دعا مجلس النوّاب اللبنانيّ إلى جلسة تشريعيّة استثنائيّة في 30 أيلول و1 تشرين الثاني، ولكن تعطّل النّصاب بعد ظهر جلسة الأربعاء (30 أيلول) ممّا أدّى إلى إرجاء الجلسات إلى 20 تشرين الأوّل، والسبب هو، طبعاً، قانون العفو. هذه ليست المرّة الأولى التي تتعطّل فيها الجلسة بسبب عدم التوافق على هذا القانون، الذي يتخطّى النقاش فيه، أيّ اقتراح آخر من شأنه التحسين من الوضع الاقتصاديّ أو المعيشيّ أو التعويض على المتضرّرين جرّاء جريمة تفجير المرفأ.
بعد حوالي شهرين من الانفجار، قطعت القوى الأمنيّة والجيش جميع الطرق المؤدية إلى قصر الأونيسكو. ومن الملفت أنّ هذه المرّة توسّع نطاق المناطق التي منع الناس من الدخول إليها، مع تشديد أمنيّ ووجود أكبر للجيش على مداخل بعض الطرقات. كلّ ذلك كي يدخل النوّاب إلى جلستهم، وتبدأ المزايدات بين الفرق السياسيّة، والكلام الشعبويّ لتبرئة أنفسهم وغسل أياديهم من كلّ ما يحصل في البلد.
في الجلسة، جميع الكتل التي في السلطة تطالب بمحاسبة الفاسدين في السلطة، وكأنّها بريئة من كلّ الفساد وما أدّى إلى جرائم بحقّ الشعب. ولا يفوّت نائب رئيس المجلس إيلي الفرزلي الفرصة في كلّ جلسة، ليقف على مسرح الأونيسكو مخاطباً “ضمير” النوّاب، ومطالباً بمحاسبة الجميع، تأكيداً على شفافيّة المجلس. وبدوره، لا تنتهي الجلسة من دون أن يدلي رئيس المجلس نبيه برّي بجملته الشهيرة “ما دام في طائفيّة وطوائف، ما في تقدّم”، هو الذي يترأّس حركة سياسيّة طائفيّة. الجميع بريء من الانفجار والفساد، لا مكان لذكر الضحايا وتدمير بيروت. لا مساحة في المجلس إلّا للمزايدات أو الضحك على تعليقات برّي الساخرة، وتعليقات الفرزلي الذكوريّة.
النوّاب يهاجمون الوزراء: تعليقات كيدية وذكوريّة
كان من الواضح خلال الجلسة تعالي نوّاب المجلس وتنمّرهم على بعض وزراء حكومة تصريف الأعمال، وهو أمر يتكرّر في كل جلسة. ففيما كانت وزيرة العدل ماري كلود نجم تدلي بمداخلاتها المتعلّقة بتصحيحات قانونيّة وتقنيّة في اقتراحات القوانين ومشاريعها، كانت تقابل برفض برّي أن يستمع إليها، وبإسكاتها مرّات عديدة خلال جلسة قبل ظهر الأربعاء. وحتى حين استمع إليها ـ مرّة وحيدة ـ أسف لصوابيّة تصحيحاتها: “أوّل مرّة مع الأسف الشديد بتّفق معك”.
أمّا إيلي الفرزلي الذي يبدي دائماً كرهه لحكومة حسّان دياب، فقد قاطع وزيرة العدل خلال مداخلة لها تطلب فيها تغيير موقع جملة معيّنة في أحد الاقتراحات، معلّقاً ومحرّكاً يديه بشكل يتماشى مع كلماته: “شيليه من فوق، وحطّيته تحت”، مع ضحكة ساخرة سرعان ما انتقلت لعدد كبير من النوّاب. ولم يلق تعليق الفرزلي أيّ اعتراض من قبل الحاضرين في الجلسة.
