة (انتخابات الطلاب في الجامعات الخاصة، أو انتخابات نقابة المهندسين)، تحاول أن تضع كرامة المواطن حجر أساس بعدما وصل عنف النظام إلى انتهاكها بشكل غير مسبوق. لكن، وعلى أهمّيّتها لم تستطع هذه المقاومات والجهود المتنوّعة من معالجة معضلة أساسية راحت تتراكم تدريجياً لتصبح مع الوقت العائق الأوّل والأهمّ أمام أيّ مبادرة سياسية، ألا وهي غياب الثقة في الفعل السياسي الهادف إلى التغيير. على الرغم من بروز مجموعات وأحزاب جديدة لم تستطع حتّى الآن تأمين رافعة سياسية لها خارج بيئتها المباشرة.
الواقع الجديد الذي نواجهه في لبنان يحتّم علينا قراءة جديدة للمشهد العامّ، ومقاربة جريئة للعمل السياسي. فعلياً، المبادرة لتسلّم السلطة على أنقاض سلطة أخرى، هو هدف سامٍ من أبرز ما نحتاجه حالياً. لكنّنا لا نزال نفتقد إلى رافعة اجتماعية ومجتمعية تنتج الفعل السياسي وتؤمّن نجاحه في تسلّم السلطة، لا بل تحميه لحظة استلامها. الهدف إذاً، هو تشكّل كتلة شعبية تُظهر، من جديد، حيويّة المجتمع أوّلاً لتكوين السلطة لاحقاً، وليس العكس. حيويّة المجتمع تبدأ باستعادة الثقة في العمل السياسي الهادف.
كيف، إذاً، نستعيد الثقة والأمل؟ نستعيد الثقة والأمل من فقدان الثقة والأمل.
إنّ أزمة المجتمع اليوم من أزمة النظام. في الواقع، استثنائيّة اللحظة التي نمرّ فيها حالياً، وبالتالي الفرصة التي تقدّمها لنا أيضاً، تكمن في أزمة النظام وعجزه عن صناعة وتسويق الأمل؛ أمل زائف لطالما أمّن من خلاله هيمنته على المجتمع أو موارد الدولة، أكان خلال الحرب الأهلية وأوهام الانتصار، أو مرحلة ما سُمّي ببناء الدولة وإعادة الإعمار، أو مرحلة إعادة التوازنات واستعادة حقوق الطوائف، وأخيراً أمل قيام مجتمع مقاوم ضدّ العدو الاسرائيلي…
مدماك المحاسبة هو مشروع صناعة الأمل بصفته مشروعاً سياسياً يحمي المواطن وليس النظام، أو السلطة. من دون هذا الأمل، لا جدوى من المشاريع السياسية وحدها، ومن دون هذه المشاريع المنتِجة للأمل، لا معارضة، ولا سلطة جديدة. أملنا بالدرجة الأولى إذاً، هو استعادة حيويّة المجتمع، وليس أملاً في استلام السلطة والوصول إليها من دون المجتمع. مهمّتنا، إذاً، أن نولّد أملاً غير مزوّر، على أنقاض آمال النظام الزائفة.