أعيد إحياء المجلس الدستوري في أيار 2009، بعد أكثر من ثلاث سنوات من صدور القانون المؤرخ في 9-6-2006 بإنهاء ولاية أعضاء الهيئة السابقين، وبعد أكثر من أربع سنوات من الشلل الفعلي للمجلس تبعاً لإعلان أعضاء الهيئة السابقة المنتهية ولاية غالبيتهم أنهم سيمتنعون عن النظر في أي طعن. وقد حصل ذلك تبعاً لاتفاق الدوحة، وتمهيداً للانتخابات النيابية الحاصلة في 2009 والتي يعود للمجلس الدستوري وحده اختصاص النظر في النزاعات المتصلة بصحة نتائجها. ومع قرب انتهاء عضوية هؤلاء في 2015، بإمكاننا اليوم القول إن هذا المجلس، الذي يختص في النظر في الطعون في دستورية القوانين وفي نتائج الانتخابات النيابية حصراً، اعتمد في معظم محطاته سياسة “الحد الأدنى”، فآثر رد الطعون المقدمة اليه، مهما كانت جديتها، من دون درس مضمونها كلما كان بإمكانه أن يبرر ذلك ومهما كان تبريره ضعيفاً. فبدل أن يجتهد لتجاوز الإشكاليات القانونية التي قد تحول دون نظره في الطعون المقدمة اليه ضماناً لحق التقاضي، تراه أحياناً اجتهد لرد هذه الطعون أو إبطالها بما يشكل أو يكاد يشكل استنكافاً عن إحقاق الحق.
ومن أبرز المحطات الدالّة على موقف المجلس هذا المحطات الآتية:
المحطة الأولى: وقد تمثلت هذه المحطة عند النظر في الطعون التي كانت قد قدمت الى المجلس قبل تعيين أعضاء الهيئة الجديدة. ووفق المنطق المشار اليه أعلاه، أعلن المجلس الدستوري ردالطعون بدستورية عدد من القوانين لعدم بتّها ضدها ضمن المهلة القانونية أي ضمن مهلة الشهر. ولم يول المجلس عند النظر في هذه الطعون أي اهتمام لواقعة الفراغ المؤسساتي الذي تسبب به المجلس النيابي المطعون في قوانينه بدرجة كبيرة. وبذلك، سمح المجلس الدستوري بتمرير عدد من القوانين غير الدستورية، كما أرسى اجتهاداً خطيراً من شأنه تمكين المجلس من صناعة ما شاء من قوانين مخالفة للدستور من دون إمكانية المحاسبة، إذا نجح مجدداً وفي أي ظرف كان في إنقاص عدد أعضاء المجلس الى ما تحت النصاب الواجب توافره للنظر في الطعون. وهو أمر قد يحصل في حال وفاة ثلاثة من أعضاء المجلس من دون تعيين بدائل منهم. أما بالنسبة للمراجعات المتراكمة والمقدمة طعناً بنتائج انتخابات العام 2005، فقد أصدر المجلس الدستوري قرارات بردها بعدما كانت قد انتهت مدة ولاية النواب المطعون بنيابتهم، على أساس أنها أصبحت من دون موضوع[1]. وهذا القرار هو أيضاً قابل للنقد، إذ كان من شأن قبول الطعن بنيابة أي من أعضاء المجلس النيابي أن يوجب عليه رد الرواتب التي حصّلها كاملة وأن يحرمه من التعويضات التي تحدد بناءً على سنوات عضويته. لكن المجلس لم يعر أدنى انتباه لحقوق الخزينة العامة.
المحطة الثانية، وقد تمثلت في تمرير قانون تمديد ولاية أعضاء المجلس الدستوري الصادر في أيار 2013 لعدم اكتمال النصاب الضروري للنظر في الطعن المقدم ضده خلال المهلة القانونية (شهر). فقد تعمد ثلاثة من أعضاء المجلس التغيب عن الجلسات المخصصة للبت بهذا الطعن، بناءً على توجيهات سياسية[2]. وعدا أن هذه الحادثة تشكل صورة كاريكاتورية جد بليغة لمدى تغول السياسة في القضاء (أقله المجلس الدستوري) ولسواد سياسة التدخل فيه، فإنه يفتح علاوة على ذلك الباب لرواج ثقافة التوافقية داخل القضاء. وبهذا المعنى، يظهر عمل هؤلاء بمثابة مؤشر على تطور فهم مغاير لأصول العمل القضائي والوظيفة القضائية، فهم يصهر هذه الوظيفة في بوتقة النظام اللبناني ويسخّرها لخدمته بدل أن تكون ضابطاً أو مطوراً له[3].
أما المحطة الثالثة، فقد تمثلت في قرار المجلس الصادر بأكثرية أعضائه في 13-6-2014بعدم إمكان النظر في الطعنين المقدمين من رئيس الجمهورية ومن عشرة نواب على قانون الإيجارات[4]. وقد علل قراره بأن الطعن تناول النص المنشور في ملحق العدد 20 من الجريدة الرسمية بتاريخ 8-5-2014، أي قبل انقضاء شهر من تاريخ إبلاغه لرئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان والحاصل في 8-4-2014، ما يوجب اعتبار النص المطعون عليه غير نافذ بموجب الفقرة الأخيرة من المادة 57 من الدستور. ومن المعلوم أن رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان لم يوقع القانون ولم يرده، ونكتشف من القرار أن القانون قد نُشر قبل انقضاء شهر من تاريخ إبلاغه القانون اليه. وهذه الواقعة تستدعي أسئلة عدة أبرزها يتصل بمفعوله المباشر لجهة عدم إبطال الطعنين. وفيما من الممكن أن يعود عشرة نواب نظرياً الى الطعن عليه بعد نشره مجدداً في الجريدة الرسمية، إلا أن الطعن الرئاسي سقط بفعل انتهاء ولاية صاحبه وشغور المنصب الحالي. ويخشى هنا أن يتم الضغط على النواب لمنع توقيعهم على طعن ثان، الأمر الذي قد يؤدي الى تمرير القانون بما فيه من عيوب[5]. بقي أن نشير الى مخالفة عضو المجلس أنطوان مسرة والتي ذهبت في اتجاه معاكس تماماً، سواء لجهة صحة النشر أو لجهة نفاذ القانون وإمكانية الطعن فيه. ولعل أهم ما جاء فيها هو التحذير ضمناً من مغبة عدم إحقاق الحق تبعاً لشغور منصب رئاسة الجمهورية.
نشر هذا المقال في العدد | 18 |حزيران/يونيو/ 2014 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.