بعد قراره رقم 1 الذي قضى بإبطال القانون رقم 327/2024 الذي أعاد تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى المنتهية ولايتهم، أصدر المجلس الدستوري قراره رقم 2 تاريخ 16 كانون الثاني 2025 بالإبطال الجزئي للقانون رقم 328/2024 الذي علّق المهل القانونيّة القضائيّة والعقديّة. وكان هذا القانون قد علّق، بين تاريخ 8 تشرين الأوّل 2023 و31 آذار 2025، سريان المهل القانونيّة والعقديّة الممنوحة لأشخاص الحقين العام والخاص بهدف ممارسة الحقوق على أنواعها. كما أنّه علّق بين تاريخ 31 آذار 2022 و30 حزيران 2024 سريان جميع المهل القضائيّة أمام جميع المحاكم اللبنانيّة على اختلاف أنواعها ودرجاتها.
ولئن أبطل المجلس الدستوري قرار تعليق المهل القضائية (2022-2024)، فإنّه ردّ طلب إبطال تعليق المهل القانونية والعقدية بعدما فسّرها على أنّها تشمل المهل القضائيّة أيضا . كما تدخّل من تلقاء نفسه لإبطال المادة الخامسة من القانون التي تفتح المجال لإعادة المحاكمة في الأحكام المبرمة التي لم يراع فيها تعليق المهل الملحوظ في القانون.
وتجدر الإشارة إلى أن نواب تكتّل لبنان القويّ الذين تقدّموا بالطعن كانوا قد طلبوا إبطال القانون نظرًا لمخالفته آلية التصويت المنصوص عليها في المادة 36 من الدستور كما مخالفة المادة 18 من الدستور لجهة الاختلاف بين النص الذي صوّت عليه في المجلس النيابي والنص المنشور في الجريدة الرسميّة. بالإضافة إلى ذلك، اعتبر الطاعنون أن القانون يُشكّل تعدّيًا من قبل السلطة التشريعيّة على السلطة القضائيّة بسبب عدم استشارتها بشأنه، وأنّه يخالف مبدأ فقه القانون ووضوحه وبالتالي مبدأ المساواة. كما أنّهم أعابوا على القانون عدم توافر شروط رجعيّة القوانين وبالتالي عدم جواز تعليق المهل لفترة تسبق تاريخ صدوره.
هذا وقد عالج المجلس الدستوري هذه الأسباب وناقشها تفصيليا، كما أنّه ذكّر بأنّ له التوسّع بالبحث “بكلّ ما يشوب القانون من مخالفات دستوريّة، فيترتّب عليها نتائج دون التقيّد بالأسباب الواردة في الطعن أو بحرفيّة المطالب أو بالمواد المطعون بها” وهو ما يعرف بمبدأ ال ultra petita الذي يعمل به أيضًا المجلس الدستوري الفرنسي.
بالتالي، لا بدّ من تفنيد أبرز ما ورد في قرار المجلس الدستوري حول الدفوع بعدم دستورية قانون تعليق المهل:
المجلس الدستوري يعرض عن التدقيق في صحّة “محضر” الجلسة رغم علمه بشبهة تضمينه معلومات مزوّرة
تناول المجلس الدستوري الدفع بعدم دستوريّة القانون بسبب مخالفة النواب آليّة التصويت كما هو منصوص عليها في المادة 36 من الدستور. وتنص هذه المادة على أنّ التصويت يتم “دائمًا بالمناداة على الأعضاء بأسمائهم وبصوت عال”. وكانت الجهة الطاعنة أكّدت عدم حصول مناداة واعتباطية التصويت.
