دعا رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى عقد جلسة لمجلس النواب قبل ظهر الغد لدرس اقتراح طلب الاتّهام في ملف الاتصالات بحق الوزراء السابقين نقولا صحناوي وبطرس حرب وجمال الجرّاح، والذي وقّع عليه أكثر من 26 نائبا. إلّا أنّ إعلان عدد من الكتل مقاطعتها للجلسات النيابية غير المتعلّقة بانتخاب رئيس الجمهورية، دفع برئيس المجلس النيابي نبيه بري إلى تأجيل الجلسة من دون تحديد موعد جديد لها، بعدما تمنى منه مكتب المجلس ذلك. ويتعلّق اقتراح الاتّهام بعدد من القضايا وهي 1) قضية مبنى قصابيان الذي استأجرته شركة ميك 2 وسدّد بدلات إيجار عن السنوات الأربع الأولى منه ناهزت 10 ملايين دولار من دون أن تستفيد الشركة منه وقد تم توقيع العقد بموافقة الوزير صحناوي وقرر حرب فسخه على خلفية أنه يخفي صفقة من دون اتخاذ إجراءات كافية لحماية مصالح الدولة، 2) القضية المتعلّقة بالكتاب الوارد من النيابة العامة في العام 2019 بحق الوزيريْن المذكوريْن إضافة إلى الوزير جمال جرّاح، وقد تضمن معلومات مفصلة حول الهدر الحاصل في مجال استخدام مداخيل شركتي الخليوي في تمويل نشاطات اجتماعية متفرقة بقرار من الوزراء المذكورين.
وقبل المضي في إبداء ملاحظاتنا حول هذه الجلسة، يجدر التنبيه إلى الأمور الآتية:
أولا، أن المحرك الأساسي لهذا الاتهام تمثل في إحالة قرار قاضي التحقيق في بيروت أسعد بيرم (والذي صادقت عليه الهيئة الاتهامية في بيروت) إلى المجلس النيابي لاتخاذ الموقف الذي يراه مناسبا من ملاحقة الوزيرين الصحناوي وحرب أو عدم ملاحقتهما،
ثانيا، يلحظ أن الأصول الواجب اتباعها للنظر بطلبات الاتهام كما نظمها قانون أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء 13/1990 لم يتم مراعاتها. فلم يبلغ النواب طلب الاتهام. وفيما لم يعرف إذا تم تبليغ المطلوب اتهامهم الطلب، من المؤكد أن النواب لم يبلغوا بدفاع هؤلاء قبل عشرة أيام من انعقاد الجلسة. ومؤدى ذلك بالحدّ الأدنى هو عدم تمكين النواب من تكوين قناعاتهم على أساس معطيات الملف وتاليا اتخاذ المواقف المناسبة في هذه الجلسة لو تمّ انعقادها.
سابقة خلال العقديْن الماضييْن
ستكون الجلسة المنوي عقدها الأولى من نوعها التي تنعقد للنظر بطلب اتّهام نيابي ضدّ رؤساء أو وزراء منذ العام 2003، حين انعقد المجلس للنظر بطلب مماثل بحق الوزيريْن شاهي برصوميان وفؤاد السنيورة حينها. وفي حين أنّ محاولة عقد جلسة مماثلة قد حصلت في آب 2021 للنظر بطلب اتّهام بعض الوزراء في جريمة تفجير المرفأ، إلّا أنّها باءت بالفشل لعدم توفّر النصاب عقب مقاطعة بعض الكتل لها تجاوبا مع طلب أهالي الضحايا.
دور المجلس لا يجب أن ينحصر في طقوس الاتهام
على أهمّية القضية وجدية الأدلة المبرزة فيها، فإنّ دور المجلس النيابي في خصوص قطاع الاتّصالات والهدر فيه لا يجب أن ينحصر في اتهام أشخاص بعينهم، إنما يحب أن يتوسع ليشمل عوامل الخلل التي تشوب قطاع الاتّصالات برمته وهي العوامل التي تبقى أرضا خصبة لممارسات من هذا النوع، وصولا إلى ممارسة دوريْه التشريعي والرقابي. وما يدفع في هذا الاتجاه بشكل خاص هو تقرير ديوان المحاسبة المؤرخ في 5/4/2022 والذي أثبت واقعة الهدر الذي يكاد يقضم مليارات من مداخيل الخليوي.
وفي حين كان مجلس النواب على الصعيد التشريعي وضع آلية لضبط الإنفاق بموجب قانون موازنة العام 2020 (المادة 36) من خلال فرض تحويل الإيرادات إلى الخزينة من دون خصم النفقات التشغيلية وعمليا من خلال فرض رقابة ديوان المحاسبة على هذه النفقات، إلّا أنّها بقيت من دون تطبيق. لا بل أكثر من ذلك، عاد المجلس النيابي ليعدّل هذه المادة لجهة استعادة آلية تُعيد إحياء إمكانية الهدر في القطاع، من خلال حصر الرقابة بوزيريْ الاتصالات والمالية.
