في سنة 1990، دعا مركز حقوق الإنسان الدولي إلى عقد دورة للبحث في موضوع المجالس الوطنية لحقوق الإنسان. ومن أهم مخرجات هذه الدورة التي انعقدت في أكتوبر 1991، اعتماد اللائحة رقم 1992/54 التي تضمنت جملة من المبادئ المتعلقة بمركز هذه المؤسسات، أصبحت تُعرف بمبادئ باريس. وقد أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب اللائحة رقم 48/134 نهاية عام 1993. وقد جاءت هذه المبادئ لتجعل من المؤسسات الوطنية أداة فعالة لحماية حقوق الإنسان داخل الدولة، تقوم على الشفافية ومؤكدة على ضرورة تمتعها بصلاحيات واسعة قدر الإمكان. وتماشيا مع هذه المعايير الدولية، نص التعديل الدستوري الأخير في الجزائر الصادر سنة 2016 على إنشاء هيئة وطنية تتميّز باستقلاليتها، حيث نصت المادة 198 منه: "يُؤسس مجلس وطني لحقوق الإنسان، يُدعى في صلب النص "المجلس" ويُوضع لدى رئيس الجمهورية، ضامن الدستور". جاء هذا التعديل ليتوج مسارا طويلا للرقي بالمؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان في الجزائر، عن طريق تكريس الشفافية في تشكيلها وتمكين الأفراد من الوصول إليها والإنفتاح على محيطها الوطني والدولي.
المجلس الوطني لحقوق الإنسان: المسيرة الطويلة
لم يتم تجسيد نظام المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان في الجزائر إلاّ بعد اعتماد دستور التعددية الحزبية سنة 1989، حيث تم إنشاء هيئة تعرف بالمرصد الوطني لحقوق الإنسان بموجب مرسوم رئاسي رقم 92 –77 مؤرخ في 22– 2– 1992. ولقد أنشئت هذه الهيئة في ظروف أمنية صعبة، بعد أقل من أسبوعين من إعلان حالة الطوارئ من قبل رئيس الجمهورية بموجب المرسوم الرئاسي رقم 92 –42 1992 المؤرخ في 9–2–1992. وبدأت ممارسة مهامها في ظل هذه الظروف الإستثنائية التي تميّزت بتطبيق قيود على حريات الأفراد بغرض المحافظة على النظام العام. لقد خول المرسوم الرئاسي المرصد صلاحية الرقابة والتقويم في مجال حقوق الإنسان، عبر آليات جد محدودة تنحصر في التوعية والقيام بأعمال عند وجود انتهاكات لحقوق الإنسان دون أن يحدد طبيعتها. ورغم الملاحظات التي تم توجيهها من المنظمات الدولية العاملة في مجال حقوق الإنسان لنظام المرصد الذي لا يتماشى مع مبادئ باريس، إلاّ أن المرحلة اللاحقة عليه لم تذهب أبعد منه، حيث تم استبدال المرصد بهيئة جديدة هي اللجنة الوطنية الإستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان، بموجب مرسوم رئاسي رقم 01–71 بتاريخ 25–3–2001.
وقد أثارت آلية إنشاء اللجنة بموجب نص تنظيمي إشكالية بالنسبة للمرجعية الدولية المتمثلة في مبادئ باريس التي نصّت على ضرورة إنشاء المؤسسات الوطنية بموجب نص دستوري أو تشريعي. ويتأكد الإشكال بالنظر للمكانة التي يحتلها النص التنظيمي في هرم القوانين الجزائرية، حيث يقتضي تدرج القوانين في الجزائر أن يحتل الدستور المرتبة الأولى، ثم تليه المعاهدات الدولية، وبعدها القوانين العضوية ثم القوانين العادية وأخيرا التنظيمات أو اللوائح. فيترتب على هذه التراتبية أن النصوص التنظيمية تأتي في أسفل هذا الهرم. ونتيجة لذلك، تقرّر إجراء إصلاح على اللجنة حيث تم تعويض النص التنظيمي المتضمن إنشاءها بالأمر رقم 09–04.