إلّا أنّ مقاربة المجلس لقضيّة صحّة التصويت أتت مختلفة هذه المرّة عمّا قام به في قراره رقم واحد المتّصل بتمديد سنّ القضاة. آنذاك، طلب المجلس الدستوري من المجلس النيابي تزويده بالتسجيل الصوتي لوقائع الجلسة. ولئن حصل عليه، سرعان ما تثبت عند مقارنته بمحضر الجلسة أن هذا الأخير لا يتوافق مع الحقيقة وأنه لم تتم مراعاة شروط التصويت بالمناداة. أما هذه المرّة، فقد اكتفى المجلس بالاستناد إلى محضر الجلسة كما نظّمته إدارة مجلس النواب، وقد نصّ على أنّه تمّ المناداة على النوّاب بأسمائهم ونال القانون الأكثريّة ما دفع برئيس المجلس إلى إعلان تصديقه. وبالتالي، اعتبر المجلس الدستوري أنّه” تمّ إقرار القانون بالأكثريّة دون تدوين أيّ اعتراض على آليّة التصويت” ما يدحض المخالفة الدستوريّة ويؤدّي إلى ردّ سبب الإبطال.
وهذا التماشي يطرح تساؤلات عدة: فلماذا مارس المجلس الدستوري رقابته على صحة التصويت (صحة المحضر الذي أثبت حصول التصويت) في الطعن في دستورية قانون 327 وتراجع عن ذلك في سياق الطعن في دستورية قانون 328 الذي أقرّ في الجلسة نفسها؟ فهل مردّه أن الجهة الطاعنة في هذا القانون الأخير لم تطالبه بإجراء هذه الرقابة انطلاقا من التسجيل الصوتي بخلاف ما فعلته الجهة الطاعنة في القانون الأول، على نحو يقيد صلاحيته في إجراء التحقيقات بما يطلبه النواب؟ أم أنه يعود إلى أن المجلس الدستوري تأثر في موقف مسبق قوامه أهمية تعليق المهل لحفظ الحقوق كما فعل القانون 328 جزئيا في حين أنه كان مقتنعا بعدم ملاءمة القانون 327 فضلا عن عدم دستوريته؟
وما يزيد من أهميّة هذه التساؤلات هو أنّ المجلس الدستوري كان تثبت في قراره رقم واحد من أن المحضر الذي أعدّته إدارة مجلس النواب احتوى معلومات مغلوطة بشأن كيفية التّصويت على القانون 327، وهو أمر يشكل مؤشرا قويا على احتمال احتوائه معلومات مغلوطة مماثلة بشأن القانون 328 أيضا.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ مراقبة المرصد البرلماني لوقائع الجلسة قدّ بيّنت أنّه تمّ مخالفة قاعدة التصويت بالمناداة في كافة القوانين باستثناء التمديد لقائد الجيش الذي تمّ بحضور شخصيّات أجنبيّة من على شرفة المجلس.
وفي الإطار عينه، من اللافت أنّ المجلس قد نوّه في قراره إلى أنّ محضر الجلسة لم ينصّ على اعتراض النوّاب على آليّة التصويت، بينما بالعودة إلى قراره رقم واحد يتبيّن أنّه تناول هذه الاعتراضات التي دوّنت في المحضر وشملها في عرضه للوقائع التي أفضت إلى إعلان الإبطال. فلا بدّ هنا أيضًا من التساؤل عمّا إذا كان المجلس يعتبر أنّ غياب اعتراض النواب المدوّن في المحضر على التصويت يكفي لتغطية المخالفة الدستوريّة للمادة 36. وإذا كان الحال كذلك، يكون المجلس قد أغفل عن التحقق من المخالفة الدستوريّة بالشكل الجدّي المطلوب منه، وغضّ النظر عن مخالفة تؤدّي إلى إبطال القانون برمّته.
إنّ إغفال المجلس عن التحقق من وقائع التصويت بالاعتماد على التسجيل الصوتي كان له أيضًا نتائج على الدفع الثاني الذي تقدّم به النوّاب وهو مخالفة المادة 18 من الدستور التي تنصّ على أنّه لا يجوز نشر قانون ما لم يقرّ من قبل مجلس النواب والفقرة “د” من مقدّمة الدستور التي تنصّ على أنّ “الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستوريّة”.
المجلس الدستوري يوسّع مفهوم الضمانات القضائيّة التي يحميها الدستور
تناول المجلس الدستوريّ في قراره الدفع الذي ينصّ على عدم استشارة مجلس القضاء الأعلى بقانون تعليق المهل عملًا بالفقرة “ز” من المادة 5 من قانون تنظيم القضاء العدلي. فقد اعتبرت الجهة الطاعنة أنّ هذا الاستطلاع يشكّل صيغة جوهريّة وتكريسًا للضمانات القضائيّة المنصوص عليها في الفقرة “هـ” من مقدمة الدستور فيكون بالتالي مستوجبًا الإبطال.