أما على الصعيد الرقابي، فقد عقدت لجنة الاتصالات النيابية عددا من الاجتماعات للتدقيق في استئجار مبنى تاتش في وسط بيروت ومن ثم شرائه في 2019 من دون أن تنشئ لجنة تحقيق برلمانية. كما أن المجلس لم يقم بأي مبادرة تذكر رغم إبلاغه تقرير الديوان منذ أكثر من 7 أشهر.
إشكالية مرور الزمن: حجة تُوسّع مروحة الاتهام
كنّا قد وثّقنا في مقال منفصل وقائع قضية إيجار مبنى قصابيان من قبل شركة ميك 2 المعروفة حينها بشركة MTC، ووثّقنا المسؤوليات التي يُمكن ترتيبها على كلّ من الصحناوي وحرب كوزيريْ اتّصالات كان للأول الدور الحاسم في إبرامه وللثاني الدور الحاسم في فسخه. وكان كلا منهما أرسل إلى المجلس النيابي في أواخر الشهر الماضي مذكرة دفاعية فنّدا فيها الاتهامات المثارة بحقه.
وبمراجعة هاتين المذكرتين، يسجل الأمور الآتية:
- أن الصحناوي بنى دفاعه بشكل خاص على سبب شكلي قوامه مرور الزمن على الارتكابات الحاصلة. فقد اعتبر صحناوي أنّ الفعل المرتكب من قبله في حال ثبوته لا يتعدّى وصفه الجنحة، وبالتالي فإنّ مرور الزمن المُسقط للجريمة هو ثلاث سنوات، وأنّ هذه المهلة قد انقضت بغض النظر عن تاريخ بدء احتسابها، سواء أكان تاريخ توقيع العقد (2012) أو تاريخ خروجه من الوزارة (2014)، لكون هذه الجريمة آنية يبدأ مرور الزمن فيها من لحظة وقوعها. وقد استغرب الصحناوي تبعا لذلك قيام النيابة العامة المالية بالتوسّع بالتحقيق في 2021 في وقائع يشملها مرور الزمن، مقابل حفظها الإخبار المقدم بشأنها في 2015 حين لم يكن هنالك مرور زمن. وقد وضع ذلك في خانة الريبة والشك حول خلفياته، مؤكدا أنّ هناك عاملا خفيا يسعى إلى النيل من سمعته والتشهير به.
- أن حرب بنى دفاعه بالمقابل على أنه أخذ القرار بفسخ عقد الإيجار بهدف وضع حدّ لصفقة مشبوهة وأنه بالتالي أوقف الضرر الناتج عن هذا العقد، بما يحفظ المال العام. ومن اللافت أن حرب أفاد أنه تلقّى ضغوطات من جهات سياسية عديدة للتوسّط لمصلحة صاحب البناء، وأن هذا الأخير وكّل أحد المحامين العاملين في مكتبه وهو نعمة حرب (أي مكتب بطرس حرب) الذي وُعد بالحصول على 10% من أي تعويض يحصله من الدولة. بالمقابل، لم يتضمن دفاع حرب أي معطى حول الأسباب التي حالت دون القيام بأي عمل لتحصيل حقوق الدولة المهدورة بنتيجة ما اعتبره صفقة مشبوهة.
وعليه، وبمعزل عن مآل الاتهام أو قوة هذه الحجج، فإنه من البيّن أنّها تتناول مسؤوليات أكبر من المسؤوليات موضوع الاتهام. فلماذا حفظت النيابة العامة المالية الإخبار المقدم إليها في 2015 ولم تعد لتحركه إلا في 2021؟ وألا يستدل من ذلك وجود تقصير هائل في عمل النيابة العامة التي هي نفسها لم تتحرك حتى اليوم في قضية أكثر خطورة وهي قضية استئجار شركة تاتش مبنى آخر في وسط بيروت وشرائه؟ وألا يحتم ذلك بدء محاسبة النيابة العامة المالية عن تقصيرها في ممارسة الدور الذي أؤتمِنت عليه؟ والأهم لماذا لم يقُمْ لا حرب ولا أي من وزراء الاتصالات اللاحقين الجرّاح ومحمد شقير بأي مسعى لاسترداد الأموال المهدورة بنتيجة الصفقة المذكورة فلم يرسل كملفّ كامل عن القضية إلا من قبل الوزير طلال حوّاط؟ وأخيرا، لماذا لا يعمد وزير الاتصالات الحالي إلى وضع استراتيجية قضائية لاسترداد الأموال العامة المهدورة من الوزراء أو الأشخاص المتورطين في هذه الصفقات (الجهة مالكة المبنى أو أيضا من الشركة الكويتية التي عمدت إلى تشغيل شبكة تاتش خلال العشرية الماضية أو المسؤولين داخل وزارة الاتصالات الذين شاركوا في عقد هذه الصفقة أو استفادوا منها)، ولو أمام القضاء المدني؟ ثم، لماذا لا تكشف السرية المصرفية عن حسابات كل هؤلاء في فترة الصفقة للوقوف على حقيقة الأمر؟ هذه الأسئلة تصبح بالطبع أكثر إلحاحا بقدر ما تضيق إمكانية وصول الاتهام أمام مجلس محاكمة الرؤساء والوزراء إلى خواتيمه بفعل وجود شبه استحالة لذلك.