وقد شهد هذا الأمر تطورا مهما مع إنشاء المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان في الجزائر، والتي أصبحت منظّمة بنص تشريعي على اعتبار أن الأوامر هي نصوص تشريعية يتخذها رئيس الجمهورية فيما بين دورتي البرلمان أو في حالة شغور البرلمان وفقا لأحكام الدستور. إلاّ أنه هنا أيضا لم يتم تجسيد الضمانات التي نصّت عليها مبادئ باريس، لا سيّما فيما يتعلق بتمكين الأفراد من رفع شكاوى للمؤسسة المنشأة، أو دخولها في علاقات مع منظمات المجتمع المدني على المستوى الوطني، وكذلك ربط علاقات مع الآليات الدولية لحماية حقوق الإنسان سواء على المستوى العالمي أو الإقليمي. وهو الأمر الذي تداركته تدريجيا بربطها علاقات مع المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة وبعض الهيئات الأخرى. إلا أن أهم علاقة هي تلك التي ربطتها بلجنة التنسيق الدولية بين المؤسسات الوطنية لترقية وحماية حقوق الإنسان التي أنشئت سنة 1993 من أجل التنسيق بين هذه المؤسسات وتصنيفها وفق مدى احترامها لمبادئ باريس. وبتاريخ 10–10– 2010، قرّرت إحدى هيئات هذه اللجنة منح المؤسسة الوطنية مركز ملاحظ داخل اللجنة دون صوت تداولي، بفعل عدم توافقها التام مع مبادئ باريس.
إن الظروف الأمنية التي صاحبت دخول الجزائر عهد التعددية الحزبية ونظام اقتصاد السوق أسهمت بشكل كبير في عدم ارتقاء المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان إلى مصاف الدور الذي أنيط بها، رغم التحسينات المستمرة التي أدخلت عليها عبر نقلها من المرصد إلى اللجنة ومنحها صلاحيات إضافية تجعلها هيئة تتولى ترقية وحماية حقوق الإنسان. كما تخلل هذه الإصلاحات إنشاء نظام وسيط الجمهورية بموجب المرسوم الرئاسي رقم 96–113 المؤرخ في 23-3-1996، والذي جاء ليشكّل نظاما موازيا للمرصد في مجال حماية حقوق الإنسان إذ يعد هيئة طعن قضائية تساهم في حماية حقوق المواطنين وحرياتهم. إلا أن الإنتقادات التي طالت هذا النظام أدت برئيس الجمهورية إلى إلغائه سنة 1999. وقد أدى رفع حالة الطوارئ سنة 2011 إلى المضي في إصلاحات لدعم سيادة القانون وتعزيز حماية حقوق الإنسان. وتجسد ذلك باعتماد التعديل الدستوري الأخير لسنة 2016 الذي جاء ليكرس المعايير الدولية فيما يخص المؤسسات الوطنية. وهو ما تجسّد لاحقا بصدور القانون رقم 16– 13 بتاريخ 03–11–2016 الذي نظم هذه المؤسسة الدستورية في جملة من الأحكام، جاءت في 35 مادة تضمّنت تحديد صلاحيات المجلس، وتشكيلته وكيفية تعيين أعضائه، بالإضافة إلى تنظيمه وسيره.
تحدي الإستقلالية
من أهم الضوابط التي تسمح للمؤسسة الوطنية أن تقوم بمهام حماية حقوق الإنسان تمتعها بالإستقلالية تجاه السلطات العمومية في الدولة، وبالأخص السلطة التنفيذية. ويتحقق ذلك بضمان تسمية أعضائها بطريقة شفافة وبعيدة قدر الإمكان عن تأثير السلطة السياسية. فقد نص القانون رقم 16–13 على كون النزاهة من أهم المعايير التي ينبغي أن تقوم عليها تشكيلة المجلس. كما أنه من أصل أعضائه الثمانية والثلاثين، تعيّن السلطة التنفيذية ممثلة برئيس الجمهورية أربعة منهم، ويتم تعيين باقي الأعضاء بحكم مناصب الخبرة لدى الهيئات الدولية، أو من داخل مؤسسات في الدولة، بالإضافة إلى منظمات المجتمع المدني. وهذا يحدث فارقا كبيرا مع اللجنة الإستشارية التي كانت السلطة التنفيذية تعين أغلبية أعضائها بما فيهم الرئيس، في حين أن القانون 16 –13 نص على انتخاب رئيس اللجنة من قبل أعضائها.
الشكاوى أهم أداة في أيدي الأفراد
إن فعالية المجلس الوطني لا تكتمل إلا إذا تمكن الأفراد من الوصول إليه، وهو الأمر الذي تحقق باستحداث نظام الشكاوى من طرف الأفراد عند أي مساس بحقوق الإنسان، وهو إجراء يقوم بموجبه الأفراد بنقل قضاياهم إلى المجلس الذي يملك صلاحية إحالتها إلى السلطات الإدارية المعنية، وللسلطات القضائية إن اقتضى الأمر ذلك. ويعد هذا تجسيدا لمبادئ باريس التي نصت على منح اختصاص شبه قضائي للمؤسسات الوطنية بغرض حماية حقوق الإنسان على المستوى الوطني. كما يمكن للمجلس زيارة أماكن الحبس والتوقيف للنظر، مما يبين توسيع صلاحياته.