وكانت مسألة استشارة مجلس القضاء الأعلى عملًا بقانون تنظيم القضاء العدلي قد أثيرت سابقًا في قرار المجلس الدستوري رقم 23/2019 تاريخ 12/9/2019 (الموازنة العامة والموازنات الملحقة لعام 2019) والذي عاد واستشهد فيه المجلس في قراره رقم واحد المذكور آنفًآ. ونلحظ هنا أن المجلس الدستوري وسّع نظرته للضمانات الدستوريّة الممنوحة بموجب المادة 20 من الدستور تدريجيًّا وصولًا إلى قراره الأخير رقم 2.
فقد اعتبر المجلس في قراره سنة 2019 أنّ استطلاع رأي مجلس القضاء بمشاريع القوانين والأنظمة المتعلّقة بالقضاء هي “تكريس للضمانة القضائيّة المكتوبة في المادة 20 من الدستور وأيضًا لمبدأ استقلال السلطات الدستوريّة وتعاونها، المنصوص عليه في الفقرة “هـ” من مقدّمة الدستور”. أمّا في القرار رقم واحد المذكور سابقا، فيتبيّن أنّ المجلس الدستوري حصر موضوع استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى في عملية التشريع بتعلّق النصّ “بتنظيم شؤون القضاء والقضاة” واعتبر هذه الاستشارة “تكريسًا لمبدأ استقلاليّة السلطة القضائيّة ذي القيمة الدستوريّة” وبالتالي “يمثّل أحد انعكاسات مبدأ فصل السلطات، المنصوص عليه في الفقرة “هـ” من مقدمة الدستور”، بالإضافة إلى اعتبار هذه الاستشارة بمثابة “صيغة جوهريّة” (مستعيدًا ما قاله في قرار سنة 2019) وبالتالي أنّها “تكرّس إحدى الضمانات القضائيّة المنصوص عليها في المادة 20 من الدستور”. وقد عاد ليوسع في قراره الحالي رقم 2 هذه الضمانة. إذ أشار “إنّه يستفاد من المادة 20، أن ثمة ضمانات يجب حفظها للقضاة والمتقاضين، من أجل تأمين الاستقلال للقضاة وحفظ حقوق المتقاضين، وإنّ التشريع الذي يمسّ بهذه الضمانات يكون مخالفًا للدستور.” وبالتالي، قد وسّع المجلس مفهوم الضمانات الممنوحة بالمادة 20 لتشمل المتقاضين للمرّة الأولى، ونتيجة ذلك، يتبين أن المجلس الدستوري جعل من مجلس القضاء الأعلى سلطة لا تختصّ فقط في تحصين القضاء وحماية الضمانات المتعلقة باستقلاليته لكنه سلطة تعنى بالغاية من استقلالية القضاة وهي حماية حقوق المتقاضين. ومن شأن هذا التوسّع أن يبلور أكثر فأكثر محورية دور مجلس القضاء الأعلى.
ولكن وبمعزلٍ عن أهميّة ما ذهب إليه المجلس الدستوريّ في هذا الخصوص، فإنّه خلص إلى القول بأن قانون تعليق المهل “لا ينتقص من ضمانات استقلاليّة القضاء أو من حقوق المتقاضين فلا يكون بالتالي من عِداد القوانين التي يجب استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى فيها قبل إقرارها”. لكن تقبل هذه الخلاصة الانتقاد، طالما أن من شأن استفادة أيّ طرف في نزاع قضائي من تعليق المهل أن يؤثّر على حقوق خصومه التي تصبح بدورها معلقة إلى حين انتهاء فترة تعليق المهل.