وبدا في الجلسة وكأنّ النائب ووزير التربية السابق الياس بو صعب حضر فقط ليردّ على اتّهامه بالفساد، حين كان في الوزارة، من قبل وزير التربية طارق المجذوب. وكأنّ المحاسبة تسري بشكل عكسيّ: المتّهم يطالب بمحاسبة من كشف فساده. فأثناء مناقشة قرض من البنك الدوليّ لصيانة البنى التحتيّة، قال بو صعب إنّ اتفاقاً حصل مع البنك الدولي في العام 2017 بقيمة 100 مليون دولار بصفر فائدة، وتابع: “بتوصل فينا إنّه يجي وزير التربية الحالي يلغي هيدا القرار”. فقاطعه برّي طالباً منه الحديث عن القرض موضوع النقاش وهو ليس القرض الذي تحدث عنه هو. ولكن بو صعب تابع كلامه عن المجذوب: “بيطلع هيدا الوزير وبقلّن هيدا فساد وما حدا بيحاسبه. هيدا الوزير لازم يتحاسب”. فكأنّما المحاسبة ليست لمن اتّهم بالفساد بل لمن يتجرّأ على الكشف عنه.
النوّاب يعلنون إفلاس الدولة بمرح
على جدول أعمال الجلسة، اقتراحات بفتح اعتمادات في موازنة عام 2020، أو بتوقيع قروض مع البنك الدولي. وأثار اقتراح النائبة بهيّة الحريري بفتح اعتماد 300 مليار ليرة للمدارس، نقاشاً تركّز على إفلاس الدولة كليّاً. والملفت أنّ النوّاب كانوا يستخفّون بمناقشة الإفلاس، وكأنّه مدعاة للمرح، فقال برّي: متل واحد طفران رايح تتديّن منه. وأضاف نائب كتلة التنمية والتحرير ياسين جابر: عم نشرّع وما في مال. واعتبر وزير المالية غازي وزني أنّ الاقتراح شعبويّ وسيؤدّي إلى استدانة إضافيّة وإلى تدهور قيمة الليرة. أمّا وزيرة الدفاع زينة عكر فأكّدت أمام المجلس أنّ الوزارة لم تستلم أيّ ليرة لبنانيّة من أصل 120 مليار ليرة كان المجلس قد صدّق عليها لدعم الزراعة والصناعة وتأمين مساعدات للعائلات الأكثر فقراً. أمّا برّي، فكان قد طلب من وزير المالية التفاوض مع البنك الدوليّ لتأمين مبالغ مالية، وحين أكّدت وزيرة الدفاع عدم قدرة البنك الدولي على ذلك، ردّ رئيس المجلس بأنّ وفداً من البنك الدوليّ زاره وأبدى استعداده لتقديم قروض لها علاقة بالاستشفاء وجائحة كورونا وغيرها.
النوّاب يطلقون خطاب المحاسبة مجدّداً… والفرزلي عرّابه
أطلق النوّاب في هذه الجلسة خطاب المحاسبة من جديد مبرّئين أنفسهم من الفساد، ولكّنهم في الوقت نفسه طالبوا بمحاسبة الجميع “من رأس الهرم حتّى أصغر موظّف” مروراً برئيس مجلس النواب ورئيس الجمهوريّة. النائب إيلي الفرزلي هو طبعاً ودائماً عرّاب هذا الخطاب، يردّ به على مزايدات النوّاب، فأعلن عن دراسة متكاملة كاقتراح لإعادة النظر في الدستور لرفع الامتيازات عن كلّ الشخصيّات في البلد: آمل أن تسمعوا جيّداً، المحاسبة ابتداء من كلّ من يخلّ بالواجب العام من رأس الهرم حتّى آخر موظّف. وأضاف: “فلنرفع الحصانة بالطهارة والطوبى ردّاً على كلّ من يحاول رفع الشعارات بتهمة من هنا وهناك”. جميع الكتل وافقت على كلام الفرزلي، فيما هو عاد إلى كرسيّه فرحاً بالخطاب الذي أطلقه واقفاً على مسرح الأونيسكو أمام جميع النوّاب. أمّا كتلة الوفاء للمقاومة، ورغم موافقتها على كلام الفرزلي، فقد عبّرت عن استيائها من عدم محاسبة أي وزير بعد تفجير المرفأ. أتى ذلك على لسان النائب حسن فضل الله الذي اعتبر أنّ ثمّة منع مقصود لمحاسبة أي وزير، فاعترضه برّي ليقول: “خلّينا نثبت إنّه ما في شي بيمنعنا نحاسب”. لأكثر من مرّة صرّح بعض النوّاب أنّهم بعيدون عن الشعبويّة، في حين أتى الكلام عن المحاسبة من النوّاب لتمجيد أنفسهم أمام المجلس وأمام جمهورهم. فكأنّما كل إعلان عن الاستعداد للخضوع للمحاسبة يجب أن ينتهي بالتمجيد والتصفيق.