التشبيك مع منظومة حماية حقوق الإنسان
نص القانون 16 –13 على ربط المجلس الوطني بالآليات الدولية لحماية حقوق الإنسان من عدة جوانب. فمن الناحية العضوية، نص على أنه يضم في تشكيلته خبيرين دوليين لدى الهيئات الدولية أو الإقليمية لحقوق الإنسان. أما من الناحية الموضوعية، تم النص على إشراكه في إعداد التقارير الدورية التي ترفعها الجزائر إلى الآليات الأممية والإقليمية. ويعد هذا أفضل طريقة لوضع المجلس في محيط تفاعلي يستفيد فيه من خبرة أعضائه الذين هم من تشكيلة لجان حقوق الإنسان، ويتحكم في كيفية متابعة احترام الجزائر للملاحظات والتوصيات الصادرة عن هذه اللجان. ولقد شاركت اللجنة الإستشارية لأول مرة في الإستعراض الدوري الشامل للجزائر أمام مجلس حقوق الإنسان سنة 2012، وكذلك في دورة 2016، وهو ما سيواصله المجلس الوطني في الدورات القادمة.
لقد أكدت اللجنة الوطنية الإستشارية في تقريرها السنوي لسنة 2016 الذي هو آخر تقرير أعدته قبل استبدالها بالمجلس الوطني بأن سنة 2016 هي سنة مفصلية ومحورية لحقوق الإنسان في الجزائر، بالنظر للتعديلات العميقة التي من بينها اعتماد المجلس الوطني. ويبقى أهم تحدّ هو بدء المجلس في ممارسة اختصاصاته القانونية لضمان ترقية واحترام حقوق الإنسان وتفعيل آليتي الشكاوى والوساطة، الذي يتزامن مع استلامه رئاسة الشبكة العربية للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان بتاريخ 15–10–2017.
قائمة المراجع:
1. الكتب: المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، التاريخ و المبادئ و الأدوار و المسؤوليات، مكتب الأمم المتحدة، مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، سلسلة التدريب المهني، العدد رقم 4، نيويورك و جنيف،2010. // عمر سعد الله، مدخل في القانون الدولي لحقوق الإنسان( ديوان المطبوعات الجامعية، الطبعة الخامسة، الجزائر، 2009). // عمر سعد الله، حقوق الإنسان و حقوق الشعوب ( ديوان المطبوعات الجامعية، الطبعة الرابعة، الجزائر 2007). // عبد العزيز قادري، حقوق الإنسان في القانون الدولي و العلاقات الدولية– المحتويات و الآليات –( دار هومة، الطبعة السادسة ، الجزائر، 2008 ).
2. التقارير: التقرير السنوي، اللجنة الوطنية لترقية حقوق الإنسان و حمايتها، 2016.
3.النصوص القانونية: الدستور الجزائري المؤرخ في 28 نوفمبر 1996 المعدل في: 10– 04 –2002 ثم في 15– 11– 2008 ثم في 6 –3 –2016. // القانون رقم 16 –13 المؤرخ في 03 –11 –2016 يحدد تشكيلة المجلس الوطني لحقوق الإنسان و كيفيات تعيين أعضائه و القواعد المتعلقة بتنظيمه و سيره. // الأمر رقم 09 –04 المؤرخ في 27– 8– 2009 يتعلق باللجنة الوطنية لترقية حقوق الإنسان و حمايتها. // المرسوم الرئاسي رقم 09 263 المؤرخ في 30– 8– 2009 يتعلق بمهام اللجنة الوطنية لترقية حقوق الإنسان و حمايتها، و تشكيلتها و كيفيات تعيين أعضائها و سيرها. // المرسوم الرئاسي رقم 01 –71 بتاريخ 25– 3 –2001 يتضمن إحداث اللجنة الوطنية لترقية حقوق الإنسان و حمايتها. // المرسوم الرئاسي رقم 96– 113 المؤرخ في 23– 3 – 1996 يتضمن تأسيس وسيط الجمهورية. // المرسوم الرئاسي رقم 92 –77 مؤرخ في 22– 2– 1992 يتضمن إحداث المرصد الوطني لحقوق الإنسان.