المجلس الدستوري يحصّن النصّ من خلال تفسيره: نموذج جديد عن التحفظ التفسيريّ
اعتبر الطاعنون أن القانون يحمل تناقضًا يستحيل من جرّائه تطبيق النصّ، إذ أنّه يعلّق المهل القضائيّة في المادة الأولى ثم يستثنيها من التّعليق في المادّة الثانية. وفي الواقع، فإنّ نصّ المادّة الأولى من القانون يقول بأن “جميع المهل القانونيّة والعقديّة الممنوحة لأشخاص الحقين العام والخاص بهدف ممارسة الحقوق على أنواعها” تعلّق على أن يستثنى منها فقط “المهل القضائيّة التي يترك القانون للقاضي أن يقدّرها”.
إلا أنّ المجلس الدستوري اعتبر أنّ المشرّع قد أرسى قاعدة عامّة في فقرته الأولى وضمّن المادة الثانية استثناءات “وذلك بصورة واضحة ونافية للغموض خلافًا لما أدلى به المستدعون”. بالإضافة إلى ذلك، ومنعًا لأي التباس في النصّ، قام المجلس بتحصين النصّ من خلال تفسيره، فأوضح أنّ المهل على نوعين، قانونيّة وقضائيّة، فالمهل القانونيّة تحدّد بنصّ القانون ويستحيل على القاضي تعديلها إلّا إذا خوّله القانون ذلك، أمّا المهل القضائيّة “فهي تلك التي يقرر القاضي منحها بحسب تقديره، ويكون له أن يمددها عند الاقتضاء”. ويفهم ممّا تقدّم أنّه في حال حصلت أيّة قوّة قاهرة تمنع المتنازعين أمام القضاء من الالتزام بالمهل القضائيّة الخاضعة لتقدير القاضي، فإنّ تعديلها لا يستوجب سنّ قانون بل يكون للقاضي الصلاحيّة في ملاءمتها مع متطلّبات الظرف الاستثنائي.
وبالتالي، أوضح المجلس أنّ المادة الأولى من القانون تشمل مهل الإجراءات القضائيّة، أي تلك التي يحددها القانون والتي لا تخضع لتقدير القاضي، وهي إجرائيّة بمعنى أنّها “تتناول الإجراءات أمام المحاكم في النزاعات القضائيّة”. وبالتالي، فإن الاستثناء المشمول بالفقرة الأولى من المادة الثانية يكون محصورًا بالمهل التي يترك القانون للقاضي أن يقدّرها، وذلك عملًا بضرورة تفسير النصوص “بطريقة تكمل بعضها بعضًا وتؤدّي إلى إعمالها جميعًا” ونظرًا لأن المادة الأولى قد وضعت قاعدة عامّة وبالتالي يجب إعطاؤها مداها وتفسير الاستثناءات بشكل ضيّق.
المجلس الدستوري يقيّم المفعول الرجعي على ضوء المصلحة العامة
تضمّن قانون تعليق المهل مفعولًا رجعيًّا، إذ نصّ في الفقرة الأولى من مادته الأولى على فترة تعليق تمتدّ من تاريخ 8 تشرين الأول 2023 إلى 31 آذار 2025، أمّا في فقرته الثانية على تعليق يمتدّ من تاريخ 31 آذار 2022 حتى 30 حزيران 2024. وبالنظر إلى مدى جواز هذا المفعول الرجعي، اعتبر المجلس الدستوري أنّ مبدأ عدم رجعيّة النصوص وإن كان يدخل في مصاف المبادئ القانونيّة إلّا أنّه لا يرتقي إلى مصاف المبادئ الدستوريّة إلّا في بعض المواضيع الجزائيّة والضريبيّة. بالمقابل، فإنّ حقّ المشرّع في وضع نصوص تحمل مفاعيل رجعيّة ليس مطلقًا بل خاضعًا لضوابط أهمّها عدم التعرّض “لوضع قانوني مستقرّ يؤمّن حقوقًا مكتسبة وضمانات كرّسها الدستور”، غير أنّ هذا الضابط يمكن تخطّيه في حال كان هناك مصلحة عامّة تقتضي ذلك، فيشير المجلس إلى أنّ “الرجعيّة لا تكون متاحة إلّا إذا كان دافعها الحقيقيّ المصلحة العامّة”. وعليه، يكون المجلس الدستوري قارب المفعول الرجعي لقوانين على هذا النحو:
إما تتصل الرجعية بموضوع جزائي أو ضريبي، وفي هذه الحالة تكون غير دستورية بذاتها.