العفو العام: القانون الذي يعطّل معظم الجلسات
يدير برّي جلسته كما يحلو له، فيضع على جدول الأعمال الاقتراحات بالتراتبيّة التي يريدها، ويغيّر مواقع الاقتراحات. ففي جلسة قبل الظهر، طلب تأجيل النقاش بالعفو إلى بعد الظهر ريثما يتناقش كلّ من الفرزلي وآلان عون وهادي حبيش وعلي حسن خليل وجميل السيّد وبلال عبدالله وإبراهيم الموسوي. وقدّم بضعة اقتراحات، من آخر الجدول إلى أوّله، كان يريد التصديق عليها، وذلك لتوقّعه عرقلة الجلسة بسبب عدم التوافق على قانون العفو. استعمل برّي هذه المرّة حجّة الكورونا في السجون وبخاصّة رومية وزحلة، بعدما قرأ عنها في الصحف، بحسب قوله. والأهمّ أنّه يريد أن يصل النوّاب إلى شيء مشترك “حتّى نقدر نلبّي الحاجة ت ما يكون في إزعاج لحدا”. وأصرّ برّي على حصول الاجتماع بين النوّاب المذكورين قبل الساعة السادسة. ولكن عند قدوم وقت الجلسة المسائيّة، انتظر برّي أكثر من نصف ساعة على كرسيّه وهو منزعج، لأنّ النصاب لم يكتمل أبداً. بدا الانزعاج واضحاً على برّي بشكل خاصّ. وكان من الملفت أنّ جميع الكتل كانت حاضرة (إلّا الكتائب المستقيلة، والقوّات المقاطعة للجلسة)، مع نقص واضح في نوّابها، فكأنّ الجميع اتّفق على تعطيل الجلسة بدون أن يتفرّد بذلك أحد. وانتهت الجلسة بكلمة لبرّي، حوّل فيها الحديث عن العفو العامّ، مرّة أخرى، إلى موضوع إنسانيّ، في حين أنّ العفو الذي يريده برّي والحريري هو عفو محاصصة ورشوة عن جماعات يراد استمالتها أو شراء ولاءاتها بمعزل عن أيّ منظور إنساني أو اجتماعي.
اعتذر برّي إذا فهم النوّاب بأنّه يريد في قانون العفو أن يعطي الحريّة لـ”ناس بيخصّوني”، في حين أنّ الهدف من القانون هو التخفيف من اكتظاظ السجون، وخاصّة رومية، مضيفاً أنّ المساجين ينامون في رواق السجن. “بطّل في إنسانيّة” هي الجملة التي استخدمها برّي لاستعطاف الجميع ولتبرئة الذات من تهمة رشوة المعنيين بالعفو وشراء ذممهم، وأصرّ على قانون عفو يخفّف من وضع السجون الرديء، على أن تعمل عليه لجنة مؤلّفة من النوّاب المذكورين سابقاً، قبل 20 تشرين الأوّل 2020. هذا مع العلم أنّ “المفكرة القانونية” كانت اقترحت مراراً إقرار قانون بتعليق أحكام التوقيف الاحتياطي في جميع الجرائم التي لا تعتريها خطورة شديدة، مما يسهم في الإفراج عن أكثر من 50% من نزلاء رومية وغيره من السجون من دون المس بالعدالة.