وإما تتصل بموضوع آخر، وهنا يفترض أن يدقق المجلس الدستوري في المسألة على ضوء ضوابط مبدأيِ التناسب والضرورة وذلك للتثبّت من وجود مصلحة عامة تقتضي المس بأي وضع قانوني أو حقوق مكتسبة.
وفي هذا الإطار، يتبيّن أنّ غياب التكريس الدستوري لمبدأ عدم الرجعيّة دفعت المجلس الدستوري إلى أن يحذو حذو نظيره الفرنسي في حيثيّاته للتوصّل إلى وضع ضوابط تمكّنه من إبطال قانون بسبب مفعوله الرجعي. وقد قام المجلس الدستوري بذلك من خلال وضع حدّ للرجعيّة إذا ما أثّرت سلبًا على “وضع قانوني مستقرّ يؤمّن حقوقًا مكتسبة وضمانات كرّسها الدستور” أو باعتبار أنّ “الرجعيّة لا تكون متاحة إلّا إذا كان دافعها الحقيقي المصلحة العامّة”. وبالتالي يكون المجلس الدستوري اللبناني استعاد اجتهاد المجلس الدستوري الفرنسي الذي اضطرّ لاستنباط هذه المفاهيم ليتمكّن من القيام بالرقابة على القوانين وإبطالها بسبب رجعيّتها[1].
ولئن رأى المجلس الدستوري أن القانون المطعون فيه يدخل ضمن الفئة الثانية، فإنه خلص إلى القول بأن تعليق المهل القضائية في فترة التمديد الممتدّة بين 31 آذار 2022 و30 حزيران 2024 غير مبرر واعتباطيّ. وقد انتهى إلى هذه النتيجة بعد تقييم التناسب بين “التعليق ومقتضياته من جهة، وصون حقوق المواطنين من جهة ثانية”، بمعنى أنه وجد أنّ هذا التناسب غير متحقق ما يجعل من القانون مخالفًا للدستور كونه لا يراعي المصلحة العامة.
بالمقابل، يبدو موقف المجلس بشأن إعلان دستورية تعليق المهل القانونية والعقدية بين 8 تشرين الأول 2023 و31 آذار 2025 أكثر قابلية للنقد وتحديدا من زاوية مدى توفر المصلحة العامة المبررة للرجعية. ويتحصل هذا الأمر من زوايا عدة كانت المفكرة القانونية قد أشارت إليها في تعليقاتها السابقة. فهل فعلا هنالك مبررات تستدعي تعليق المهل منذ 8 تشرين الأول 2023 على نحو يشمل كامل التراب الوطني على الرغم من أن الأعمال الحربية التي امتدّت من أول تلك الفترة حتى أيلول 2024 بقيت محدودةً في أقضية معينة ولم يكن لها أيّ انعكاس على ممارسة الحقوق في الأقضية الأخرى؟ أمر آخر لا بد من التوقف عنده وهو غياب أي تدقيق من المجلس الدستوري في الاستثناءات المعتمدة على تعليق المهل. وكانت المفكرة القانونية قد اعتبرت أنه من الاعتباطي وغير المبرر أن يشمل تعليق المهل الذي يستمدّ وجوده من حفظ الحقوق ما قد يتيح تأبيد المخالفة أو أن يشمل تسديد الضرائب أو مدة العقود الإدارية. وكلها أمور لم يجد المجلس الدستوري أي حاجة للتدقيق فيها.
المجلس الدستوري يكرس صلاحيته الشاملة
انطلق المجلس الدستوريّ من صلاحيّته في وضع يده على القانون برمّته من دون التقيّد بحدود الطعن الذي طال فقط المادّة الأولى من القانون. وعلى هذا الأساس، باشر المجلس البحث في مدى دستورية المادة الخامسة من القانون المطعون به التي تنصّ على أنّ “كلّ حكم مبرم لم يراع فيه تعليق المهل الملحوظة فيه هذا القانون، يكون قابلًا لإعادة المحاكمة من تاريخ نفاذ هذا القانون”. وقد خلص نتيجة ذلك إلى القول بأنّ المفعول الرجعيّ الذي رشحتْ عنه هذه المادّة “يؤدّي إلى إلزام المحاكم بقبول طلبات إعادة المحاكمة بشأن الأحكام المبرمة التي صدرت بتاريخ سابق لتاريخ نفاذ هذا القانون، ما يشكّل تدخّلًا في أعمال المحاكم”. وفي السياق نفسه، اعتبر المجلس الدستوري أنّه عملا بمبدأ فصل السلطات الذي ينبثق عنه مبدأ استقلاليّة القضاء المكرّس في المادة 20 من الدستور، لا يجوز للمشرّع إجراء رقابة على أحكام القضاء “أو أن يوجّه إليه الأوامر أو التّعليمات أو أن يحلّ محلّه في الحكم في النزاعات التي تدخل في اختصاصه”. كما اعتبر عملا بالمبدأ نفسه أنه ليس لأي قانون أو عمل إداري التدخل بعمل القضاء “سواء برفع يده عن قضيّة عالقة أمامه أو إلزامه بإعادة النظر في قضية سبق ونظرها، أو إقرار صلاحياته حيالها، أو إلغاء أحكام قضائيّة مبرمة”، وصولا إلى إبطال المادة المذكورة من القانون.
ورغم أهميّة القرار لجهة ضمان الاستقلاليّة الوظيفية للقضاء كإحدى السلطات الثلاث التي لا يجوز لأيّ من السلطتيْن الأخرييْن التدخّل في نطاق عملها، وأيضا ضمان استقرار الأوضاع القانونية المتمثلة في قوّة القضيّة المقضيّة[2]، فإن التساؤل يبقى مشروعا بشأن مدى تلاؤم هذا الموقف مع تصريحه بإمكانية إعادة النظر في الأوضاع المستقرة ومن ضمنها قوة القضية المقضية بصورة رجعية في حال توفّر مصلحة عامّة.
إذ إنّ سؤالًا يطرح حيث أنّ هذه الحماية لاستقلاليّة القضاء الذي أمّنها المجلس الدستوري بقراره قد تؤدّي بالمقابل إلى ضرب المصلحة العامّة من جديد وإحداث خلل في المساواة بين المتقاضين، بين من صدرت بحقهم أحكام مبرمة بسبب تقدّمهم من المحاكم خارج مهل الطعن (وهي المهل التي شملها التعليق)، وبين من لم يتقدّموا بطعن مماثل من المحاكم ولم يصدر بحقهم أي حكم بالرغم من مرور المهل نفسها، ما يسمح لهم بالاستفادة من مفعول تعليق المهل. فإذا كانت المصلحة العامّة تقتضي إعطاء مفعول رجعيّ لتعليق المهل في فترة العدوان الإسرائيلي، ألا يجب أيضًا أن تُلغى مفاعيل الأحكام المبرمة التي صدرت في فترة العدوان والتي حرمت المتقاضين من ممارسة حقوقهم لأسباب خارجة عن إرادتهم لها علاقة بالحرب الدائرة؟
للاطلاع على الطعن بقانون تعليق المهل
[1] “Le Conseil adopte un nouveau considérant dans lequel il précise que le législateur peut adopter des dispositions fiscales rétroactives à la condition “qu’il ne prive pas de garantie légale des exigences constitutionnelles” et “en considération d’un motif d’intérêt général suffisant”, CC 97-391 DC, 7 novembre 1997, in Droit du contentieux constitutionnel, Rousseau, Gahdoun et Bonnet, 11e édition, LGDJ.
“Si le législateur peut modifier rétroactivement une règle de droit, c’est à la condition de poursuivre un but d’intérêt général suffisant”, CC 2013-685 DC, 29 décembre 2013, cons. 25, op. cit.
[2] 1.2.1 L’achèvement du litige, in Autorité de la chose jugée (Procédure civile), Fiches d’orientation, Dalloz, avril 2024.